ثقافة وفن

أناقة العلماء.. أبو حنيفة يرتدي ثوبا بقيمة 5000 دولار ويُعرف برائحة عطره وتركة مالك تتضمن 500 زوج حذاء و100 عمامة

دوّن المؤرخون تراجمَ العلماء ومناقبَهم وأذواقهم؛ فذكروا لنا ما كان يفضله كبار الأئمة والفقهاء من الألبسة والألوان والمآكل والمشارب والأثاث والمراكب، ونقلوا مذاهب العلماء في “الأناقة” واختياراتهم في بيوت السكن الفارهة وشتى المقتنيات المادية، بالدقة نفسها التي ذكروا بها أقوالهم في الدين والفقه والآداب.

وفي الحقيقة؛ فإن ما جاء في آداب اللباس والتأنق والتمتع بعموم الطيبات في الإسلام عند هؤلاء الأئمة لم يخرج عن الروح العام للتشريع الإسلامي، الذي يرجّح أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن الممنوعات استثناء، وهذا ما يلخصه القول المأثور عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس (ت 68هـ/688م) الذي رواه ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) في ‘المصنَّف‘: “كُلْ ما شئتَ والْبَسْ ما شئتَ ما أخطأتْك خصلتان: سَرَفٌ ومَخِيلَةٌ (= خيلاء)”.

وهذا التوجه للأخذ بأسباب التزين والتأنق إنما يعكس عدة حقائق؛ في مقدمتها التوازن الكبير الذي أقامه الإسلام بين المادة والروح، والوقوف على أسباب الحياة والتعامل مع الأنصبة من سعة الرزق وضيقه بمنطق التحدث بالنعم وإظهارها، دون إسراف ولا مباهاة.

وهكذا؛ لم تكن رثاثة الملبس أو إهمال الاعتناء بالشكل والمسكن من الطقوس التي يحبّها الإسلام، وهو الذي دعا إلى الأخذ بالنصيب الدنيوي وفق ما قسَم الله تعالى، بعكس ديانات أخرى. وهو ما نسعى للوقوف على كثير من تفاصيل تطبيقاته المثيرة في هذا المقال، عبر جولة في جوانب من الحياة الخاصة لأئمة المذاهب الفقهية المتبوعة.

اقتداء نبوي
جاء في ‘التفسير الكبير‘ للإمام فخر الدين الرازي (ت 606هـ/1209م) أن الزينة المأمور -في الآية الواحدة والثلاثين من سورة الأعراف- باتخاذها عند المساجد تشمل “جميع أنواع الزينة، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخل تحتها المركوب، ويدخل تحتها أيضا أنواع الحلي؛ لأن كل ذلك زينة. ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبْريسَم (= أجود الحرير) على الرجال لكان ذلك داخلا تحت هذا العموم”.

وقبل أن نتوقف مع “أناقة” أئمة المذاهب الفقهية المتبوعة؛ يحسُن أن نعرّج قليلا على بعض مظاهر تطبيقاتها لدى الصحابة والتابعين؛ فقد كان اهتمام كتاب التراجم بمقتنياتهم الشخصية -وكذلك نظائرها لدى العلماء من بعدهم- فرعا عن اهتمامهم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ومختلف مقتنياته الشريفة من ثياب ومسكن وخواتم وسلاح ونعل وخُفّ ومُكْحُلَة ومرآة؛ ففي الجزء الأول من ‘الطبقات الكبرى‘ لابن سعد (ت 230هـ/845م) نجد تفصيلا وافيا لكل ذلك، وكذلك في كتب السيرة النبوية الأخرى.

ولئن كان غلب على معظم الصحابة الزهد في الدنيا فإنه قد عُرف عن بعضهم اعتناءٌ بالأناقة، وأحصِيت أثواب بعضهم ولا سيما الخلفاء الراشدين. وقد نقل ابن سعد ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ/654م) -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- في لبس الحرير بسبب “شَرًى (= بُثُور جلدية) كان به”، وروى عن الحسن البصري (ت 110هـ/729م) أن المسلمين “كانوا يلبسون الحرير في الحرب”، بالعلة التي أجاز بها الشرع مِشية الخيلاء في الحرب وهي إظهار القوة للأعداء.

وجاء أن سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ/676م) كان يخضب بالسواد ويلبس “الخَزَّ” (= نوع من حرير) ويتختَّم بالذهب، و”كان طلحة بن عُبيد الله (ت 36هـ/657م) يلبس المعصفَرات” أي الثياب المصبوغة بلون نبات العُصْفُر، وقد “قـُتل يومَ الجمل وعليه خاتم من ذهب.. فيه ياقوتة حمراء”؛ وسعد وطلحة كلاهما من العشرة المبشرين بالجنة.

وقد رُئِي على “عمران بن حصين (ت 52هـ/673م) مُطْرَف خَزّ”، والمطرف الرداء المربَّع. ولم يقتصر لباس الخز على أغنياء الصحابة بل رُوي أن أبا هريرة (ت 59هـ/680م) “كان يلبس الخز”؛ كما في ‘الطبقات الكبرى‘.

نهج تابعي
وفي عهد التابعين؛ نجد أن سيدهم سعيد بن المسيِّب (ت 94هـ/714م) -وهو أحد فقهاء المدينة النبوية السبعة الكبار- كان “يلبس ملاءً شرقية”، ويعتمّ “في الفطر والأضحى عمامة سوداء، ويلبس عليها بُرْنُسًا (= غطاء للرأس) أحمر أرجوانا”، كما ارتدى “البرود الغالية البيض” و”الخز”، و”طيلسانا (= رداء للكتفين والرأس) أزراره ديباج”، وكان “لا يُحفي شاربَه جدًّا، يأخذ منه أخذا حسنا”.

وهذا صنوه عروة بن الزبير (ت 94هـ/714م) -وهو أيضا من الفقهاء السبعة- كان مثل سعيد في تخفيف شاربه وعدم إحفائه، و”كان يغتسل كل يوم مرة”، و”يلبس رداء مُعَصْفَراً” و”كساء خز”، وارتدى “الطيلسان المزرَّر بالديباج فيه [صُوَرُ] وجوه الرجال”. ولبس “في الحر قَباءَ (= قفطان) سُنْدُسٍ مبطنا بحرير” و”كان يصلي في قميص ومِلحفة مشتملا بها على القميص”.

ويبدو أن أغلب الفقهاء السبعة كان يرى أن إحفاء الشارب مُثْلَةٌ؛ فهذا القاسم بن محمد بن أبي بكر (ت 107هـ/726م) كان مثل سابقيْه “لا يُحفي شاربه”، ورأوا “عليه جُبّة خز وكساء خز وعمامة خز”، وكانت له “قلنسوة من خز أخضر، ورداء سابري (= رقيق جيد) له عَلَم ملوَّن مصبوغ بشيء من زعفران”، وكان “يخضب رأسه ولحيته بالحناء”.

ومن طريف اعتناء علماء الإسلام -في الصدر الأول- بالأناقة وحثهم عليها أنهم ربطوها بمقتضيات الرقي الإنساني المعبَّر عنه في عصرهم بـ”المروءة”، وقرنوها بزيادة الذكاء وطرد الهموم.

فقد روى ابن مفلح الحنبلي -في ‘الآداب الشرعية‘- عن الصحابي عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م) أنه قال: “من مروءة الرجل نقاءُ ثوبه”. ويرى الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) -فيما يحكيه عنه القاضي عياض (544هـ/1149م) في ‘ترتيب المدارك‘- أن “نقاء الثوب وحسن الهيئة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزءا من النبوة”.

وفي علاقة الأناقة بزيادة الذكاء والراحة النفسية؛ يروي إسماعيل المُزَني (ت 264هـ/878م) أنه سمع شيخه الإمام “الشافعي (ت 204هـ/819م) يقول من نظّف ثوبه قلّ همُّه، ومن طاب ريحه زاد عقله”؛ حسبما يحكيه عنه ابن الجوزي في ‘صفة الصفوة‘.

ويقاوم الإمام مالك -كما ورد عند عياض في ‘ترتيب المدارك‘- دعوات الزهد المظهري فيعلن أن “التواضع في التقى والدين وليس في اللباس”، بل رُوي عنه اعتبار الأناقة علما، فقد قال أبو قرة سمعت مالكاً يقول: “تعلموا من العلم حتى لبس النعل”!

تأريخ للموضة
من لطيف اهتمام مؤرخي الإسلام بالأناقة أنهم رصدوا بدقة تواريخ بدء استعمال بعض الأزياء وأول من سنّ “موضتها” في الجزيرة العربية والأمصار الإسلامية.

فابن قتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/889م) يذكر -في ‘المعارف‘- أن “أول من لبس طيلسانا بالمدينة جبير بن مطعم (ت 59هـ/680م)، وأوّل من لبس الخِفَاف الساذجة (= غير ملونة ولا مزينة) بالبصرة وثياب الكتان زياد بن أبي سفيان (ت 53هـ/674م)، وأوّل من لبس الخَزَّ.. من العرب عبد الله بن عامر (ت 57هـ/678م)، وأوّل من لبس الدّراريع السُّود المختار بن أبي عبيد” الثقفي (ت 67هـ/687م).

ومِن رصْدهم لبدء تاريخ ارتداء بعض الأثواب قول الإمام السيوطي (ت 911هـ/1506م) -في ‘الحاوي للفتاوي‘- معلقا على قِصَرِ قلنسوة الصحابي أنس بن مالك (ت 93هـ/714م): “وإنما حدثت القلانس الطوال في أيام الخليفة المنصور في سنة ثلاث وخمسين ومئة أو نحوها. وفي ذلك يقول الشاعر:
وكنا نرجِّي من إمام زيادةً ** فزاد الإمامُ المصطفى في القلانس”!!

كما نقل لنا ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- ضمن أوّليّات القاضي أبي يوسف (ت 180هـ/793م) أنه “أول من دُعي بـ‘قاضي القضاة‘، ويقال إنه أول من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئاً واحداً، لا يتميز أحد عن أحد بلباسه”.

وكان هذا اللباس -الذي صار زيًّا رسميا للعلماء منذ أيام أبي يوسف- يتكون من طيلسان ومُبَطَّنة (= ثوب مغلف من داخله)، بدليل القصة الطريفة التي رواها أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) في ‘الأغاني‘؛ قال: “كان إسحق الموصليّ (ت 235هـ/849م) يدخل في مبطّنة وطيلسان مثل زيّ الفقهاء على المأمون؛ فسأله أن يأذن له في دخول المقصورة (= مكان بمقدمة المسجد مخصص للخليفة وحاشيته) يوم الجمعة بدرّاعة سوداء وطيلسان أسود؛ فتبسّم المأمون وقال له: ولا كلّ هذا بمرّة يا إسحق! ولكن قد اشترينا منك هذه المسألة (= الطلب) بمئة ألف درهم حتى لا تغتمّ، وأمر بحملها إليه فحُمِلت”.

وعلينا ألا نستغرب لبس الموصلي لزي الفقهاء؛ فقد وصفه الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بأنه “الإمام العلامة الحافظ.. صاحب الموسيقى”.

وقد استحسن السيوطي -في ‘الحاوي‘ أثناء نقاشه لجواز تخصيص الأشراف بالعمامة الخضراء- استدلالَ بعض العلماء بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} على “تخصيص أهل العلم بلباس يختصون به من تطويل الأكمام وإدارة الطيلسان ونحو ذلك؛ ليُعرَفوا فيُجَلّوا تكريما للعلم، وهذا وجه حسن”.

ويرى نجم الدين الغزي (ت 1061هـ/1651م) -في ‘حسن التنبُّه لما ورد في التشبه‘- أن من أمارات حمق المرء خروجه “كل ساعة في طور غير الطور المتقدم من حيث الأخلاق، أو من حيث الحركة، أو من حيث الزي؛ فتارة يلبس لباس الأجناد، وتارة لباس الفتيان (= جماعات الفتوة)، وتارة لباس الفقهاء، وتارة يتكلم بالشيء ويناقضه في المجلس، ويقوم ويقعد في المجلس كثيراً، ويخرج منه ويعود كثيراً، إلى غير ذلك من الاختلافات والتطورات”.

مجاراة ذوقية
لم تتطرق التراجم السنية والشيعية -في حدود بحثنا واطلاعنا- لما يتعلق بأناقة وملابس الإمام زيد بن علي زين العابدين (ت 122هـ/741م)؛ حتى إن أبا القاسم عبد العزيز بن إسحق البغدادي (ت 363هـ/975م) لم يتطرق لذلك في كتابه ‘مختصر مناقب الإمام زيد‘، وإنما اقتصر على ذكر صفاته، وركز على جهاده وزهده وورعه.

وجاء في مختصره من صفته أنه كان “مُبدَّنا وسيما جسيما، وكان من أجمل بني هاشم جمالا، وأعظمهم نبلا وكمالا، وأفصحهم لسانا، وأوضحهم بيانا، وأثبتهم جنانا، وأشدهم أركانا، واسع العلم، عظيم الحلم، تجاوز أهل عصره في الزهد والسماحة بالرقة، ولا يمنّ بجوده، ولا يخلف وعده”.

وفي ‘الطبقات الكبرى‘ لابن سعد أن الإمام زيدا حين غاضب بني أمية “خرج من عند هشام وهو يأخذ شاربه بيده ويفتله ويقول: ما أحب الحياة أحد قطّ إلا ذلّ”! وفتـْـلُ الشارب يدل على أنه كان على مذهب أهل المدينة في عدم جواز استئصاله، وهذه الخرجة هي التي استُشهد فيها وصُلب، ولم يطل عمره فقد عاش اثنين وأربعين عاما، ولم يكن حينها تبلور مذهبه ولا كثر أتباعه، ولعل ذلك هو السبب في عدم حفظ كثير من مناقبه وملابسه ومقتنياته.

أما الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ/766م) فقد نقلت لنا المراجع السنية والجعفرية نُتَفًا تتعلق بأناقته وآرائه فيها؛ فقد أورد أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) -في ‘حلية الأولياء‘- عن سفيان الثوري (ت 161هـ/778م) -وكان من أئمة المذاهب الفقهية المندثرة– أنه قال: “دخلت على جعفر بن محمد (= جعفر الصادق) وعليه جبة خز دكناء، وكساء خز إيرجاني، فجعلتُ أنظر إليه معجَباً، فقال لي: يا ثوري ما لك تنظر إلينا؟ لعلك تَعْجب مما رأيتَ؟

قال: قلت: يا ابن [بنت] رسول الله ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك! فقال لي: يا ثوري، كان ذلك زمانا مُقْفِراً مُقْتِراً، وكانوا يعملون على قدر إقفاره وإقتاره، وهذا زمان قد أقبلَ كلُّ شيءٍ فيه عِزٌّ إليه، ثم حسر عن ردن جبته، وإذا تحتها جبة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل، والردن عن الردن، فقال لي: يا ثوري لبسنا هذا لله، وهذا لكم، فما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه”!

وجاء في ’الكافي’ للكُلَيني (ت 329هـ/941م) أن جعفر الصادق قال لعُبيد بن زياد: “إظهار النعمة أحب إلى الله من صيانتها، فإياك أن تتزين إلا في أحسن زي قومك، قال: فما رُئِي عُبيد إلا في أحسن زي قومه حتى مات”. وفيه -بعد أن ذكر ما كان الإمام علي يعتاد لباسه- أنه لبس يوما لباسا غيره، ثم قال: “هذا اللباس الذي ينبغي أن تلبسوه، ولكن لا نقدر أن نلبس هذا اليوم، لو فعلنا لقالوا: مجنون! أو لقالوا: مُراءٍ! فإذا قام قائمنا كان هذا اللباس”.

إمام عطِرُ
كان لأخبار أناقة الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ/768م) حضور مطَّرد في جُلّ الكتب التي سجلت مناقبه؛ فتارة جعلته تحت عنوان: “هَيْئَة أبي حنيفة وصفته وحسن زيه”، كما عند أبي عبد الله الصَّيْمَري (ت 436هـ/1045م) في ‘أخبار أبي حنيفة وأصحابه‘؛ أو في “ملبسه” فقط حسب اختيار ابن حجر الهيتمي الشافعي (ت 974هـ/1566م) مؤلف كتاب ‘الخيرات الحسان في مناقب أبي حنيفة النعمان‘.

لفت انتباهَ مدوني حياة الإمام أبي حنيفة وناقلي أخبار أناقته اهتمامُه الكبير بالعطور وشهرته بذلك؛ فهو حسب الصيمري “كثير التعطر، يُعرَف برِيح الطّيب إِذا أقبل وَإِذا خرج من منزله قبل أَن ترَاهُ” عيون الناس. كما لفت انتباههم كثرة تعهده لنفسه حتى إنه كان “يتعهد شِسْعَه حتى لا يُرَى منقطِعَ الشِّسْع”؛ حسب صاحب ‘الخيرات الحسان‘.

وبسبب التعهد المستمر لنفسه وملبسه ومظهره؛ لاحظ جميع من نقل صفته أنه “كان حَسَن الوجه والثوب والنعل والبِرّ والمواساة لكل من أطاف به”. وفي رواية أخرى -عند الصيمري- أجملت وصفه أنه “كان لبَّاساً حسن الهيئة”، وثالثة أنه كان “جميل الوجه، سَرِي الثوب”، أي حسن الثياب نظيفها.

كما نقلوا احترامه للآداب الاجتماعية المتعلقة بالملابس والمجالس في تفاصيل حياته اليومية، فكان حسبما يرويه الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في ‘تاريخ بغداد‘ “يُتبيَّنُ عقلُه في: منطقه ومِشيته ومدخله ومخرجه”. كما كان للأناقة حضورها البارز في عبادته حتى وهو في خلوات الظلمات، فـ”كان إذا أراد أن يصلي من الليل تزيّن حتى [إنه] يسرح لحيته”.

ومن طريف اهتمام تلاميذ الإمام الأعظم بنقل تفاصيل أناقته إخبارُهم عن عدد ملابسه وأسعارها؛ فقد نقل ابن البزاز الكردري (ت 827هـ/1424م) -في ‘مناقب الإمام الأعظم‘- عن تلميذ أبي حنيفة القاضي أبي مطيع البلخي (ت 199هـ/815م) أنه قال: “رأيتُ عليه (= أبو حنيفة) يوم الجمعة قميصا ورداء قوّمتُهما بأربعة مئةٍ دراهمَ”، أي ما يعادل اليوم خمسمئة دولار أميركي تقريبا.

وكأن ابن البزاز -وهو الفقيه الحنفي- خشي أن يظن معاصروه -الذين غلب عليهم التصوف- بإمامه الترفَ والسرفَ؛ فعلّق على قول أبي مطيع: “اعلم أن بعض المتقشفة اختاروا البذاذة (= الرثاثة) في اللباس، وأنه مخالف للنص قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ}”.

وفي قصة طريفة تنقل لنا أجواء ذلك العصر وعلاقة علمائه فيما بينهم؛ يقول النضر بن محمد (ت 183هـ/899م) وكان صديقا لأبي حنيفة: “قال لي [أبو حنيفة] وقد أراد الركوب: أعطني كساءك وخذ كسائي، ففعلت؛ فلما رجع قال لي: أخجلتني بغلظ كسائك! وكان بخمسة دنانير، ثم رأيت عليه كساء قوّمته بثلاثين دينارا (= خمسة آلاف دولار أميركي تقريبا)، وقُوّم رداؤه وقميصه بأربعمئة درهم..، وكان له.. سبع قلانِس”؛ كما في ‘الخيرات الحسان‘.

تربية جمالية
ولم يقتصر أبو حنيفة في مجالسه العلمية على بثّ مباحث الفقه وإنضاج الملكات الإفتائية، بل كان يهتم أيضا بمظاهر طلابه وأناقتهم، وينهاهم عن التقشف.

قال الحسن بن زياد (ت 204هـ/819م) فيما يرويه الخطيب في ‘تاريخ بغداد‘: “رأى أبو حنيفة على بعض جلسائه ثيابا رَثَّة، فأمره فجلس حتى تفرق الناس وبقي وحده، فقال له: ارفع المصلى (= السجادة) وخذ ما تحته، فرفع الرجل المصلى فكان تحته ألف درهم، فقال له: خذ هذه الدراهم فغيّر بها من حالك، فقال الرجل: إني موسر وأنا في نعمة ولست أحتاج إليها! فقال له: أما بلغك الحديث: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»؟! فينبغي لك أن تغير حالك حتى لا يغتمّ بك صديقك”!!

وإن تساءلنا عن سبب اهتمام أبي حنيفة بأناقته وسرّ خبرته بمراتب الثياب وأسعارها؛ فسنجد الإجابة عند ابن البزاز بأنه “تواتر أنه.. كان يتّجِرُ في الخَزّ مسعودا (= محظوظا) ماهرا فيه، وله دكان في الكوفة، وشركاء يسافرون له في شراء ذلك، ويبيعه مستغنيا بنفسه لا يميل إلى طمع”.

ويذكر لنا الخطيب البغدادي مكان دكان أبي حنيفة هذا فيقول إنه “معروف في دار عمرو بن حريث” المخزومي (ت 85هـ/705م) الذي يعدّ من صغار الصحابة، وداره هذه كانت أشهر دار بالكوفة. وقد حدّد الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- بدقة موقع هذه الدار فقال إنها كانت “إلى جانب القصر (= قصر الوالي) وسط السوق”، وكان فيها دكاكين التجار.

ويبدو أن دكان أبي حنيفة هذا كان عنوان شركة كبرى لتوزيع الخَزّ؛ والدليل على ذلك وجود الشركاء المذكورين، والثراء الذي اشتهر به الإمام الأعظم، والخبرة المالية التي انتشرت عنه في الآفاق؛ حتى أراد أمير الأمويين على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة (ت 132هـ/751م) أن يوّلّيَه “على بيت المال فأبى فضربه أسواطا”، حسبما في ‘تاريخ بغداد‘؛ كما وُجد عنده يومَ وفاته “ودائع بخمسين ألفا ما ضاع منها ولا درهم واحد”.

استغنى أبو حنيفة بأرباح تجارته الرائجة، وحجزته قناعته الثابتة عن أموال الأمراء والحكام “فما قبِل لأحد منهم جائزة ولا هدية”؛ وفقا لصاحب ‘الخيرات الحسان‘. بل إنه كان يحتال لرفض الجوائز والهدايا.

فقد رُوي “أن أبا جعفر المنصور (ت 158هـ/776م) أجاز أبا حنيفة بثلاثين ألف درهم (= 37000 دولار أميركي تقريبا) في دفعات، فقال: يا أمير المؤمنين، إني ببغداد غريب وليس لها عندي موضع، فأجعلها [وديعةً] في بيت المال، فأجابه المنصور إلى ذلك؛ قال: فلما مات أبو حنيفة أخرِجت ودائع الناس من بيته، فقال المنصور: خدعنا أبو حنيفة”!!

وكان لأبي حنيفة فلسفة نبيلة في كسب المال وإنفاقه على المحتاجين من زملائه العلماء؛ فقد جاء -في ‘تاريخ بغداد‘- أنه “كان يبعث بالبضائع إلى بغداد فيشتري بها الأمتعة ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدِّثين وأقواتهم وكسوتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حول لغيره”.

وقد رُويت عدة قصص عن رُقِي تعامله مع زبائنه وتطبيقه لمبدأ السماحة الإسلامي في البيع والشراء، فمن نبله التجاري أنه كان يقول: “وما كنت لأربح على صديق”! ولم يهمل المترجمون ذكر منزل أبي حنيفة وأثاثه ومعاشه وعبادته؛ فقد قال الذهبي ‘تاريخ الإسلام‘: “وله دار وصُنّاع (أو ضِياع = مزارع) ومعاش متّسِع”.

أناقة مؤصلة
تناول مترجمو إمام المدينة أخبار أناقته تحت عناوين مختلفة؛ منها عند الإمام عياض في ‘ترتيب المدارك‘: “باب في ملبسه وطيبه وحليته ومسكنه ومطعمه ومشربه”، وعند ابن المِبْرَد الحنبلي (ت 909هـ/1503م) في كتابه ‘إرشاد السالك إلى مناقب الإمام مالك‘: “الباب الخامس والثلاثون في صفته وهيئته وتجمله”.

وفي طي تلك الفصول؛ اهتمَّ الآخذون عن مالك وزواره -من مختلف الأمصار- كثيرا بوصف أناقته وملابسه وطيبه، ومتاع بيته، ورأيه وذوقه في مختلف الألبسة وألوانها، مما يوحي بتبريزه في ذلك. فقد نقلوا أنه كان “جميل الوجه، نقي الثوب رقيقه، يكره أخلاق اللباس”، أي البالية منها. وكانت ثيابه في غاية النظافة فما رأى أحدهم “في ثوب مالك حِبراً قَطّ”، رغم أن طلابه يعدّون بالمئات.

وروَوْا أنه كان “لا يلبس الخز ولا يرى لبسه، ويلبس البياض” من الألون، ولعل ترك مالك للباس الخز راجع لاتباعه الشديد لفتاوي عبد الله بن عمر الذي كان “لا يلبس الخز، وكان يراه على بعض ولده فلا ينكره”. وحسب عياض؛ فإن من الملابس التي رُئيت عليه “الثياب العدنية الجياد والخراسانية والمصرية المرتفعة (= الثمينة)”، وكان يرتدي “طيلساناً طرازياً وقلنسوة”.

ومن مظاهر أناقة مالك التي سجلها مترجمو سيرته أنه كان “يُكثر اختلاف اللبوس”؛ فكان “يغيّر ثيابه يوم الجمعة حتى نعله”؛ كما في ‘إرشاد السالك‘. ولاحظوا أن العمامة من لوازم أناقته فكان “إذا أصبح لبس ثيابه وتعمّم، ولا يراه أحد من أهله ولا أصدقائه إلا متعمماً لابساً ثيابه”، ونقل لنا تلمذيه أشهب (ت 204هـ/819م) صفة لبسه عمامته فقال إنه كان “إذا اعتمّ جعل منها تحت ذقنه، ويسدل طرفها بين كتفيه”.

وقد نقل لنا تلميذه بشر الحافي (ت 227هـ/842م) ثمنا لأحد أثوابه؛ فقال: “دخلت على مالك فرأيت عليه طليساناً يساوي خمسمئة [درهم]، قد وقع جناحاه على عينيه أشبهَ شيء بالملوك”! وكان يؤثر البياض و”يقول: أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب”.

عناية منزلية
ويفيدنا الإمام مالك بتاريخ لبس العلماء هذه الثياب وأول من لبسها منهم، فيقول: “ما أدركت أحداً [من العلماء] يلبس هذه الثياب الرقاق، إنما كانوا يلبسون الصِّفاق (= الغليظة) إلا ربيعة (= شيخه ربيعة الرأي المتوفى 136هـ/754م) فإنه كان يلبس مثل هذا؛ وأشار إلى قميص عليه عدني رقيق”.

ومن التفاصيل الدقيقة التي أتحفنا بها أصحاب مالك موقفه الرافض للكحل، وأنه كان “إذا اكتحل لضرورة جلس في بيته وكان يكرهه إلا لعلة”. أما العطر؛ فذكروا أنه كان “يستعمل الطِّيب الجيد: المسك وغيره”.

كما نقلوا لنا خبر خاتمه ونقشه؛ فخاتم مالك “الذي مات وهو في يده فَصُّه حجرٌ أسود نقشه سطران فيهما: {حسبنا الله ونعم الوكيل}، بكتاب جليل، وكان يحبسه في يساره وربما خرج علينا وهو في يمنيه، لا نشك أنه إذا توضأ حوَّله في يمينه”.

وقد سأل مُطَرِّفُ بن عبد الله الهلالي (ت 220هـ/835م) شيخَه وخالَه مالكا عن سبب اختياره لنقش خاتمه؛ فأجابه: “سمعت الله يقول: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}، قال مطرف: فحوّلت خاتمي وصيرته كذلك”.

ولمثل هذا التأصيل القرآن حضور كبير في تفاصيل اختيارات مالك في هيئته وأحواله المعيشية، كما نجد في خبره عن الآية المكتوبة على باب بيته، فقد “كان على باب مالك مكتوب”: {ما شاء الله}! فقيل له في ذلك، فقال: قال الله: {ولولا إذْ دخلتَ جنتَكَ قلتَ ما شاء اللهُ} الآية، والجنة: الدار”.

ومن غريب أمر دار الإمام مالك أنها لم تكن ملكا له؛ فقد أخبرنا تلميذ تلامذته أحمد بن صالح المصري (ت 248هـ/862م) أن مالكا “لم يكن له منزل، وكان يسكن بكراء إلى أن مات، وسأله [الخليفة] المهدي (ت 169هـ/785م): ألك دار؟ فقال: لا”. وكان بيت مالك المؤجر في الأصل بيتَ الصحابي عبد الله بن مسعود (ت 32هـ/654م) رضي الله عنه.

ويؤصل مالك أهمية العناية بالمنزل والاهتمام به بما قال له شيخه ربيعة الرأي من أن “نسب المرء داره”، ولذلك نُقلت لنا تفاصيل أثاثه الفخم؛ فابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ/1071م) ينقل -في ‘الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء‘- عن الواقدي (ت 207هـ/822م) ما كان يحتوي عليه بيت مالك من “ضِجاعٍ (= متَّكَآت) ونمارق مطروحة يمْنةً ويسْرةً في سائر البيت لمن يأتيه من قريش والأنصار ووجوه الناس (= وجهاؤهم)”.

كما كان في “بيته وسائد وأصحابه عليها قعود”، وقد سأله تلميذه خالد بن خداش المهلبي (ت 223هـ/838م) عن هذه الوسائد والأثاث: هل رأى الناس تستعمل ذلك قبله أو إنه شيء أحدثه هو؟ فأجابه مالك: “رأيت الناس عليه”.

هندام مرتب
ولم يُهمل أصحاب مالك حفظ صورة شيخهم وعنايته بشعره؛ فقالوا إنه “كان طويلا جسيماً عظيم الهامة، أبيض الرأس واللحية، شديد البياض إلى الصفرة، أعْيَن (= واسع العينين) حسن الصورة أصلع أشمّ (= قائم الأنف)، عظيم اللحية تامّها تبلغ صدره ذات سعة وطول، وكان يأخذ إطار شاربه ولا يحلقه ولا يُحفيه ويرى حلقه من المُثْلة، وكان يترك له سَبَلَتَيْن ويحتجّ [لهما] بفتلة عمر لشاربه إذا همّه الأمرُ”.

ورغم أن أصحاب مالك رووا أنه “ما رآه أحد قط أكل أو شرب حيث يراه الناس، ولا يضحك، ولا يتكلم فيما لا يعنيه”؛ فإنهم نقلوا لنا بعض الأطعمة التي كان يفضلها، فـ”كان في كل يوم لحمه درهمان، وكان يأمر خبّازه (= طبّاخه) سَلَمَة في كل يوم جمعة أن يعمل له ولعياله طعاماً كثيراً”؛ كما يرويه عياض في ‘ترتيب المدارك‘.

وقال تلميذه مطرف: “لو لم يجد مالك كل يوم درهمين يبتاع بهما لحماً إلا أن يبيع في ذلك متاعه لفعل، كانت وظيفته في لحمه”، وكان “فطره خبزا وزيتا” تعده أخته المقيمة معه في بيته.

أما عن شرابه وفاكهته المفضلة؛ فكانت تحلية شرابه “في الصيف السكر وفي الشتاء العسل”، وكان “يعجبه الموز ويقول: لم يمسّه ذباب ولا يد…، ولا شيء أشبه بثمر الجنة منه: لا نطلبه في شتاء ولا صيف إلا ووجدته”! وهنا يحضر القرآن فيستدل الإمام على فضل الموز المتوفر في كل الفصول بقول الله تعالى: {أُكْلُها دائِمٌ وظِلُّها}.

وثمة رواية تتعلق بمركوب الإمام مالك وهيئة دخوله لمنزله نقلها طلق بن السمح اللخمي (ت 211هـ/826م) فقال: “رأيت مالكاً على بغلة سَرِيّة، بسرج سَرِيّ عليها، وعليه ثياب سَرِيّة، وغلام يمشي خلفه حتى إذا أتى باب داره فدخل راكباً إلى موضع معرسه (= موقفه) فنزل وقعد، فأخذ الغلام منديلاً فمسح خفه ونزعه”. وقد أنكر القاضي عياض -في ‘ترتيب المدارك‘- هذه القصة لمخالفتها ما ثبت من ترك مالك الركوب “بالمدينة إكراماً لتربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون”.

ولعل التركة التي خلّفها إمام المدينة تنبئنا عن مجمل مقتنياته وطبيعتها، وكانت في معظمها من هدايا الأمراء والتجار والأثرياء من إخوانه العلماء؛ فقد رحل “عن مئة عمامة فضلا عن سواها”، وكان “جميع ما في منزله -يوم مات رحمه الله تعالى- من منصات (= الكراسي) وبرادع وبُسُط ومَخادِدَ (= جمع مـِخدة) محشوّة بريش وغير ذلك، ينيف على خمسمئة دينار”.

ولعلنا لا نستغرب عدد العمائم -وهي محورية في أناقة مالك- إذا علمنا أنه ترك وراءه عند وفاته “خمسمئة زوج من النعل”! وفقا لرواية عياض، على ما قد توحي به الرواية من مبالغة في العدد!

ذوق شافعي
رغم ما صُنف في مناقب الإمام الشافعي من كُتُب ناهزت الأربعين، وما ختم به الخطيب البغدادي ترجمته له -في ‘تاريخ بغداد‘- حين قال: “لو استوفينا مناقب الشافعي وأخباره لاشتملت على عدة من الأجزاء”، واعدا باستيفائها في كتاب مستقل لم تصله أيدينا بعدُ؛ فإن كتب مناقبه الموجودة لم تُطنب في ذكر تفاصيل أناقته، ولعل لقصر عمر الشافعي دورا في ضمور هذا الجانب من حياته، عكس مالك وأبي حنيفة اللذين طالت حياتهما بما يكفي لينعما بحياة ثرية ومرصودة التفاصيل.

وقد نقلوا من صفاته الشخصية أنه كان “رجلا طُوَالاً (= طويلا) حسن الخلق محبَّبا إلى الناس، نظيف الثياب فصيح اللسان شديد المهابة، كثير الإحسان إلى الخلق”. وحين سُئل تلميذه الربيع المرادي (ت 270هـ/883م) عن لباس الشافعي؛ قال: “كان لباسه مقتصداً، ليس يلبس الثياب الرفيعة: يلبس الكتان والقطن البغدادي، وربما لبس قَلَنْسُوةَ ليسـ[ـت] بمُشْرِفة (= طويلة) جدا، وكان يلبس كثيراً العمامةَ والخُفّ”.

