ثقافة وفن

التشريح والعمامة.. الشريعة الإسلامية والطب الجنائي في مصر الحديثة

منحت جمعية التاريخ الاجتماعي البريطانية اليوم جائزتها السنوية لعام 2020 لكتاب “السعي للعدالة.. الشريعة والطب الجنائي في مصر الحديثة” للمؤرخ والأكاديمي المصري خالد فهمي الصادر عن منشورات جامعة كاليفورنيا.

وقالت لجنة الجائزة على موقع الجمعية إن الكتاب حاز على إعجابها بين منافسين أقوياء، وأشادت بمصادره الغنية وتصويره الجذاب للروايات التاريخية وتجارب الناس العاديين.

وبالاعتماد على البحث في الأرشيف المصري يوضح المؤلف -الذي يعمل أستاذ كرسي السلطان قابوس بن سعيد للدراسات العربية الحديثة في جامعة كامبريدج- كيف أثرت الدولة على الأشخاص الخاضعين لها، وكيف تشكلت استجاباتهم.

ويقدم فهمي تفسيرات جديدة مثيرة -“ليست استعمارية ولا وطنية”- لشرح كيفية تطبيق الشريعة في الواقع، وكيف تعمل العدالة الجنائية، وكيف تم تفعيل المعارف والممارسات العلمية الطبية في النظام القانوني الحديث لمصر القرن الـ19.

وأفادت الجائزة بأن الكتاب يركز على موقع الطب الشرعي (الجنائي) وتشريح الجثث في تحديث مصر، ويتحدى الاعتقاد بأن التغييرات التي طالت هذا المجال كانت بسبب التأثير الأوروبي، وبدلا من ذلك يتتبع الكتاب التطورات في تاريخ الطب الشرعي في الثقافة المصرية والشريعة الإسلامية والسياسات العثمانية، ويتناول الطرق التي استخدم بها المصريون العاديون الممارسات الطبية لتحقيق العدالة، على سبيل المثال في حالة تشريح جثة القتيل.

يبدأ الكاتب مقدمة كتابه بشرح غلافه الذي يضم لوحة محفوظة في متحف للتاريخ الطبي في القاهرة تظهر جثة شخص أسود موضوعة على منضدة تشريح في منتصف قاعة كبيرة تزين جدرانها أسماء عربية لأطباء يونانيين ومسلمين بين غالينوس وجابر بن حيان وأبقراط وابن البيطار، وبجانب طاولة التشريح يقف طبيب يرتدي زيا شرقيا وعمامة، مشيرا بإحدى يديه إلى الجثة فيما يبدو وكأنه درس تشريح أو شرح لأعضاء وتكوين جسم الإنسان الداخلي.

ويعتبر فهمي أن اللوحة تمثل حدثا بالغ الأهمية في عام 1829 في كلية الطب التي تم تأسيسها آنذاك في أبو زعبل شمال شرق القاهرة، وفي الخلفية يجلس حوالي 100 طالب معممين أيضا، ويستمعون بانتباه لدرس علم التشريح، في مشهد معبر يجمع الأستاذ والطلاب وعلماء دين وجنديا عسكريا، فيما تتم قراءة نص طبي من قبل مدرس يجلس على منبر مرتفع.

واستعرض فهمي في مقدمة كتابه الجدل الديني بشأن جواز تشريح الجثث، ونقل نص رسالة من الطبيب الفرنسي أنطوان كلوت (توفي عام 1868) الذي عهد إليه والي مصر محمد علي باشا بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري، وأصبح رئيس أطباء الجيش، قبل أن يقنع الوالي بتأسيس مدرسة الطب في أبو زعبل عام 1827 لتكون أول مدرسة طبية حديثة في الدول العربية.

وفي مذكراته عبّر كلوت بك للباشا (محمد علي) عن رغبته في أن يكون التعليم الطبي مستندا إلى علم تشريح الإنسان، مبديا تخوفه من رأي علماء الدين الذين يحذرون من لمس الجثث.

وبعد أن تمكن من تهدئة العلماء كان على كلوت بك مواجهة مشاعر بعض طلابه العدائية، وكتب في مذكراته أنه في يوم من الأيام اقترب منه أحد الطلاب برسالة، وبمجرد ما شرع في قراءتها حتى هاجمه الطالب بسكين، فاستطاع تفاديه، وتم اعتقال المهاجم واستجوابه، ليفاجأ كلوت بك بتعاطف بعض الطلاب الآخرين معه، وهو ما كان محبطا للغاية، لكن هذه النظرة للطب الحديث آنذاك لم تستمر طويلا.

الطب الحديث

ولا يتعرض فهمي في كتابه إلى نظرة عموم المصريين في القرن الـ19 للتشريح فحسب، بل يتتبع نظرتهم لمدرسة الطب في أبو زعبل التي جرى نقلها عام 1838 إلى قصر العيني في وسط القاهرة، حيث لا تزال إلى اليوم في مكانها بجزيرة المنيل.

وعلاوة على ذلك، يتطرق الكتاب إلى تشريح الجثث بشكل روتيني لأغراض لا علاقة لها بتدريس الطب، وإنما لعوامل قانونية، مثل التحقق من سبب الوفاة، ويتناول كذلك ممارسات طبية استخدمت من قبل الدولة الحديثة التي تطورت في ثلاثينيات القرن الـ19 للسيطرة على سكان البلاد، مثل التسجيل عند الولادة، والتطعيم ضد وباء الجدري، وتمييز المجرمين، والفحص الطبي الروتيني للطلاب والعمال والبحارة والجنود، والشهادات الصحية عند الانتقال من قرية إلى أخرى، وغيرها من الأمثلة المتنوعة لممارسات “المراقبة الجسدية”.

ويعتبر فهمي أن مصر القرن الـ19 لا يمكن اعتبارها مستعمرة كما تفعل دراسات ما بعد الاستعمار، ولا ينبغي اعتبار الطب الحديث فيها هادفا لحماية الأوروبيين كما هو الحال في مستعمرات أوروبا في آسيا وأفريقيا.

وفي فصل بعنوان “السياسة.. الشفرة المنسية” يعتبر فهمي أن السياسة والفقه يتمازجان ويتعايشان جنبا إلى جنب في مصر القرن الـ19، ويشرح كيف تم إدخال أدوات الطب الجنائي (الشرعي) في النظام القانوني المصري.

التنافس الفكري

ويفيد الكتاب بأن الدراسات الحديثة تنفي أن يكون التحديث في الشرق الأوسط مرتبطا بالمنافسة بين القوى العلمانية والدينية، ويعتبر أن العلماء “الدينيين” كانوا منخرطين بعمق في الإصلاح القانوني والإداري الحديث، وبالتركيز على استمرارية “الشريعة” ونظامها القانوني بأشكال جديدة ومختلفة في السعي لتحقيق العدالة يحلل المؤلف العلاقة بين الطب والقانون في مصر القرن الـ19.

وفي الفصل الأول للكتاب بعنوان “طب واحد.. التنوير والإسلام” يركز الكاتب على ممارسة التشريح الجسدي، ويرصد ردود فعل المصريين (من غير النخبة) عليها، وكذلك نظرتهم لنظام الحجر الصحي.

ويتناول في الفصل الثاني تحولات قانون العقوبات المصري، معتبرا أن قراءة هذه التغيرات ضمن سياق “العملية البيروقراطية” هي المنظور الأفضل لفهم الانتقال من القانون الديني (الشريعة) إلى القانون “المدني”.

وعلى خلاف دراسات ما بعد الاستعمار التقليدية التي تعتبر نشأة الطب الحديث مرتبطة بالسياسات الاستعمارية، يرى فهمي أن الطب الحديث تطور في مصر كجزء من الحركة التحديثية التي قام بها محمد علي وسعيه لبناء جيش قوي حديث ونظام إدارة متطور.

وفي الفصل الثالث “القاهرة في زمن الخديوية” يعتبر المؤلف أن مصر رغم استقلالها على يد محمد علي باشا (حكم بين 1805 – 1848) فإنها ظلت في الحقبة الخديوية (1805-1879) دولة عثمانية من حيث السياسات والاقتصاد وثقافة النخبة، مؤكدا أن القاهرة كانت منقسمة طبقيا واجتماعيا وليس عرقيا كما هو الحال في المدن التي انقسمت في زمن الاستعمار بين أحياء السكان الأصليين وأحياء المستعمرين الأوروبية.

القانون في السوق

وفي الفصل الرابع “القانون في السوق.. الحسبة والكيمياء الشرعية” يناقش فهمي القانون والشريعة، معتبرا أن الانتقال للقانون المدني لم يكن تخليا عن الشريعة، وإنما كان تأثرا بالتحولات القانونية العثمانية التي راعت الاعتبارات السياسية إلى جانب المدونة الفقهية، مؤكدا في الوقت ذاته على التأثير الفرنسي الذي لا يمكن إنكاره على شكل القانون المصري الحديث.

وينتقد فهمي نظرة الإسلاميين والعلمانيين من اليمين واليسار للتحديث في مصر، مؤكدا أن مسار التحديث في الحقبة العلوية دمج بين التأثر بالشريعة الإسلامية والتقنيات القانونية الأوروبية والأدوات العلمية.

ويعد كتاب فهمي مكملا لكتابة الأشهر “كل رجال الباشا” الذي يخلص فيه إلى أن مشروع محمد علي باشا الإمبراطوري تأسس على بناء جيش من المجندين الفلاحين المصريين، فيما كانت مشاريع التحديث التعليمية والصناعية مكرسة لهدف دعم الجيش الذي سيكون عماد النظام الذي سيورثه لأبنائه.

ويعتبر فهمي أن مشروع محمد علي يفهم في السياق الأوسع للإصلاح والتحديث العثماني في القرن الـ19 وحقبة التنظيمات العثمانية.

ويختم كتابه بخلاصة اعتبر فيها أن “الدولة المصرية الحديثة” لم يتم إنشاؤها بغرض تلبية احتياجات ومتطلبات المصريين العاديين، وبدلا من ذلك حاولت أن تخضع حيواتهم للمراقبة عبر نظام بيروقراطي يهدف للتحكم وفرض السيطرة.

مقالات ذات صلة