اراء و أفكـار

الديموقراطية «محتلة» أم «متنازع عليها»؟!

ممدوح الشيخ

خلال سنوات الحرب الباردة والصراع بين القطبين، كانت أدبيات كثيرة تسخر من استخدام بعض أعتى الدول الديكتاتورية كلمة «الديموقراطية» في اسمها الرسمي، وكانت المفارقة الأشهر آنذاك أن الاسم الرسمي لألمانيا الشرقية الشمولية الشيوعية كان «ألمانيا الديموقراطية»، بينما ألمانيا الغربية كان اسمها الرسمي «ألمانيا الاتحادية».
كان هذا اعترافاً بأن الديموقراطية صفة إيجابية، وفي حالات كثيرة كان المفهوم يخضع للتأويل وإعادة التعريف، وأحياناً يوضع ضمن تصور مرحلي يأتي فيه ما يسمونه «ديموقراطية رغيف الخبز» قبل «ديموقراطية الصندوق». وكانت المسافة بين «الأرض المحتلة» و «الأرض المتنازع عليها» إحدى المقارنات التي تستخدم للتهكم على المسافة بين خطابين ينسبان نفسيهما إلى الديموقراطية، وكان «صندوق الانتخابات» أحد الاختبارات الإجرائية الفاصلة بين طريقتين في تأسيس السلطة أو الوصول إليها، وكان نموذج الحزب النازي ووصوله إلى السلطة بأغلبية صحيحة «إجرائياً» يتحدى من يجعلون الديموقراطية مجرد حزمة «إجراءات»، بغض النظر عن القيم التي تتأسس عليها أو تيحتكم إليها أو تنتجها.
وكان «استفتاء المآذن» في سويسرا عام 2009، من العلامات الفاصلة في مسار استخدام «الصندوق» في شكل يتعارض مع القيم الديموقراطية تعارضاً تاماً، وهو ما كان مدار تعليقات سبقت الاستفتاء وواكبته، إذ ذهب كثيرون، وضمنهم مؤسسات دولية، إلى أن استفتاء «الأغلبية» على الحقوق الدينية للأقلية هو استخدام غير ديموقراطي لـ «الصندوق».
وفي مرحلة أكثر تعبيراً عن هذه المفارقة التي يمكن أن تتحول حَرفياً إلى صراع بين «القيم» و «الإجراءات»، يأتي صعود التيارات الشعبوية (وبخاصة اليمينية) ليجعل الديموقراطية موضوع سجال ثقافي/ قانوني/ سياسي سيكون له ما بعده. فالسخط الشديد على «النخبة السياسية» الذي تحفل به أدبيات هذا الطوفان السياسي المتعاظم على جانبي الأطلسي وجه واحد من وجوه القضية. فالخلاف في أحد أسسه العميقة خلاف حول دور الديموقراطية كمدافع عن «الفرد» أو عن «الدولة».
وفي ظل تحولات دولية تركت بصماتها على سيادة الدولة (التكتلات الإقليمية – العولمة – الحرية المفرطة في انتقال الأموال والأفراد والأفكار) أصبح هناك تيار قوي سمته الرئيسية «الجماعية» والشمولية، وهو يرى أن الديموقراطية يجب أن تكون أولاً درعاً يحمي الدولة، حتى لو انتهك حقوق مواطنيها (الأفراد).
وخلال السنوات القليلة المقبلة، قد يشهد العالم مواجهة معرفية/ سياسية حول الديموقراطية: الإجراءات والمعايير والقيم، في ظل صعود كبير لأخطار أمنية تساهم دائماً في تغليب الأمن على الحرية، وتضاؤل يبدو مرشحاً للتصاعد، للقوى المدينية المعروفة تقليدياً بدفاعها عما هو تعددي وتعاقدي وفرداني كرؤية للحياة وشرط موضوعي للازدهار، وصعود كبير لقوى «ريفية» محافظة تنحاز إلى تماسك الجماعة (والدولة) على حساب ما هو تعددي وتعاقدي وفرداني، وتظل النتيجة غيباً يصعب التكهن به.

نقلا عن “الحياة اللندنية”

مقالات ذات صلة