اراء و أفكـار

الشرق الأوسط أخطر بؤر التوترات الدولية

د. محمد عاكف جمال

لم تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت خرائطها في العقد الثاني من القرن العشرين مخاضات تغيير معالم هذه الخرائط كما تشهدها الآن، فلم تعد الصراعات الداخلية التي تمزق بعض دولها والتي تزداد حدة ودموية مجرد إرهاصات نحو التغيير بل مؤشرات قوية على ذلك رغم التصريحات التي يدلي بها مسؤولون كبار في الدول التي لها ما تقوله حول ضرورة الحفاظ على وحدة العراق وسوريا واليمن وليبيا التي يدور فيها قتال تشترك فيه جيوش نظامية وميليشيات من إيران وباكستان وأفغانستان والشيشان ومقاتلون من دول أوروبية عدة وربما من أماكن أخرى من العالم.

فمع كثرة التصريحات التي تؤكد أن مستقبل هذه الدول يقرره شعوبها إلا أن مسارات الأحداث لا تشير إلى أن هناك نوايا مخلصة حقاً حول ذلك داخل هذه الدول وخارجها خاصة أن هذه الشعوب لم تعد قادرة على رسم أقدارها بنفسها بعد أن أصبحت مقدراتها رهن تنظيرات قوى نجحت في زرع بذور التشتت والفرقة لا التوحيد.

صراعات المنطقة لم تعد مقتصرة على ساحات هذه الدول بل توسعت لتصبح الممرات المائية المهمة للملاحة الدولية غير آمنة مثل مضيق باب المندب بعد أن تعرضت إحدى البواخر التجارية للاعتداء وتعرضت بوارج البحرية الأميركية لمثل ذلك مرات عدة.

التوترات في تصعيد مستمر والداخلون إلى ساحات المعارك في ازدياد أما محاولات التخفيف والجنوح نحو تحقيق فرص أفضل لحلول سلمية فتقابل بما يجهضها بسهولة. فنحن لم نشهد من قبل عجزاً للأمم المتحدة كما نشهده اليوم، فلا أحد يهتم بالقرارات التي تتخذها أو يستمع إلى توصيات مندوبيها بل أصبحت خيوط هذه الأزمات مركزة بيد روسيا والولايات المتحدة بعد أن همش تماماً دور الآخرين وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي.

لم تعد الدول الفاعلة في المنطقة قادرة على لعب دور في تخفيف حدة هذه الصراعات لأنها أصبحت بهذا القدر أو ذاك أطرافاً فيها، كما أن الدولتين الأقوى عسكرياً في العالم الولايات المتحدة وروسيا هما الأخريان أصبحتا غير قادرتين على تقديم حلول لإنهائها أو إنهاء بعضها أو التخفيف من المعاناة الإنسانية المترتبة على استمرارها طالما أن لعبة لي الأذرع بينهما هي التي لها الأولوية.

ومع هذا التعقيد والتشابك الكبير في الصراعات السائدة في المنطقة تبقى الأزمة السورية الأكثر خطورة لأنها القضية التي بدأ يتمحور حولها التغيير والتصعيد في نمط المواجهات على المستوى الدولي الذي لا يستبعد فيه أي من الاحتمالات وبضمنها مواجهة عسكرية بين روسيا والولايات المتحدة.

فمع أن هذه الأزمة قد خلّفت حتى الآن مئات الآلاف من الضحايا وملايين المشردين والنازحين وجلبت الكثير من الفوضى للمنطقة إلا أنها من جانب آخر دفعت الصراعات الدولية إلى مستوى أعلى من السخونة.

فعبر هذه الأزمة عملت روسيا باتجاه تثبيت وتوسيع حضورها في حوض البحر الأبيض المتوسط تحت ستار الحرب على الإرهاب. فالقوات الجوية والمنظومات الصاروخية والقطع البحرية التي دفعت بها إلى الأراضي السورية وإلى شرق البحر الأبيض المتوسط ووضع أسطولي بحر قزوين والبحر الأسود على أهبة الاستعداد ليست بكل تأكيد للحرب على داعش.

فهي لا تحارب هذا التنظيم داخل سوريا نفسها وهذا ما يبعث على القلق في الأوساط السياسية عن قرب تفاقم الأزمة بين الولايات المتحدة وروسيا.

فالمعروف أن هيلاري كلينتون صاحبة الحظ الأوفر للفوز بالرئاسة الأميركية لم تكن على وفاق مع سياسة الرئيس أوباما الرافضة لأي تورط عسكري واسع في الشرق الأوسط مما يرجح أن المواجهات مع روسيا عند مجيئها قد تغادر صالونات الحوار الدبلوماسي بين وزيري خارجية البلدين، فإدارة الرئيس أوباما لم تعزز موقفها السياسي والدبلوماسي بعروض قواتها العسكرية.

مضى أكثر من سنة على بدء روسيا تدخلها العسكري المباشر في سوريا من غير أن تتمكن من حسم الصراع لصالح الرئيس السوري وليس من المستبعد في ضوء إصرارها على الأخذ بالخيار العسكري أن تلجأ للقيام بعملية برية كبرى تنهي بها المعارضة السورية المسلحة لتأمين وجود عسكري دائم في قواعد جوية وبحرية على البحر الأبيض المتوسط.

الخطوات الروسية مدروسة بدقة فمع مغادرة الرئيس بوتين إسطنبول في العاشر من أكتوبر الجاري عقب مشاركته في أعمال المؤتمر العالمي الـثالث والعشرين للطاقة ولقائه الرئيس التركي، تشدد القصف الروسي لمدينة حلب في رسالة واضحة بأن ضغوطات الرئيس التركي لتخفيف الهجمات على المدينة لم تثمر.

وتأتي الرسالة الثانية في اليوم التالي لانتهاء لقاء لوزان الفاشل في الخامس عشر من أكتوبر الجاري لوزراء خارجية روسيا والولايات المتحدة ودول إقليمية أخرى، حين أعلنت موسكو عن إرسال حاملة الطائرات الوحيدة التي لديها مع الطاقم المرافق إلى البحر الأبيض المتوسط.

لهذا الإصرار على الموقف المتصلب دلالات خطيرة لدى الغرب لا يمكن النظر إليها بمعزل عن خطط روسيا لتوسيع وتطوير قاعدة حميميم الجوية في ريف اللاذقية وتأهيلها لاستقبال قاذفات استراتيجية ثقيلة قادرة على حمل قنابل نووية ولا بمعزل عن عملية تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة بحرية دائمة جنباً إلى جنب قيام وسائل الإعلام المحلية الروسية بتهيئة الرأي العام إلى احتمال وقوع حرب نووية مع الغرب، كما ذكرت صحيفة التايمز البريطانية في الثالث من أكتوبر الجاري.

نقلا عن “البيان”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً