اراء و أفكـار

الأمن التكنوقراطي والضرورة المستحيلة

طارق الدليمي

بعد سنوات قاحلة وخراب عم البلاد، نجد أن أميركا ما زالت تدير «العملية السياسية» الخاصة باحتلال العراق واستنزاف ثرواته وتقسيم شعبه. وبرغم التهويشات النابية التي تطلقها مراكز أبحاث «الطاقة» عن الدور الحصيف لإدارة «اوباما» وعقيدته الخاصة، فإن الوقائع تصرخ بحدة معاكسة لهذا الهذر اليومي. ونعود إلى الأكاديمي المعروف ريموند هاينبوش، الذي يسجل صراحة أن الأساس التاريخي لثلاثية الاحـــتلال، والمكونات، والإرهاب المسلح، تكمن في الاستراتيجيا الامــــيركية ذاتها. وهو يشير في هذا الاطار إلى الكراس الذي صدر في العام 2004، في الســـنة الثانية للاحــــتلال، من قبل «مجلس المخابرات القــــومي الأميركي»، بعنوان «رســــم خريــــطة المستقبل العالمي 2020»، وكيف أنه في الصفحات 80 ـ 90، يتضمن كلاماً مفصلاً عن ظهور «دولة الخــلافة» في العــــراق وسوريا، وكيـــف أن هذه الظاهرة المتوقعة ستـــبدأ بتهديد المنطقة بأســــرها، وستفرض نهجاً أميركياً جديداً في مكافحة الإسلام السياسي المسلح الصاعد.
المعلومات هذه تضغط على الباحث وعلى آخرين للاستنتاج بيسر أن أميركا لا يمكنها: اولاً، الانكفاء كلياً عن المنطقة وفي المركز منها العراق وسوريا. وثانياً، التذرع بأن الحرب طويلة مع دولة الخلافة هذه، علماً ان عدم الرغبة في الانخراط العسكري الشامل هو الذي يفسر بقاء «دولة الخلافة» هذه لمدة تناهز السنتين الآن ومن دون ظهور مؤشرات جدية على نهاية لها. ففي العراق مناطق من الرمادي ما زالت تحت سلاحها، وهي تقاتل بمرونة عالية في بغداد وكركوك وديالى وصلاح الدين، وتقبض على أنفاس الفلوجة المحاصرة وتحتفظ بسيطرتها الشاملة على الموصل. بل إن اميركا ساعدت مؤخراً وبأسلوب مسرحي رثّ، على رجوع السعودية إلى العراق وحياكة دورها الديبلوماسي التخريبي في الحياة السياسية الداخلية. وقد أوضح الباحث السويدي في جامعة «ايست انكليا» البريطانية جوهان فرانزين في مطالعته الجديرة بأن هناك تطابقاً مدهشاً بين بروز وصعود السعودية في بداية القرن السابق وتحت الرعاية البريطانية، وبروز وصعود «دولة الخلافة» الآن تحت الرعاية الأميركية والمحور النفطي الخليجي. وكانت بريطانيا قد استخدمت السعودية في بداية تأسيس العراق في العام 1921، كأداة لتدجين النخب «السنية» الحاكمة آنذاك لتحقيق مكاسبها في الاحتلال والانتداب. فيما توظف أميركا حالياً «دولة الخلافة» في المضمار نفسه من أجل ضرب النخب «الشيعية» المتحكمة برقاب العراق وشعبه، بل حتى لتدمير سوريا ودولتها الوطنية، ومحاولة الانقضاض على لبنان ومقاومته المسلّحة المشروعة ضد إسرائيل.
تناقضات اللوحة السياسية
في الصراع الدائر راهناً على السلطة السياسية وثروات الطاقة، تحاول أميركا إنجاز الحد الأدنى من «البقاء» السياسي للمكوّنات العراقية وتمسّكها بالعملية السياسية. والرئيس أوباما يتبنى فكرة تقليدية في الاقتصاد السياسي، تتمثل بـ «النأي عن المخاطرة»، حيث المستثمر يفضل مردوداً ضئيلاً بمخاطر معروفة على المردود الكبير بمخاطر مجهولة. وهو يناور هنا بين البعد السياسي من جهة، للحفاظ على الدور المركزي للاحتلال، والبعد العسكري من جهة أخرى، كي يكون المقرر دائماً في الــــمبادرة والنتائج التي يحبّذها، حتى لو كـــانت علناً متناقضة مع الطموحات المتواضعة لوزارة «التفويض» برئاسة حيدر العبادي.
وبرغم أن الاحتلال يدعم هذه الحكومة، فإنه يضغط دوماً من أجل أن يكون «التسنن السياسي» شريكاً معقولاً لها لتمرير البرنامج بحذافيره. وهذا ما يمكن تلمسه مؤخراً في النشاط العلني والسري لرئيس البرلمان سليم الجبوري، وهو القيادي الثاني في «الحزب الإسلامي» العراقي، الواجهة السياسية تاريخياً لحركة «الإخوان المسلمين» في العراق. وهو شخصية زئبقية يخطب علناً في مديح قوات «الحشد الشعبي»، المدعومة من قبل المرجعية في النجف والحكومة أيضاً، ودورها في تحرير بعض المناطق من أنياب «داعش»، ويكتب مقالة في جريدة «نيويورك تايمز» في آذار الماضي، يطالب فيها الاحتلال بإبعاد الميليشيات الشيعية عن معركة الموصل المقبلة، التي يجري التحضير لها من دون جدوى. وحين تتهمه دوائر معينة من «التشيّع السياسي» بالارتباط بالمخطط الخليجي لتقسيم العراق والترويج «لإقليم السنة»، تسارع بــــعض الجهات العشائرية والسياسية من «التسنن السياسي» للإشارة إلى علاقته الملتبسة مع بعض الدوائر الحاكمة في طهران والمتنـــفذة في بغداد. لـــكن، في المحصلة، يظهر الجبوري بحكم منصبه الخاص وعلاقاته المتــــميّزة بأنه رجل الاحتلال الآن، والموكل إليه تـــمرير ملفات ســـياسية ومالية، اتضـــحت طبيعـــتها مؤخراً إثر نشـــاطه الخاص بتشـــكيل حكومة «التكــــنوقراط» العتـــيدة، واستقباله الخاص للأمين العام للأمم المتحدة برفـــقة مديري البــــنك الدولي وصـــندوق النقد الـــدولي، وعقده العديد من الــــبروتوكولات معهما ومع منظمات أخرى تدور في فلك الاحتلال الاميركي.
المجمع الأمني والاحتلال
لكن آلية تشكيل المجمّعات الأمنية في المجال الحيوي للاحتلال تتضح أكثر من خلال أساليب أميركا، منذ ولاية جاي غارنر الأولى اثناء الاحتلال، وبعده ولاية بول بريمر وكل الحكومات المتعاونة التي تلته. فالاهتمام كان دائماً يتركز على «الأمن الجنائي» سياسياً، أكثر من الاعتناء «بالأمن السياسي» جنائياً. وهذا ما يفسر، أقله على صعيد الفساد المتفشي في الإدارات والمجتمع، كيف أن التنظيمات المسلحة، السياسية منها والطوائفية، أصبحت واحدة من فروع عصابات الجريمة المنظمة اجتماعياً، والعكس هو صحيح أيضاً. والحقيقة الساطعة أن هذه الأساليب هي امتداد للمجمّعات الأمنية الإقليمية، ومنها العراق والخليج بعد الاحتلال خاصة، التي تتضمن برامج سياسية جنائية، تشكل العصب الأساس للأمن القومي الأميركي في الداخل والخارج معاً. وضمن هذا الإطار يجب عدم إهمال العلاقة بين هذه «المجمّعات الأمنية» والقلاع العسكرية لـ «دولة الخلافة»، تحديداً في الموصل والرقة، وكيف أن أميركا تعرقل الجهود المتوفرة عملياً لتحرير هذه المدن من النير الإرهابي للإسلام السياسي المسلح. ومن الطريف في هذا المجرى متابعة الأخبار المنشورة في الصحافة العراقية، ومعظمها مرتبط إعلامياً وسياسياً بالاحتلال، حول دور ونشاطات «المخبرين» وثيقي الصلة بالأجهزة الأمنية الحكومية في بغداد. وهذا أيضاً لا يختلف عن النشاطات الأمنية لدولة الخلافة والمخبرين المجنّدين في هذا الإطار، والاختراقات جارية على قدم وساق بين الأطراف كافة وبصورة علنية أحياناً.
التكنوقراط واستئصال الحراك السياسي
بيد أن أكثر ما يمكن ملاحظته في هذه الغابة الكثيفة هو الدور المشترك بين التيار الصدري والمتعاطفين معه، والتيار المدني المزعوم والمدعوم من قبل الاحتلال والعديد من مؤسساته العابرة للقوميات والأديان. فقد حلق الجناحان بالريموت كونترول في فضاء الاحتجاجات الشعبية، وساهما بعزيمة لا يشق لها غبار في تبديد أوهام الجميع، حول احتمالات الحصول على الحد الأدنى من المطالب في ظل العملية السياسية الاحتلالية. والظاهر أن الساحة فعلياً كانت مكرّسة لتظهير فعاليات سياسية «للتشيّع الطوائفي» الحاكم، وإصرار الاحتلال بمعونة «الكوندومينيوم» الإقليمي على «الضرورة المستحيلة» لبقائه على رأس السلطة السياسية في بغداد.
بل إن بعض أوراق الشاي المهرّبة من دول الجوار كشفت أن الاحتلال مازال متمسكاً، حتى إشعار آخر، بحزب «الدعوة» بعجره وبجره، لأنه يرى أنه قطب الرحى المتين في التحالف العريض الجامع بين التشيع الطوائفي الحاكم وذاك المنتمي إلى المعارضة زوراً وبهتاناً. وهي تعتقد أن أدوار القيادات الأخرى، ومنها مبادرة «المجلس الأعلى» برئاسة عمار الحكيم، مكملة في هذه السمفونية الطوائفية المركبة، التي تجد من يستمع إليها بشغف حتى داخل «المكونات» الأخرى، التي تدّعي أنــها متضررة من هذا الفيلم الهندي الشقي.
ونظراً لأن قوى التشيّع الطوائفي الأخرى لم تكن عملياً على مستوى المسؤولية، وقد كانت بليدة في ملاحقة الاحتجاجات، فهي تستحق أن تتهم بما يدعو إلى عدم الاطمئنان إلى كفاءتها وأغراضها القريبة أو البعيدة. ناهيك عن الشكوك التي تحوم حول مصادرها الجماهيرية وكذلك قدراتها في تعبئة حتى قواعدها الشعبية الخاصة.
وفي النهاية، وفي ظل الأزمة الخانقة لـ «التسنن السياسي» وتبعثر قياداته الميدانية وصعوبة تلمس الفروق الجوهرية بين بعض تياراته المعارضة وبين علاقاتهم الغامضة بالعديد من المنظمات الإسلامية المتطرفة، بما فيها «داعش»، فإن الدور المركزي للتشيع الطوائفي سيظل هو العتلة الفعلية، في التحرك أو الجمود. وبرغم محاولات الاحتلال الخائبة كلها، الا أن الدور الكردي ينحسر بشكل واضح في «سنجقه» الخاص، فيما بغداد، بحسب تصريحات مهمة للســــياسي الكردي «المستقل»، ليس عن الاحتلال، محمود عثمان، بدأت تتعامل علناً مع «الكردية العشائرية» بطرق سياسية، وليـــــس كأحد المكــونات «الضالة» الخارجة من الجسد العراقي الجيوسياسي.

نقلا عن “السفير”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً