ثقافة وفن

حوار تراثي مع “الهوامل والشوامل”.. لمَ اشتد عشق الإنسان لهذا العالم؟

في زمن جائحة كورونا والحداثة والتكنولوجيا والاتصالات كيف يمكن أن يتفاعل القراء مع قصص كتبت قبل ألف عام؟ وكيف يمكن إحياء التراث واستعادته بأجناسه وثيماته المتنوعة والمختلفة من منظور تفاعلي؟ هذان السؤالان وغيرهما هو ما يحاول كتاب “لمَ اشتد عشق الإنسان لهذا العالم؟” الصادر حديثا عن المكتبة العربية للناشئة الإجابة عنها.

ويتناول الكتاب مختارات من أسئلة الفيلسوف والأديب المتصوف البغدادي أبي حيان التوحيدي سماها “الهوامل”، ومعناها الإبل الهائمة التي ترعى، وأجوبة من المؤرخ والفيلسوف والطبيب مسكويه الذي عاش في بلاد فارس ومات فيها، وسمى أجوبته على التوحيدي “الشوامل”، وهي الحيوانات التي تضبط الإبل وتجمعها، واستعار أبو حيان كلمة “الهوامل” لأسئلته المبعثرة التى تنتظر الجواب، واستعمل مسكويه كلمة “الشوامل” في الإجابات التي أجاب بها فضبطت هوامل أبي حيان، ويمثل الحوار بين الفيلسوفين مرآة لسجالات القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي واهتماماته، ويعكس روح التفكر العقلاني الذي وسم حركته.

ويقول مسكويه في بداية رسائله للتوحيدي “قرأت مسائلك التي سألتني أجوبتها في رسالتك التي بدأت بها فشكوت فيها الزمان واستبطأت بها الإخوان فوجدتك تشكو الداء القديم والمرض العقيم، فانظر إلى كثرة الباكين حولك وتأس، إنما تشكو إلى شاك وتبكي على باك، وكل أحد يلتمس من أخيه ما لا يجده أبدا عنده”.

وجاء في مقدمة الكتاب -الذي اختار نصوصه بلال الأرف لي وإيناس خنسة- أن الحوار مع نصوص التراث لن ينقطع، وأن تلك النصوص بكافة أجناسها كتبت لقراء عصرها، أي لذائقة غير ذائقتنا جماليا وتاريخيا، فكيف لذائقتنا المعاصرة الآن أن تتعامل مع سياقاتها وحالاتها الخاصة وقيمها، وخصوصية مرحلتها، ويحاول الكتاب الإجابة عن هذه الأسئلة وقراءة السجالات التاريخية، ويتساءل “هل تغيرت أسئلتنا واهتماماتنا أم بعض هذه الهموم القديمة لا يزال يقلقنا؟ وهل تشفينا إجابات فيلسوف القرن العاشر الميلادي ومقارباته؟

عشق الإنسان للعالم

في واحدة من رسائل التوحيدي لمسكويه يسأل الأديب البغدادي “لمَ اشتد عشق الإنسان لهذا العالم حتى لصق به وآثره وكدح فيه مع ما يرى من صروفه وحوادثه ونكباته وزواله بأهله؟ ومن أين استفاد الإنسان هذا العرض؟”.

ويأتي جواب أحمد بن يعقوب مسكويه من أصفهان التي توفي فيها أو من الري (في طهران الحالية) ليقول “وكيف لا يشتد عشقه إلى العالم وهو طبيعي وجزء له، إنما مبدؤه منه، ومنشؤه فيه، وتولده عنه؟ ألا تراه يبتدئ وهو نطفة فينشأ نشوء النبات، أعني أنه يستمد غذاءه بعروق موصولة برحم أمه فيستقي المادة التي تقيمه كما تستقي عروق الشجر، فإذا تم وصار خلقا آخر وأنشأه الله تعالى حيوانا أخرجه من هناك، فحينئذ يغتذى بفمه ويتنفس فيصير في مرتبة الحيوان غير الناطق، ولا يزال كذلك إلى أن يقبل صورة النطق أولا فيصير إنسانا، ثم يتدرج في إنسانيته حتى ينتهي إلى غاية ما يؤهل له من المراتب فيها، وليس ينتهي إلى الرتبة الأخيرة التي هي غاية الإنسانية إلا الأفراد من الناس، والواحد بعد الواحد في الأزمنة الطوال والفترات الكثيرة”.