وعن علاقته بالطيب والعطر؛ روى الإمام البيهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘مناقب الشافعي‘- عن حفيده “قال: سمعت أمي تقول: كان أبي لا يتطيّب بالماوَرْد لموضع نكهته، وقال: إنه يشبه المُسْكِر”.

وجاء في ’ترتيب المدارك’ لعياض “أن الشافعي كان عطِّيراً، وكان غلامه يأتيه كل يوم بغالية (= نوع من الطيب) يمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها” لتدريس طلابه بمسجد عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م) في مصر. واحتفظوا لنا بنقش خاتمه الذي كان نَصّه: “اللهُ ثقةُ محمد بن إدريس”؛ حسبما ما جاء في ‘آداب الشافعي ومناقبه‘ لابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ/939م).

وبشأن اختيارات الشافعي المتعلقة بـثقافة المائدة وذوقه في الطعام؛ يتحفنا القاضي عياض -في ’ترتيب المدارك’- بهذه القصة التي جمعت بين الطرافة وعمق الدلالة في “حداثة” ذلك العصر، حتى في أمر تفصيلي كنا نحسبه من محدثات عصرنا كعادة إعداد “قوائم الطعام” مثلا، أو ربما تخصيص كل يوم في الأسبوع بوصفة طبخ معينة!

تقول هذه القصة: “لما قدم الشافعي على [أبي علي] الزعفراني (كان أوثق طلابه بالعراق وتوفي 260هـ/874م) نزل عليه، فكان الزعفراني يكتب للجارية بما يصلح من الألوان (= الوجبات) كل يوم لطعامه. فدعا الشافعي يوماً الجارية ونظر في الكتاب فزاد بخطه لوناً اشتهاه، فلما حضر الطعام أنكر الزعفراني اللون الذي لم يأمر به فسأل الجارية، فأخبرته. فلما نظر في الرقعة (= قائمة الطعام) ووجده بخط الشافعي أعتق الجارية فرحاً بذلك”!

سخاء غامر
لم يكن الشافعي من وسط تجاري كسابقيْه الإمامين أبي حنيفة ومالك، بل عاش يتيما وخَبَر الفقر حتى ألفه، وكان يقول: “أَنِسْتُ بالفقر حتى صرتُ لا أستوحش منه”، وفي رواية: “ما فزعت من الفقر قَطُّ، ولقد مّر بي بُرْهةٌ من دهري آكل الرَّخْف (= العجين) وأشرب عليها الماء”، و”كان يرى أن طلبَ فُضول الدنيا عقوبةٌ عاقب الله بها أهل التوحيد”؛ كما يروي عنه البيهقي.

وحين قال له عبد الله بن عبد الحكم (ت 214هـ/829م): “إن عزمت أن تسكن البلد -يعني مصر- فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تَتَعَزَّزُ به”؛ أجابه قائلا: “يا أبا محمد، من لم تُعِزَّه التقوى فلا عِزَّ له، ولقد وُلدت بغزة ورُبِّيت بالحجاز وما عندنا قوت ليلة، وما بتنا جياعاً”. ولخص الشافعي لطلابه تجربته مع الفقر وضيق ذات اليد؛ فقال: “لا يستوحش أحدكم من الإفلاس؛ فإني قد أفلست ثلاث مرات ثم أَيْسَرْتُ”!

لم يطل يسار الشافعي الذي أعقب إفلاسه؛ فقد حدّث تلميذُه أبو ثور (ت 246هـ/860م) أن الشافعي أراد “الرجوع إلى مكة ومعه مال، قال: فقلت له وكان قلَّما يُمسك شيئا من سماحته: ينبغي أن تشتري بهذا المال ضَيعة تكون لك ولولدك من بعدك، قال: فخرج ثم قدم علينا فسأَلته عن ذلك المال، فقال: ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها لمعرفتي بأصلها؛ أكثرها قد وُقِفتْ، ولكن قد بنيت بمنًى مَضْرباً (= مسكنا) يكون لأصحابنا إذا حجّوا ينزلون فيه”.

ولشهرة كرم الشافعي المفرط اهتمت به كتب مناقبه اهتماما كبيرا؛ ومن صوره المعبرة أن هذا الإمام خرج “إلى اليمن مع بعض الولاة، ثم انصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم (= 12000 دولار أميركي تقريبا)، فضرب خباءً في موضع خارج من مكة فكان الناس يأتونه، فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها”؛ كما يقول ابن عبد البر في ‘الانتقاء‘.

بساطة أنيقة
لم تكن أناقة الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) بعيدة من أناقة شيخه الشافعي؛ فعلى كليهما غلب الزهد وانتميا إلى أسرتين فقيرتين، ولذا نجد ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) يقول في كتابه ‘مناقب الإمام أحمد‘: “كانت ثياب أحمد بن حنبل بين الثوبين، تساوي ملحفته خمسة عشر درهمًا، وكان ثوب قميصه يؤخذ بالدينار ونحوه، لم تكن له رقّة تُنكر؛ ولا غِلَظٌ يُنكر، وكانت ملحفته مهدّبة”. وينقل لنا أن أحمد “لم يكن لباسه بذاك؛ إلا أنه قطن نظيف، وكان بأَخَرَة في لباسه أجودَ لما كان يستعين بالغلة لما استغنى ولده عنها”.

وكون لباس الإمام أحمد لم يكن متصفا بالجودة العالية؛ لم يمنع ابن الجوزي من تقصي ذكر كل ما رُئي عليه من ملابس في مختلف الفصول، فقد كان يلبس “في الشتاء قميصين وجُبة ملونة بينهما؛ وربما لبس قميصًا وفَرْوًا ثقيلًا”، أو “عمامةً فوق القلنسوة وكساءً ثقيلًا”. وكان أصحابه يعجبون من لباسه، حتى قال له مرة جارُه المحدِّث أبو عمران الوَرَكاني (ت 228هـ/843م): “ما هذا اللباس كله؟ فضحك [أحمد] ثم قال: يا أبا عمران، أنا رقيقٌ في البرد”!

وفي فصل الصيف رأوا عليه “قميصًا وسراويل ورداءً، وربما لبس قميصًا ورداءً، واتّـشح بالرداء، وكان كثيرًا ما يتّـشح فوق القميص”، وما رُئي عليه “طيلسان قطّ، ولا رداء، وإنما هو إزار صغير”. وأطنب ابن الجوزي في الاستدلال على زهد الإمام أحمد بلبسه الثياب المرقَّعات، وعدم رؤيته مرخيّ الكُمّيْن، وروى عن حفيده زهير بن صالح (ت 303هـ/915م) أن أباه رأى جدّه أحمد يلبس “قلنسوة وقد خاطها بيده فيها قطن، فإذا قام بالليل لبسها”.

ويورد -في رواية أخرى- قول تلميذه المخلص -الذي لازمه أكثر من عشرين سنة- عبد الملك الميموني (ت 274هـ/887م): “ما أعلم أني رأيتُ أحداً أنظفَ ثوباً ولا أشدَّ تَعاهداً لنفسه في شاربه وشَعر رأسه وشَعر بدنه، ولا أنقى ثَوباً وشِدةَ بياضِ، من أحمد بن حنبل”. وعند الذهبي -في السِّيَر- أنه إذا رأيتَ أحمد “تعلَم أنه لا يُظهر النُّسُكَ، رأيت عليه نعلا لا يشبه نعال القُرّاء (= العلماء)..، ورأيت عليه إزارا وجبّة برد مخططة”.

وثمة روايات أخرى تنقل لنا جانبا من المكانة الكبيرة التي اكتسبها الإمام أحمد ببساطته هذه حتى عند غير المسلمين من أهل الكتاب؛ يقول ابن الجوزي: “قال المروذي: رأيت طبيبا نصرانيا خرج من عند أحمد ومعه راهب، فقال [الطبيب]: إنه (= الراهب) سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله. وأدخلتُ نصرانيا على أبي عبد الله، فقال له: إني لأشتهي أن أراك منذ سنين، ما بقاؤك صلاح للإسلام وحدهم، بل للخلق جميعا، وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك”!

ولذلك لما مات الإمام أحمد خرج في جنازته أتباع الديانات كلها؛ فقد ذكر الخطيب البغدادي أنه لما توفي “وقع المَأْتَمُ والنَّوْحُ في أربعة أصناف من الناس: المسلمين واليهود والنصارى والمجوس”!!

أسانيد السَّمت
في تصفحنا هذا لأخبار أناقة أئمة الإسلام واعتناء كتاب المناقب بتفاصيل أخبار حياتهم؛ يتبين لنا زيف ادعاء بعض المستشرقين -مثل الألماني فرانز روزنتال (ت 1424هـ/2003م) في كتابه ‘علم التاريخ عند المسلمين‘- أنه في مؤلفات التراجم الإسلامية “الأحداث الخارجية لحياة صاحب الترجمة لا تظفر إلا بقليل من الاهتمام، اللهم إلا في بعض الحالات المتعلقة بتراجم الولاة والسياسيين”.

وتكشف لنا هذه الجولة التاريخية في حياة الأئمة المذكورين فيها مدى المكانة التي نالوها في وجدان أتباعهم، بحيث صار رصد تفاصيل يومياتهم جزءا لا يتجزأ من برنامجهم اليومي في طلب العلم و”الهَدْي والدَّلِّ والسَّمْت”، كما تكشف لنا ثراء كتب المناقب والطبقات والتراجم في القضايا التي صارت فيما بعدُ آراء مذهبية في الأخلاق والسلوك، من خلال مباحث الآداب الجامعة التي يذيل بها بعض فقهاء المذاهب كتبهم الفقهية، وخصوصا في المذهبين المالكي والحنبلي.

وتفيدنا كتب التراجم أن المناقب التي رواها تلامذة الأئمة صارت سلوكا لبعضهم، بل سندا يتسلسل بين الفقهاء وتلامذتهم، كما تتسلسل أسانيد العلوم إماما عن إمام وجيلا بعد جيل! ونكتفي هنا من ذلك بهذه القصة الدالة التي ذكرها عياض في ‘ترتيب المدارك‘، والحافظ ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ مدينة دمشق‘، ونصها هنا من المصدر الأخير.

فقد قيل لأبي بكر أحمد بن إسحق النيسابوري المعروف بالصِّبْغي (ت 342هـ/953م): “ألا تنظر إلى تمكّن أبي علي الثقفي (ت 328هـ/940م) من عقله، فقال: ذلك عقل الصحابة والتابعين من أهل مدينة رسول الله (ص)! قيل: وكيف ذاك؟! قال إن مالك بن أنس كان أعقل أهل زمانه، وكان يقال إنه قد صار إليه عقول من جالسهم من التابعين؛ فجالسه يحيى بن يحيى (التميمي المتوفى 226هـ/841م) فأخذ من عقله وسمته، حتى لم يكن بخراسان في وقته [أحد] في عقله وسمته، فكان يقال: هذا سمت مالك بن أنس وعقله!

ثم جالس محمدُ بن نصر (المروزي المتوفى 294هـ/907م) يحيى بن يحيى سنين حتى أخذ من سمته وعقله، فلم يُرَ -بعد يحيى بن يحيى- من فقهاء خراسان أعقلَ منه؛ ثم إن أبا علي [الثقفي] جالس محمدَ بن نصر أربع سنين فلم يكن بعدَه أعقل منه”!!

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة