اراء و أفكـار

العمق العربي للعراق

مشرق عباس

كان لافتا أن يهتم رئيس الجمهورية العراقي برهم صالح، الذي ينحدر من قومية كردية، بتكريس مصطلح “العمق العربي للعراق” في معظم خطاباته الأخيرة، واللافت أكثر أن يرد المصطلح نفسه خلال المؤتمرات الرسمية للرئيس الإيراني حسن روحاني خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد.
المصطلح وصف بأنه “اشكالي” خلال السنوات الماضية، فلم يجرؤ السياسيون العراقيون على تداوله، وتجنبه المثقفون، فيما كان شعارا أساسيا للحركات المعارضة خارج العراق وبعض القوى الداخلية التي اتهمت بأنها “بعثية” لتمسكها به.
والمشكلة الأساسية، أن المزاج الحزبي العام في العراق عكف طوال مرحلة ما بعد 2003 على تفكيك منظومة متبنيات حزب البعث ذات الطابع القومي، وعومل مصطلح “العمق العربي للعراق” باعتباره ينتمي إلى تلك المنظومة نفسها، مع أنه ظهر بالفعل بعد سقوط نظام البعث الذي كان يتبنى مفاهيم مختلفة تماما مثل الوحدة العربية والمصير المشترك.
المفارقة أن ظهور المصطلح كان بمثابة تسوية لتوصيف الانتماء العراقي إلى المنظومة الثقافية العربية، وهوجم من قبل البعثيين والقوميين العرب، لأنه يتنصل من المتبنيات القومية، لكن ذلك لم يكن كافيا ليتم الإقرار بأن ثمة خصوصية في العلاقات العراقية مع المحيط العربي، لأن الأحزاب التي تولت السلطة، كانت وهي تنظر إلى العراق من زاوية مذهبية مجردة، تتحدث ضمنا وعلنا عن عمق “سني” للعراق مع العرب، وعمق “شيعي” له مع إيران، وحتى الدول العربية عبر خطابها الرسمي، أو من خلال مؤشرات ومخرجاتها الثقافية كانت تبنت بلا شك هذه النظرية، كما تبنتها إيران، وكما تعاملت معها تركيا عبر حديثها عن “العمق التركي لتركمان العراق!”.
بل إن وسائل الإعلام العربية، كانت انخرطت منذ 2003 في تمكين نظرية “العمق السني” عندما استخدمت بإصرار مصطلح “السنة العرب” في مقابل “الشيعة” الذين لم تصفهم أي وسيلة إعلام عربية طوال 16 عاما وربما حتى اليوم كـ “شيعة عرب!”.
أخيرا قال الرئيس العراقي برهم صالح إن العراق “محظوظ بجيرانه” وكان بالطبع يقصد أن التنوع الديموغرافي والثقافي العربي والكردي والتركي والفارسي الذي يحيط بالعراق يمثل مصدر قوة. لكن صالح وهو يعدد هذا التنوع استخدم مصطلح “العمق العربي للعراق” في مقابل علاقات حسن الجوار مع إيران وتركيا، كنوع من الإقرار الرسمي بخصوصية العلاقة بين العراق ومحيطه العربي، وأن تلك الخصوصية تمتد عميقا في التاريخ والمشتركات، وأن جهود اجتثاثها لم تكن مجدية.
ليس جديدا القول إن ثمة حساسية كردية تاريخية من مصطلح “العمق العربي للعراق” وبعض المثقفين الكرد يصفونه بأنه تنصل عن ثوابت العقد الذي أبرم في نطاق الدستور لحماية الدولة المركزية من الانخراط مجددا في النزعة القومية العربية على حساب الشعب الكردي، ومع وجود هذه الحساسية، فإن كرد العراق قد يكونون أكثر حماسة من عربه لتكريس المفهوم في سياق التوزان الذي لطالما مثل نمطا متميزا لإدارة علاقات إقليم كردستان مع الخارج.
اليوم يمكن الحديث بهدوء عن هذا المصطلح باعتباره نمط تعريف واقعي مرتبط أساسا بنضج قناعات سياسية بشأن ضرورة إعادة التوازن المختل في منظومة علاقات العراق مع محيطه الإقليمي. وهذا التوازن لا يمكن ضمانه من دون الاعتراف بأن غياب العراق عن العرب، وغيابهم عنه، لم يكن في صالح أحد، وأن ما يمكن تسميته “النزعة الإيرانية” في السلوك الحزبي العراقي، أنتجت نفوذا سياسيا وأمنيا إيرانيا في العراق، لكنها وهي تفشل في تحقيق نفوذ ثقافي، بالإشارة إلى دعمها لطبقات سياسية فاشلة تقدم المصالح الإيرانية على المصالح الوطنية العراقية، عمقت مفهوم “العمق العربي” في الذاكرة الشعبية وكرست مضامينه، في البيئة الشيعية العراقية قبل السنية.
أن يتحدث روحاني اليوم عن عمق عربي للعراق ليست مصادفة، وأن يتم التسريب بأن ملف العراق خرج من يد الحرس الثوري إلى الخارجية الايرانية، وأن الإصلاحيين يحاولون بشكل أو آخر استعادة المبادرة في العلاقات الخارجية الإيرانية، وأن قناعات تتبلور داخل إيران بعدم وجود مواجهة عسكرية على خلفية التصعيد في العلاقات مع الولايات المتحدة حول الملف النووي وإنما ضغط لتعديل قواعد المفاوضات، كلها ليست مصادفات، بل “صيرورات سياسية” كان لا بد أن تعبر عن نفسها في سياق المتغيرات التي طرأت في العراق قبل غيره من دول المنطقة.
والمتغير العراقي الذي بات مفهوما إيرانيا بشكل واضح، أن العراقيين أكثرهم قربا من إيران وأبعدهم، لن يتورطوا بالانتحار لتحسين شروط إيران التفاوضية، وأن أفضل ما يمكن أن يقدمه العراق في ملف العقوبات ليس ضرب المصالح الأميركية كما تتمنى منظومة الحرس الثوري، بل فقط تسهيلات واستثناءات تجلبها علاقات عراقية جيدة مع واشنطن، وأخرى جيدة مع “عمقه العربي”.
أن ينمو مزاج سياسي عراقي يدرك خطورة التلاعب بالثوابت الشعبية، بعد سنوات من المغامرات الطائشة لتركيب مصالح العراق على أساس مصالح طهران، خبر جيد، وهو يحتاج إلى رؤية أكثر استقرارا لمفهوم “العمق” الحقيقي، فهناك عمق عراقي لإيران، مثلما أن هناك عمق عراقي للعرب.. وهنا تحديدا تصبح معادلات المصطلحات ودلالاتها مختلفة تماما.

مقالات ذات صلة