ويتابع الفيلسوف والشاعر الفارسي صاحب كتاب “تجارب الأمم” أن “عامة الخلق وجمهور الناس واقفون في منزلة قريبة من البهيمية، وغاية نطقهم وتمييزهم أن يرتبوا تلك البهيمية ترتيبا ما، فيه نظامك عقلي”.

ويستدرك الفيلسوف -الذي عاش أكثر من 90 عاما- قائلا “أما أن يفارقوها ويصيروا إلى الحد الذي طالبت به فلا، وإنما يصير إلى هناك الحكيم التام الحكمة الذي يستوفي جميع أجزائها علما وعملا، أو نبي له تلك المنزلة بالإلهام والتوفيق، ثم لا بد من المادة البشرية التي يأخذها من هذا العالم وإن كان بلا عشق ولا لصوق شديد ولا إيثار”.

ويختم إجابته على الأديب البغدادي الذي توفي في شيراز قائلا “وهذا المعنى واسع البحر، طويل الميدان، قد أكثر فيه الناس، وفيما أومأت إليه وصرحت به كفاية، والسلام”.

أسئلة مقارنة

ويعرض الكتاب الصادر حديثا مختارات من “الهوامل والشوامل”، وفي المحور الأول منه يقدم أسئلة تقارن وتفاضل وتقابل بين مفاهيم أو عناصر يصادفها الإنسان على الصعيد اليومي، وفي واحدة من المسائل يسأل التوحيدي “لمَ كان اليتم في الناس من قبل الأب، وفي سائر الحيوان من قبل الأم؟ فإن قلت لأن الأم ههنا كافلة فإن الأمر في الناس كذلك وفي سر غير هذا ونظر فوقه”.

وفي الجواب، يقول أبو علي مسكويه “إن الإنسان من حيث هو حيوان مشارك للبهائم في هذا المعنى محتاج إلى ما يقيمه من الأقوات التي تحفظ عليه حيوانيته”.

ويتابع “ومن حيث هو إنسان مشارك للفلك في هذا المعنى يحتاج إلى ما يبلغه هذه الدرجة بالتعليم والتأديب، لأن الأدب يجري من النفس مجرى القوت من البدن والذي يقوم بالحالة الأولى هي الأم، والذي يقوم له بالحالة الثانية هو الأب، ولما كانت الحالة الثانية أشرف أحواله وهي التي بها يصير هو ما هو -أعني أن يصير إنسانا- وجب أن يكون يتمه من قبل أبيه”.

ويختم “ولما كان سائر الحيوانات كما حيوانيتها في القوت البدني وجب أن يكون يتمها من قبل الأم، ولعل الإنسان قبل أن يبلغ حد التعلم من الأب، وفي حال حاجته إلى الرضاع إذا فقد أمه سمي يتيما من قبل الأم ولم يمتنع إطلاق ذلك عليه”.

وفي مسائل أخرى مقارنة يسأل التوحيدي عن الكهولة والشباب، والغضب والضحر، والاختيار والجبر، والتأنيث والتذكير، والقلم واللسان، وتفاضل النثر والشعر، وفضائل الشعوب، وغيرها، فيجيبه الأديب الفارسي الذي جمع بين علوم الفلسفة والأدب والكيمياء والطب والتاريخ.

كتاب “الهوامل والشوامل” يضم قرابة 175 مسألة متنوعة بين الفلسفة والتاريخ والأدب وما يسمى حاليا “علم الاجتماع”

الإنسان والعشق الناقص

وفي المحور الثاني من الكتاب “الإنسان والعشق الناقص” يقتبس الكتاب نصوصا تحتفي بالعشق والنقص ومشاعر إنسانية متنوعة شغلت بال الأدباء والفلاسفة على مر العصور، ومنها محبة شهر بعينه، والإلف، والمدح، وحب الرئاسة، والسرور القاتل، والحنين إلى السفر، ورغبة الإنسان في العلم، وغيرها.

ويسأل الأديب البغدادي -الذي لقب بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء- “لمَ سمج مدح الإنسان لنفسه، وحسن مدح غيره له؟ وما الذي يحب الممدوح من المادح؟ وما سبب ذلك؟”.

ويجيب مسكويه بأن المدح تزكية للنفس وشهادة لها بالفضائل، ولما كان الإنسان يحب نفسه رأى محاسنها وخفى عليه مقابحها، بل رأى لها من الحسن ما ليس فيها، فقبح منه الشهادة بما لا يقبل منه، ولا يرى له.

ويستدرك “فأما غيره فلأجل غربته منه وخلوه من آفة العشق صارت شهادته مقبولة ومدحه مسموعا”.

ويتابع “ربما كان هذا الغير يجري في محبة الممدوح مجرى الوالد والأخ، والصديق الذي محله منه قريب من محل نفسه، فعرضت له تلك الآفة بعينها أو قريبا منها، فقبح ثناؤه ومدحه ولم يقبل منه، وإن كان دون قبح الأول -أعني مادح نفسه- لأن أحدا لا يبلغ في محبته غيره درجة محبته نفسه”.

ويختم قائلا “فأما ما يجده الممدوح من المادح فهو حلاوة الإنصاف، وتأدية الحق، وسماع الكلام الطيب في المحبوب الموافق للإرادة”.

مسائل جدلية

وفي المحور الأخير من الكتاب “مسائل جدلية” يتناول مسائل جدلية تهدف لفهم الإنسان خلقه وخلقه واهتماماته وتصرفاته، ومحاولاته فهم العالم من حوله، ويضم اقتباسات من الهوامل والشوامل عن مسائل، بينها، اللسان والصيت والعمر والفراسة والبنيان وعلة خلق العالم والحديث المعاد وألم الأطفال والثلج في الصيف، ولماذا صارت مياه البحر ملحا، وغيرها.

وفي أحد الأسئلة، يقول التوحيدي “ما سبب ثقل إعادة الحديث على المستعاد؟ وليس فيه في الحالة الثانية إلا ما فيه في الحالة الأولى، فإن كان فارق بينهما فما هو؟”.

وأجاب مسكويه قائلا إن “النفس تأخذ من الأخبار المستطرفة والأحاديث الغريبة عندها شبيها بما يأخذه من أقواته، وما حصلته النفس من المعارف والعلوم، فإعادته عليها بمنزلة الغذاء من الجسم الذي اكتفى منه، فإذا أعيد عليه غذاء هو الأول ثقل عليه واستعفى منه، فكذلك حال النفس في المعارف”.

وفي الهوامل والشوامل مسألة سماها التوحيدي “ملكة المسائل”، وقال إن الجواب عنها أمير الأجوبة لشدة ابتلاء الناس بها، وهي “حرمان الفاضل وإدراك الناقص”، وأجاب عنها مسكويه بجواب طويل جاء فيه أن “الإنسان إذا لم تكن غايته هذه الأشياء التي تسميها العامة أرزاقا ولم يخلق لها ولا هي مقصودة بالذات فليس ينبغي له أن يلتمسها، وأن يتعجب ممن اتفقت له وإن كان يتشوقها ويحبها، فليس ذلك من حيث هو إنسان عاقل، بل هو من حيث هو حيوان بهيمي، وقد أزيحت علته في الأمور الضرورية التي يتم بها عيشه، ويصح منها سلوكه إلى غايته”.

مقالات ذات صلة