اراء و أفكـار

الدين والسياسة: لعبة مزدوجة ورهانات خاسرة

صلاح سالم
وزّعت وزارة الأوقاف المصرية يوم الاثنين في الرابع من كانون الثاني (يناير)، وفق ما ذكرت صحيفة «المصري اليوم»، منشوراً على أئمة المساجد التابعة لها يتعلّق بموضوع خطبة الجمعة، والذي حدّدته بـ «حرمة التظاهر في 25 يناير»، استناداً إلى فتوى من دار الإفتاء تصف الدعوات إلى الخروج والتظاهر في هذا اليوم بأنها «جريمة متكاملة ودعوات مسمومة ومشؤومة تهدف إلى تخريب البلاد والقتل والتدمير»، وتتّهم من يطلقها بـ «توريط المصريين في العنف والإرهاب لمصلحة أعداء الوطن» إلخ… أما عقاب الإمام المتمرد، فهو الحرمان من منحة مالية شهرية معتبرة بدأ صرفها هذا الشهر كبديل لصعود المنبر!
يكشف المنشور عن المدى الذي تذهب إليه الدولة المصرية راهناً في الاستخدام السياسي للدين تكريساً لمشروعيّتها وحفاظاً على استقرارها، ما ينفي عنها ليس فقط صفة الديموقراطية التي تجعل المشروعية رهناً بإرادة الجماهير السياسية، لا التخويف الديني، بل أيضاً صفة المدنية، وذلك عندما ترهن مشروعيتها السياسية بالأمر الديني، ما يعني أن الشريعة الإسلامية هنا، وليس الدستور المدني الذي استُفتي الناس عليه عام 2014، هي المؤسِّسة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
يأتي ذلك على خلفية دعوة رئيس الجمهورية رجال الأزهر الى ضرورة تجديد الخطاب الديني، والتي ألحّ عليها مراراً، بل عاتبهم على البطء في تنفيذها. فهل أمر السيد الرئيس وزير الأوقاف بتوزيع هذا المنشور، أو كان على علم به قبل توزيعه ورضي عنه؟ وإن لم يكن قد أمر به أو عرف عنه، فلماذا صمت إزاء الوزير الذي أصدره فلم يسائله أو يعاقبه أو يردعه؟
في كل الأحوال، نحن أمام عملية استدعاء واضح للدين إلى المجال العام، لا يقوم بها المتأسلمون من خارج نظام الحكم، بل المؤسسة الدينية من قلب هذا النظام ولخدمته، وهي تتنافي بالضرورة مع دعوته السابقة الى الإصلاح. ومن ثم تثور تساؤلات عدة حول مدى جدية الدولة المصرية في تأسيس مشروعية مدنية حديثة، قادرة على مصادرة ادعاءات الدين السياسي بالقدرة على تنظيم المجتمعات، وصوغ المؤسسات، وعلى إدارة المجال العام، والتحكم في حركة الواقع اليومي.
قد يكون منشور كهذا مفيداً للنظام راهناً في تقليل بعض أخطار الفوران السياسي، ومن ثم في تثبيت شرعيته. لكنه وما يشبهه من ممارسات، إنما يؤدي في النهاية إلى تغذية الشرعية المضادة له من طريق إبقاء الدين في قلب المجال العام، قابلاً للاستخدام من القادرين على ذلك، خصوصاً القوى المتأسلمة المتباينة في درجات تطرفها. تتصور الدولة أنها أذكى من المجتمع وأقدر منه على توظيف الدين، لكن المفاجأة غير السارة، والتي طالما كشفت عن نفسها، هي أن الدين السياسي أذكى منها في توظيفه.
لقد فعلها الرئيس السادات قبلاً ودفع حياته ثمناً، غير أن دم السادات لم يكن قرباناً كافياً لتوقيف جولات الثأر بين الدولة ومؤسساتها الدينية من ناحية، ومجتمع التأسلم والدين الاحتجاجي من ناحية أخرى.
وفي توظيفها القاصر والموقت للمؤسسات الدينية، تجهل الدولة أو تتناسى أن الفقيه التقليدي هو ما يحتبس دعوتها الى التجديد عن الجماهير، من خلال موقعه المركزي في قلب نظامي التعليم الديني والفتوى، ليبقى له هذا الموقع المائز في الشأن العام، والذي يمكن من خلاله إقصاء المتحدّثين الآخرين باسم عملية الإصلاح أو التنوير، خصوصاً المفكر المستنير، الذي يهدّد نقاء الدين وفق تصورات ذلك الفقيه، والذي يكفيه عند كل اشتباك مع المفكر، كما هو جارٍ الآن في محنة إسلام بحيري، أن يعلن عن ذلك التهديد لتتكفّل السلطة بالتنكيل بالمفكر، وربما بمساعدة الجماهير، على رغم أن دوافعه الأساسية ليست إلا شعوره بالمسؤولية عن تحرير تلك الجماهير من قيود العقل الخرافي، والاستبداد السياسي، فيما يتمتع الفقيه بحماية هذا الاستبداد، مقابل الحصول على تكريسه. لكن الجماهير غير قادرة على اكتشاف ذلك بنفسها، ولا على تصديق المفكر إذا ما أعلنه أمامها، ومن ثم فهي انتصرت للفقيه مراراً، وأدانت المفكر تكراراً.
لقد آن الأوان، خصوصاً في مصر في أعقاب ثورتين أو حتى انتفاضتين كبريين، كي تخلص الدولة لمهمة الإصلاح والنهوض والتجديد، ما يفرض عليها اتخاذ موقف رعوي من المفكر المستنير، يحتاج إليه حتى يتمكّن من تقديم وصفته الجديدة إلى الجماهير الواسعة. فهو لا يخطب في مسجد يتم من على منبره تلقين الناس تعاليمه الأبوية، ولا يملك عيادة يعالج فيها أمراضهم المتفشّية ويبثّ منها أفكاره الانغلاقية، ولا يأتيه مال من حركات ودول يمكن توظيفه في شراء انتماءاتهم العقلية. فالمفكر التنويري، الموثوق بإخلاصه للحقيقة والوطن إذ يمضي عمره في فهم التجربة الإنسانية، لا يسعى إلى السلطة ولا يجتهد في نسج علاقات عامة مع مسؤولين، كما يأبى تقديم خدمات «ديليفري» إلى رجال أعمال فضائيين. لذا يتعين على الدولة أن تسعى إليه وتطلب دوره، وتمنحه القنوات التى تضمن له ممارسه هذا الدور. والأهم، أن تفتح له عقلها وقلبها، أن تتقبل نقده العنيف أحياناً لها، لأنها لن تحقّق نجاحاً يذكر في مسعاها إلا إذا دفعت ثمناً له من سلطويتها، يتمثل في كبح جماح تغوّلها على مجتمعها.

نقلا عن “الحياة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً