اراء و أفكـار

الملابسات السياسية لحياة زها حديد

في تصريح لصحيفة «الغارديان» البريطانية يلخّص علاقتها المعقّدة مع العالم تقول المعمارية العراقية زها حديد: «في اللحظة التي تم قبول كوني امرأة، فإن كوني عربيّة أصبح إشكاليّة».
رغم هذا الحسّ المتوتّر مع العالم، القائم على محاربتها لكونها امرأة، في البداية، ثم عربيّة، لاحقاً، بنت زها حديد (توفيت أمس الأول الخميس) مكانة لم تسبقها إليها أي امرأة عربيّة، أو غير عربية، فحديد لم تكن الأولى في مجالها المهنيّ عربياً ولكنّها كانت أول امرأة في العالم تتمكن من اجتياز عوائق كبرى في وجه أي امرأة سبقتها، وكانت علامات نجاحها في ذلك كثيرة، منها، على سبيل المثال، كونها أول امرأة في العالم تنال جائزة «بريتزكر» (عام 2004) والتي تعد بمثابة «نوبل» الهندسة المعمارية، وهذا واحد فقط من إنجازات كبرى تحتاج قائمة طويلة لإحصائها.
بسبب محاربة نجاحها العالميّ، الذي يمتدّ من اليابان وأستراليا والشرق الأوسط وأوروبا وصولاً إلى أمريكا، واجهت حديد ضغوطاً هائلة، أخذت في المرحلة الأخيرة من حياتها طابعاً سياسياً متزايداً، ينتقد أعمالا هندسية لها في روسيا والصين ودول الخليج العربي، ليس على أسس معماريّة ولكن على أسس سياسية.
أجج الصراع البريطاني مع روسيا وقطر على استضافة مونديال كرة القدم في دورتي 2018 و2022 (الذي ذهب للبلدين بعد تصويت «الفيفا») أوار الهجمات عليها، وخصوصاً بعد تصميمها لاستاد «الوكرة» في قطر.
وقد أدّى هجوم لناقد أمريكي في مجلة «نيويورك ريفيو» للكتب عليها يزعم أن ألف عامل توفّوا خلال بنائهم لهذا الاستاد إلى ربحها دعوى قذف وتشهير ضد المجلة تبرّعت المعماريّة بقيمتها لجمعيات خيرية.
في سيرة المعماريّة الراحلة تمرّ أحياناً معلومة أن والدها، محمد حديد، كان وزيراً للماليّة في العراق، ولكن أغلب السير المكتوبة عنها لا تحلّل مفارقات الإرث الحضاريّ العميق الذي تحمله جينات حديد، الفيزيائية منها والحضارية، فوالدها كان أحد مؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي العراقي، وهو من مدينة الموصل التي تقبع حالياً تحت حكم تنظيم «الدولة الإسلامية»، في مفارقة كبرى تكشف مآلات جيل أبيها وجيلها.
حاول الجيل الأول، ممثلا بالأب، أن يستزرع قيم الديمقراطية والليبرالية وأساليب الاقتصاد الحديث في العراق، وناصر ثورة 1958 في بداياتها قبل أن يعود للعمل السياسيّ المعارض لينتهي المطاف به متوفّياً في بريطانيا عام 1999.
أما جيل زها فحمل إرث أسلافه الثقافيّ إلى مكان أبعد بكثير بحيث رفع راية العراق العلميّة والحضارية في كافّة أنحاء العالم، لترحل الآن في بقعة بعيدة جداً عن وطنها (ميامي، في فلوريدا الأمريكية).
مزعج أننا لا نعرف ما كان شعور زها حديد في الذي حصل للموصل، مدينة أجدادها القدماء، المحتلّة جوّاً من طائرات تحالف أجنبيّ، وأرضاً من تنظيم هو أكثر ما يكون ابتعاداً عن قيم أبيها السياسية، وتستعد قطعات «الحشد الشعبي» لـ»تحريرها» والانتقام من أهلها بذريعة حوادث حصلت قبل أكثر من ألف عام.
ما نعرفه حقّا أن زها حديد كانت تغلي غضباً من الحملات التي كانت تنهال عليها، والتي كانت تواجهها، أحياناً، بالطرق القانونية المعروفة. نعرف أيضاً أن موجات الحسد والعداوة ضدها قد تمكنت أحياناً من توجيه ضربات قاسية لها، فحجبت عنها بعض المشاريع الكبرى بعد موافقات رسميّة عليها، مما أثار جدالات حول علاقة هذه الحملات بكونها امرأة عراقية عربية ومسلمة.
بموت زها حديد يُسدل الستار على فصل كبير من تاريخ العالم المعماريّ الحديث المليء، في حالتها، بالدلالات وإمكانيات القراءة لتداخلات قضايا الفن والعلم الهندسي بمسائل النسوية والسياسة.
تغيب معه الموصل (إلى حين)… ومن ورائها العراق.

نقلا عن “القدس العربي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً