اراء و أفكـار

حرب.. من نوع آخر!

علي نون

ليست «المحنة» التي يعاني منها «حزب الله» في داخل بيئته سوى تعبير أمين ودقيق ومنطقي، عن السياسة التي اعتمدها ويعتمدها. و«الثقافة» التي يلتزمها ويشيعها ويتغنى بها! والأداء الذي يقدّمه دوماً باعتباره فوق بشري بالتمام والكمال.

اشتغل طويلاً على إنضاج فكرة مفادها، أن حالته الاستثنائية، طبيعية تماماً: سلاحه «بديهي» برغم ضمور وظيفته الأصلية بعد زوال الاحتلال الإسرائيلي. وتنظيمه «عادي» برغم غربته الفكرية والمرجعية عن الاجتماع السياسي اللبناني. وعن الدولة المركزية، ودستورها وقوانينها وأعرافها! وخطابه الاستنفاري، الصاخب والمتوتر والتعبوي على مدار الساعة، «متآلف» مع عادات اللبنانيين وممارساتهم «التحررية»، برغم أنه تخطى كل تلك العادات والأعراف والممارسات.. ولو كان قادراً، لعمّم يقينياته بالقوة وأخرسَ كل الناس!

لم ينتبه، أو بالأحرى لم يرد أن ينتبه، الى أنّ لبنان ليس مسرح حرب دائمة. وإن بيئته ليست قلعة مقفلة. وإن العسكرة وطقوسها، خارج أمكنتها التلقائيّة في الثكنات ومعاهد العلوم الحربية، لا يمكن إلا أن تنتج حالة هجينة محكومة بالفوضى: لا إسبارطية تامة! ولا مدنية ناجزة. وفي المساحة الفاصلة بين النقيضين تنمو طحالب المستنقعات مع كل «عناصرها» و«ظواهرها»!

استعار ازدواجية «الجيش» و«الحرس» من إيران، لكنه لم يكلّف خاطره التمعّن في تلك البضاعة ومدى ملاءمتها للاجتماع الوطني اللبناني.. اكتفى بتقسيم العمل في عمومياته وعلى كيفه، ولم يعطِ بالاً للتفاصيل. كسر فكرة الدولة من جذرها ولم يجرؤ على أخذ دورها التام! وبالأحرى لم يكن (ولا يزال) غير مؤهل لتلك المهمة المركّبة والمعقّدة والخطيرة.

إفترض (قاصراً) أنّ خطابه الذاتي، الانتصاري، الغيبي، التوجيهي الديني المذهبي، كافٍ في ذاته للَجم الشر والجريمة والتهتك.. وأن أداءه «المقاوم» كافٍ لمنع نمو الفطور السامّة في اجتماع مأزوم أصلاً بالفقر والعوَز والكثافة السكنية وغياب المساحة التنفسية العامة! عدا غياب الخدمات البديهية أو تراجعها الحاد والمكلف!

إفترض قبل أن تصدمه الحقائق، أن التعبئة المستدامة تعوّض عن خسارة قيم النظام والقانون وفروض احترامهما التامة وغير المنقوصة! وإن اللهج المستمر بـ«المقاومة» يعوّض عن غياب شرطة الآداب والسير ومكافحة المخدرات! وإن جعل الموروث الديني أشخاصاً ومناسبات، حالة يومية دائمة الحضور، يعوّض عن تنامي حالات التفلّت الإجرامي على أنواعه، ويكبت بعض «العادات» السابقة على انكسار الدولة في الحرب، والموصولة على الدوام بالسلاح واستخداماته الكثيرة (خطف وثأر وتشليح واعتداء على المشاع العام.. الخ)!

.. إستفاق متأخراً، بعد أن أخذ الليل مداه.! واجه ويواجه تفلّتاً إعجازياً. لا نظير له (بالأرقام والوقائع) في أي منطقة لبنانية أخرى، فيها معاناة لا توصف. وفقر شبه عام. وضمور بالخدمات. وكثافة سكنية (هندية!)، لكنها لا تنتج تلك الظواهر التي يئنّ منها (حزب الله) أيّما أنين!

هذه «حرب» من نوع آخر! وأشد فتكاً وألماً وتعقيداً من الحرب (المنسية!) مع إسرائيل! وأكثر صعوبة من عاديات الفتك بالسوريين! واستسهال قتلهم وتهجيرهم من بيوتهم وديارهم وأرزاقهم!

هذه حرب تكسر الظهر، لأن الادعاءات الموصولة بالذات الإلهية، لا تسري عليها! … أم ماذا؟!

نقلا عن “المستقبل اللبنانية”

مقالات ذات صلة