اراء و أفكـار

رحلة أوباما إلى فيتنام وما بعدها

جميل مطر

 

رحلة أوباما في فيتنام تؤكد أن مسيرة التحول نحو آسيا وبخاصة نحو الشرق الأقصى في السياسة الخارجية مستمرة، وإن تباطأت قليلاً في الشهور الأخيرة. الرحلة، على قصر مدتها، تؤكد أيضاً أن إدارة باراك أوباما أفلحت في رسم علامات واضحة في مجال «إصلاح» السياسة الخارجية الأميركية. صحيح أن زيارة أوباما لكوبا وما أسفرت عنه من اتفاقات وتحول في مزاج الرأي العام في البلدين وعودة سلوكيات كوبية قديمة، كانت العلامة الأهم في هذا المجال. لكن صحيح أيضاً أن زيارة أوباما لفيتنام قد تثبت أنها الأهم على المدى المتوسط والمدى الطويل.
كان غريباً، بالنسبة لشخص مثلي مهتم بتطورات الأحداث وعلى دراية بسلوكيات الشعوب، رؤية الناس في شوارع مدينة هوشي منه، سايجون سابقاً، وهي تحتشد رافعة الأعلام الأميركية ومرحبة برئيس الولايات المتحدة، الدولة التي شنت على الشعب الفيتنامي حرباً دامت عشر سنوات (من 1965 إلى 1975)، راح ضحيتها مليونان من الفيتناميين وأكثر من 57 ألف جندي أميركي، وبدّدت أرصدة مالية وسياسية هائلة. كان غريباً أيضاً أن لا تنتظم في مدينة أميركية كبيرة أو صغيرة وفي أي من جامعاتها تظاهرة يقودها أقارب وأصدقاء الآلاف الذين سقطوا أو سجنوا خلال الحرب. أقول كان غريباً لأني كنت أحد الذين عاصروا عن قرب تمرد شباب أميركا وأوروبا بل شباب العالم على حرب فيتنام، وهو التمرد الذي كان وبحق أحد أهم العوامل وراء جهود هنري كيسنجر لإنهاء الحرب ووراء سعيه للانفتاح على الصين الشعبية. ما الذي حدث ليجعل الخصمان اللدودان، فيتنام وأميركا، يسعيان لطي صفحة الماضي وإقناع شعبيهما بضرورات التعاون والتقارب؟ حدث الكثير. حدث أن النمو المذهل للصين خلال العقود الأخيرة، مترافقاً بدرجات متفاوتة مع نمو أيضاً مذهل في دول آسيوية أخرى. حدث أيضاً أن دخلت الولايات المتحدة، الدولة الأعظم القابضة على توازن القوى الدولي، مرحلة تباطؤ في النمو والتوسع الرأسي في الاقتصاد والبناء الداخلي، يتبعه انحسار يناسبه في النفوذ الدولي. هذا النمو الآسيوي المطلق من ناحية والانحسار الأميركي النسبي من ناحية أخرى، كانا من بين المتغيرات التي شكلت خلفية سياسات توسعية من جانب الصين في منطقة بحر الصين الجنوبي. هناك في هذا البحر توجد المصالح الأكبر لدولة فيتنام وبخاصة الدفاعات البحرية والثروات النفطية والجزر والصخور المتناثرة بكثرة في البحر، وهي التي يمكن ببعض الجهد الربط بينها وإقامة مدن اصطناعية عسكرية وإنتاجية. التاريخ، بعيده وقريبه، يثير في الوعي الشعبي والاستراتيجي الفيتنامي ذكريات عداء متبادل لم تخفّ حدته في أي عهد منذ عهود أباطرة الصين، وحتى في ظل العهد الشيوعي، حيث ما زال يحكم ويتحكم في الدولتين حزبان شيوعيان.
هل كانت أميركا البادئة بالسعي لإقامة علاقات تعاون محل علاقات الخصام أم كانت فيتنام؟ من الصعوبة بمكان الإجابة بدقة وثقة، فالواضح لنا مثلاً هو أن أميركا كانت شديدة الرغبة لأن قطاعاً مهماً في البنتاغون صار يرى أمن أميركا مهدداً اذا تحققت للصين الهيمنة واحتكار النفوذ في منطقة بحر الصين الجنوبي. هذا القطاع يعتبر بحر الصين شريان التجارة بين دول جنوب آسيا وبينها وبين الدول الباسيفيكية ومنها، أو على رأسها، أميركا. تمرّ في هذا البحر ما قيمته 5,3 تريليون دولار، وفي أعماقه يوجد ما لا يقلّ عن 213 مليار برميل من النفط.
نحن الآن أكثر وعياً بالدور الحيوي الذي لعبه باراك أوباما منذ وصوله الى الحكم في 2008. ففي ذلك الحين ظهرت ملامح سلوكيات تهدئة في تنفيذ السياسة الخارجية، بدأت مترددة ثم رسخت بالانسحاب الفعلي المتراكم من أفغانستان والعراق ورفض الاشتراك في عمليات عسكرية برية في أي مكان آخر. ظهرت أيضاً من خلال جهود معلنة تسعى للانفتاح على خصوم تقليديين. بالنسبة لفيتنام، كلف أوباما وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بزيارة هانوي. وفي 2014، سربت واشنطن نيتها تقديم تنازلات رمزية لتخفيف الحصار المفروض على فيتنام. وفي 2015، حلت زيارة السكرتير العام للحزب الشيوعي الفيتنامي لواشنطن حين وقع على اتفاقية شراكة بين البلدين.
ثم جاءت زيارة أوباما كواحدة من أعمال تتويج مرحلته في الحكم. ذهب إلى هناك يحمل معه قراراً برفع الحظر عن تصدير السلاح إلى فيتنام. نسي أو تناسى أن يأخذ قراراً بفرض عقوبات جديدة إذا استمرّت القيادة الفيتنامية الحاكمة في قمع الحريات وخرق حقوق الإنسان. خاب أمل أنصار الحقوق والليبراليين. كان المقرّر أن يقول كلاماً لا أكثر. هؤلاء أرادوا أكثر. هؤلاء كأقرانهم في كوبا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية لا يصدقون أن هناك حدوداً للقوة الأميركية وقيوداً عليها قد لا تظهر للشخص العادي. هؤلاء لا يدركون أن واشنطن ليست مطلقة القوة والنفوذ في تعاملها مع أنظمة حكم فاشية أو سلطوية في العالم النامي. البعض منا ربما لم يلاحظ أنه في كل مرة تقرر دولة تسلطية في العالم النامي التقارب مع أميركا أو الدخول معها في شراكة أو تحالف، فإنها تسبق أقدامها على ذلك بزيادة القمع ضد شعوبها ومطاردة الشبان المتمردين على قوانين استثنائية أو النقص في الحريات. حكومات هذه الدول أو بعضها على الأقل مستعدة لأن تفقد صفقات سلاح أو معونات اقتصادية وتنموية إذا شعرت أن أميركا ستكون جادة في المطالبة برعاية الحقوق واحترام الحريات. أظنّ، بل وأعرف، أن واشنطن فهمت هذا الأمر، مدركة وبحق أن بعض أنظمة الحكم في الدول الصغيرة أقوى إرادة منها.

نقلا عن “السفير”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً