اراء و أفكـار

نبض الشارع والتيارات الصاعدة والكبرى (1)

معرفة نبض الشارع وفهم توجهات التيارات الصاعدة، ورصد مكامن التيارات الكبرى، امر ضروري لتقدير المواقف ووضع السياسات الصائبة المباشرة والبعيدة. ونبض الشارع لا يعني اية قراءة، بل على الشخص ان يتخلص من التأثيرات الوهمية للاعلام والتسريبات المموهة، ليتسنى له التعرف بدقة على النبض الحقيقي للشارع. فالاعداء والخصوم سيشون الصورة باكاذيبهم، وهناك قول لتشرشل بانه في فترة الحرب (والسياسة حرب بدون رصاص)، تصبح الحقيقة عزيزة، فيجب احاطتها بسلسلة من الاكاذيب. لذلك ينجح الذين يحسنون قراءة نبض الشارع ويزيحون التشويشات والاكاذيب، فتساعدهم معرفة الحقيقة في مواجهة الازمات وحلها قبل تطورها، او الصعود مع حالات المد وتلمس حالات الجزر، حسب الحالات.
لكن نبض الشارع بمفرده لا يكفي سوى للسياسات القصيرة الاجل، ولاجل ربطها بالسياسات البعيدة، لابد من معرفة التيارات الصاعدة والتيارات الكبرى. فالعالم في تغيرات مستمرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وعلمية وقيمية وديموغرافية وطبيعية مستمرة.. فالعالم في دورات مستمرة كفصول العام. فانت لا تلبس المعطف في الصيف، لمجرد انك اعتدت على لبسه في الشتاء، او لانهم يقومون بذلك في نصف الكرة الاخر.. كذلك في السياسة فانك لا تحلل في الالفية الثانية حسب وقائع وحقائق الالفية الاولى.
فعندما طغى التيار اليساري والاشتراكي، او التيار القومي على الشارع العراقي في القرن الماضي، فان ذلك لم يكن مؤامرة وانحرافاً واكذوبة وحركة صهيونية او ماسونية، بل لان العالم كله كان يشهد صعوداً للتيارات الاشتراكية واليسارية والقومية، ولان التيارات الاشتراكية والقومية حينذاك مثلت التيارات الكبرى التي انقسمت اليها المجتمعات والشعوب. وعليه من يريد ان يفهم احداث وتطورات تلك المرحلة عليه ان يرى تلك التطورات ويضع حركة الشارع واحداثه اليومية في مكانها الصحيح. وإلا سيرى التاريخ مؤامرة.. وسيرى الشيوعيين واليساريين عملاء موسكو وبكين، او ذوي مبادىء هدامة كما كان يطلق عليهم في الفترة الملكية.. او سيرى الناصرية والبعث والحركة القومية العربية والكردية وغيرهما مجرد صنائع الاستعمار.. فيركّب الروايات للبرهان عن وجهة نظره، ويبث وعياً مشوشاً متخاصماً مع الحاضر ومعرقلاً للمستقبل. فهذه التيارات صعدت اساساً بزخمها الذاتي، ولضرورات حقيقية فرضتها يومها كحلول او بدائل، رغم كل محاولات قمعها وكبحها، فنجحت عندما احسنت استثمار زخمها مع نفسها وشعبها، وفشلت بل انهارت احياناً عندما نقلت زخمها الداخلي من قوة لها ولشعبها الى قوة على شعبها ونفسها.
واليوم ايضاً عندما يتكلم البعض عن التيارات الاسلامية وصعودها في العراق، وبأن صعودها يعود لايادي اجنبية، ومجرد تلاعب بقوانين الانتخابات، او يتكلم عن التيارات الديمقراطية وكأنها بدعة جاءت بها القوات الامريكية فانه يجافي الواقع ولا يفهمه. فالتيار الاسلامي تطور الى تيار صاعد وبات تياراً من اكبر التيارات في المنطقة والعالم والعراق، بزخمه الذاتي اساساً كحل وكبديل تتبناه تيارات صاعدة وكبيرة، رغم كل الحواجز والموانع التي وضعت في طريقه، تماماً كما صعدت الديمقراطية بزخمها الذاتي واصبحت تياراً صاعداً وتياراً انتشر او ينتشر في الكثير من بلدان العالم –ومنها العراق- كحل وبديل لمنظومات اخرى. فلابد من التمييز بين حقيقة الاشياء، وبين اخطاء وانحرافات استثمار هذا الزخم سواء من داخل التيار او خارجه. فعندما لا تخدم التيارات الاسلامية منطقها الذي كان اساس صعودها وانتشارها، وعندما لا تجعل زخمها وعطاءها هي مصادر قوتها بل تلجأ للسلطة تحتمي بها او للقوانين تكيفها على مقاساتها، فان العوامل سترتد عليها.. وعندما لا تخدم التيارات الديمقراطية منطقها الذي فرض حقيقته، وتصاب العملية بخلل يفقد الناس الثقة بها، فان العوامل سترتد عليها. فالمشكلة الاساسية ليست التزوير او القوانين او استثمار الاخرين للتيارات والتي تساعد او تعرقل عمل هذا التيار او ذاك، بل المشكلة الاساسية مدى الايفاء بالمتطلبات اللازمة والتجديد مع متغيرات العصر، لكي تبقي شعلة الزخم متقدة ومعطاءة فتستمر عملية الصعود والانتشار.. فنحن نصنع الاحداث، لكن الاحداث تصنعنا ايضاً في متلازمة لا انفكاك طويل بينهما. (للبحث صلة)
عادل عبد المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم
نبض الشارع.. والتيارات الصاعدة والهابطة، والتيارات الكبرى(2)
هذه امثلة مختصرة جداً عن نبض الشارع، والتيارات الكبرى، والصاعدة، وأهميتها لتقدير مواقف للمستقبل.
1- من المهم ان يكون الانسان وسط الجمهور، وان يمتلك ادوات لتفسير الظواهر واستنطاقها الصحيح. لكن الأهم معرفة قوى التغيير سلباً او ايجاباً.. ففي نهاية الستينات وعودة “البعث” للحكم، كان نبض الشارع وتقديرات القوى ان الحكم الجديد لن يصمد طويلاً، قياساً على التسعة اشهر لتجربة 1963.. فقوى “البعث” يومها صغيرة وممزقة، وغفلت الاغلبية ان صدام حسين يريد ان يكون “نبوخذنصر” و”ابو جعفر المنصور” و”بسمارك” سوية.. فطهر جبهته الداخلية، وصفى اعدائه الخطرين، في الحركات الإسلامية والقومية واليسارية.. وتوجه لبناء سلطة تعرف كيف تعاقب وتكافىء، واسس الجبهة الوطنية ليعطي للحكم بعداً شعبياً، ووقع اتفاق 11/3/1970 للحكم الذاتي، وسعى لان يأخذ دور مصر عربياً، وان يقيم عالمياً علاقات استراتيجية بالكتلة الشرقية، دون ان يغفل الدول الغربية، خصوصاً فرنسا.. فحكم ثلاثة عقود ونصف معتدياً على شعبه وجواره.
2- ستبقى الديمقراطية والعلمانية والمدنية والاديان والاسلام السياسي خصوصاً، تيارات كبرى وصاعدة.. لكنها ستشهد جميعها تغييرات جذرية في مبانيها.. فدور الشعب في الديمقراطية سيزداد وسيتراجع دور النخب.. ونحن نمر بمرحلة شعبوية ليس في العراق فقط، بل في العالم اجمع، مما سيقود لحالات داخلية متوترة، خصوصاً مع زيادة الهجرة، مما سيغير الكثير من التشريعات وانظمة الحكم باتجاهات اكثر تشدداً وتضييقاً للحقوق والحريات العامة والخاصة. وستشهد التيارات الدينية حالة تكيف اكثر فاكثر مع التيارات المدنية والعلمانية، والعكس صحيح. ذلك ان استطاع الاول التخلص من اثار التجارب الفاشلة السياسية، وخصوصاً العنف والارهاب الذي ارتبط في حالات عديدة باسمه، رغم انه اهم ضحاياه.. والثاني من العنصرية والكيل بمكيالين.
3- ستشهد العولمة والتواصل تقدماً متزايداً، مع ظاهرة انكفاء لقوى مؤثرة لما يسمى “ما بعد العولمة”. ونماذجها “البريكزت” و”الترامبية” ونزعات الانكفاء. لا يكفي معرفة التيارات الصاعدة بل يجب ايضاً معرفة التيارات الهابطة، فمن اعتاد النظر لبريطانيا كدولة عظمى سيخطىء تقدير موقفه بعد الحرب العالمية الثانية خصوصاً مع صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.. ومن يرى انهيار نظرية القطبية الامريكية، ويفهم قرارات الرئيس “ترامب” في التخلي عن سلسلة من القرارات والاتفاقات الدولية كنقل السفارة الامريكية للقدس والمناخ والاتفاق النووي وتجديد العقوبات على ايران، ومعارضة اغلبية ساحقة من دول العالم ومنها الامم المتحدة لذلك كله، سيرى ان الرئيس “ترامب” يسارع في عزلة امريكا واضعافها ودفع مساراتها نحو التقوقع والهبوط بكل الاثار الهائلة المتوقعة نتيجة ذلك.
4- ان قوى السلطة والثروة النفطية لدينا فقدت –على الاغلب- دورها المبادر والمحرك والقيادي، والاسباب عديدة، واهمها انه لو كان هناك حل من داخل السلطة والقوى السياسية الراهنة لكشف عن نفسه بوضوح، وسنبقى نأمل ذلك. وقد يأتي الحل من خارج الدولة، من قوى المجتمع لاصلاح الامور ومن جملتها الدولة.. او من اوضاع سياسية جديدة في البلاد او المنطقة ترتب حلولاً تفرض نفسها على الحكم والسلطة والقوى السياسية. وما حصل بعد “الفتوى الكفائية” او الاحتجاجات الاخيرة قد يؤكد نظرتنا بان قوى التغيير قد انتقلت الى خارج السلطة، اكثر مما هي في السلطة نفسها.
5- هناك تيارات تكنولوجية وكونية وبيئوية صاعدة، قد لا يكون بعضها كبيراً وشاملاً اليوم. فنحن نقف امام الثورة التكنولوجية الرابعة، ودور الذكاء الالكتروني والانسان الالي والزراعة الذكية، بدون تربة او بمياه البحر.. والصناعة المبرمجة والطاقة الرخيصة والنظيفة.. وأمام ضخ المزيد من الشهادات والكفاءات، وكلها تيارات صاعدة، وستصبح كبيرة وشاملة، وسيعتمد تقدمنا على موقفنا وموقعنا في هذه التطورات. التي ستزيد الانتاج الاجمالي، لكنها ستزيد العاطلين.. الذي سيعمقه ازدياد السكان.. فنسب الفقر ستتراجع كتيار عام، لكن اعداد الفقراء ستزداد.. فـ(1%) الذين يملكون نصف ثروة العالم في 2015، كانوا يملكون (44%) عام 2010، وستزداد الفجوة الطبقية.. التي قد تتمكن من ابقاء النظام والتوازن باجراء تغييرات جذرية في نظريات الاجتماع وتوزيع الثروة، ليس على اساس العمل والانتاجية، بل على اساس حصول الجميع على الحماية والتطوير وتقدم مستويات الحياة وان كان بمعدلات متفاوتة جداً.

عادل عبد المهدي

مقالات ذات صلة