اراء و أفكـار

انتصار الأسرى

هي حكاية قديمة، عمرها عمر التاريخ، الصراع بين الخير والشر، والصراع بين الحقيقة والإفك، وبين القوي والضعيف، وبين الحرية والعبودية، وبين المحتل وأصحاب الأرض. هذه الحكاية التي تتكرر في هذا العالم كان نصيب العرب منها الكثير، ودفعوا الثمن غالياً، وما زالوا. وكانت فلسطين على الدوام في قلب هذه الحكاية، لأنها أرض متميزة في تاريخها، وموقعها، ودورها، وإرثها الديني باعتبارها أرضاً رسولية مقدسة لمعتنقي الأديان الكبرى الثلاثة، لذلك كانت هدفاً مستمراً للطامعين، والغزاة من الشرق والغرب، على مدى التاريخ، وكانت الغزوة الصهيونية آخرها، وأخطرها، وأسوأها، حيث الصراع معها هو صراع وجود يأخذ أشكالاً مختلفة لدرء خطر استيطاني احتلالي، عنصري، وديني.
كان إضراب أكثر من 1800 أسير فلسطينيي في سجون الاحتلال الذي بدأ يوم 17 إبريل/نيسان الماضي هو شكل من أشكال المواجهة المستمرة مع هذا العدو. وكان الإعلان، يوم أمس، عن تعليقه بعد 41 يوماً من «إضراب الحرية والكرامة» الذي نفذه الأسرى بإعلان الإضراب عن الطعام بعد رضوخ سلطات الاحتلال لمطالبهم، هو انتصار للإرادة العزلاء على القوة والبطش، وتأكيد لمقولة أن الأحرار في نفوسهم وإيمانهم هم من يصنعون الحرية والانتصار، وأن الضعفاء هم من يستجدونهما.
واحد وأربعون يوماً من الإضراب عن الطعام تجلت فيها وحدة الحركة الأسيرة في مقارعة الجلاد، وتأكدت فيها وحدة الشعب الفلسطيني الذي قدم دروساً لقيادته الغائبة التي تتلهى بالصراعات على المناصب والمكاسب، ومن بينها أن الوحدة الوطنية لا تنتظر قراراً من هنا، أو هناك، بل هي راسخة في وجدان الشعب بشطريه في الضفة، وغزة، وعلى امتداد مواقع الشتات، وأن الشعب في واد، والقيادة في واد آخر، ولا خير في قيادة تتخلى عن ثوابت، وتتمسك بقشور.
لم يكن أمام السجان إلا أن يرضخ لإرادة الأسرى بعد مماطلة طويلة، ومحاولة للتهرب من استحقاقات إنسانية لهم حول تحسين شروط حياتهم، ومعاملتهم، وظروف أسرهم. وجد الاحتلال نفسه محاصراً بأكثر من 1800 مضرب عن الطعام، وبتأييد شعبي فلسطيني قل نظيره، وبفعاليات يومية، ومواجهات على امتداد الأرض الفلسطينية، وبدعم شعبي عالمي تجلى بتظاهرات، ومسيرات لنشطاء غربيين مؤيدين للحق الفلسطيني، وبصوم رمزي نفذه الكثيرون من أحرار العالم تضامناً، وإن كان رد الفعل في الدول العربية خجولاً على المستويين الرسمي والشعبي.
لقد مثل الإضراب عن الطعام أعلى مستويات الالتزام، والشجاعة، والصمود، في تأكيد كرامة الإنسان الأعزل وحقوقه في مواجهة أعنف وأعتى أشكال العنصرية التي شهدتها البشرية، لأن التزام الصمت إزاء ممارسات هذا الاحتلال تعني الموافقة على كل الممارسات اللاإنسانية التي يقوم بها ضد الأسرى.
..وأخيراً، انتصرت الأمعاء الخاوية على الجلاد.

نقلا عن “الخليج”

مقالات ذات صلة