اراء و أفكـار

في عام عربي جديد: نراهن على الأمل

يودّع العرب والمسلمون عام 2015 وفي قلوبهم غصّات كثيرة، بعد انحسار أحلام الشعوب عام 2011 باندراج بلدانها في خط التطوّر العام للبشرية بحيث تضيق الفجوة الهائلة بين الحكّام وعائلاتهم والجماعات المستفيدة منهم التي تجثم على صدور الناس ناشرة الاستبداد والفساد والظلم، وترتفع رايات التنمية الرشيدة والحوكمة العادلة وتستعيد المدنية أسسها الراسخة في حضارات العرب والمسلمين، ويتراجع تغوّل الحكومات ضد مواطنيها، فتتنافس الأحزاب على أصوات المصوّتين، ويسود القانون على الغني والفقير، وتتغيّر علاقات الحكومات التي تحميها أصوات جماهيرها مع القوى العالمية النافذة فتنكسر صيغة التابع والمتبوع، وتتغيّر المعادلة الكاسرة التي سمحت لإسرائيل وحلفائها بمواجهة المشاريع الوطنية العربية وتفكيك أثرها.
لقد انحسرت هذه الحركة الهائلة التي صنعتها شعوب المنطقة باعتصاماتها، وتحشداتها، وتظاهراتها، وشعاراتها الساخرة والمبكية، وقوى تعبيرها المبدعة، وتضحياتها الجسيمة، أمام هجوم عنيف للطغم التي شكّلت، لاستعادة مصالحها وأملاكها المحتلّة، أحلافاً واسعة تجمع مصالح عالمية وإقليمية ومحلّية، وقد شاركت الصراعات الأيديولوجية المستحكمة بين الاتجاهات السياسية العربية في «المجهود الحربيّ» لاستعادة الثورات المضادة لسلطاتها، وتخلّى كثير من المثقفين والنخب المدنية والقانونية عن بوصلتهم الإنسانية والأخلاقية في سبيل القضاء على أعدائهم الأيديولوجيين مما فتح الطريق إلى عودة السلطات القديمة، بوجوه جديدة أحيانا، ولكن بشراسة أكبر.
لكنّ هذا الحراك الكبير، رغم الدمار الواسع الذي خلفته الهجمة الكاسرة ضده، دليل كاشف على أن روح الحياة والتقدم والرغبة في التطوّر والحداثة، ومنافسة الأمم الأخرى في سباق الوجود والمكانة، ما زالت أقوى من كل قوى الموت والظلام والقهر.
في مقبل العام الميلادي الجديد نحاول أن نتبين شمعاتنا الصغيرة التي تضيء الظلام، وكأسنا نصف الملأى، فنرى هبّة فلسطين وشعب «الجبّارين» وبطولات المرابطين في الأرض المقدّسة لثلاث ديانات، ونقرأ في الحركات المعجزة لأجساد الشبان والشابات الذين يواجهون آلة القتل وفي عيونهم ملامح مستقبل يطوي راية الظلم والاحتلال والغلبة.
في هذا العام نتطلّع باهتمام إلى تحشّد دول الخليج العربي لمواجهة استحقاقات النزاع اليمني، ومع دخول الكويت على خط الحرب هناك، تتعزّز الوحدة بين أطراف مجلس التعاون الذين استفاد أعداؤهم الإقليميون من خلافاتهم.
في العراق، الذي انبطح مثل مارد عملاق بعد أن أعملت فيه سكاكين الأعداء والأصدقاء عملها، وانفتحت قلعته العربية أمام النفوذ الإيراني الطاغي، فأنتجت، مع عقود الظلم والحصار والاحتلال الأمريكي البغيضة، وسنوات طغمة الفساد الطائفية التابعة، نقيضها الوحشيّ على شكل «الدولة الإسلامية» المزعومة التي لقي مشروعها الانتحاري هزيمة كبيرة له في مدينة الرمادي.
وفي سوريا، التي شهدت اتفاقاً أممياً غامضاً، انتهى العام بتبادل خروج مسلحين وعائلات معارضين وموالين من مناطق حصار واستعصاء، فيما يحاول سكّانها، بعد أن أفقدهم العالم الأمل، الهروب إلى بلاد الله الواسعة، وتحاول فصائل معارضتها ردّ غوائل الهجوم الروسيّ الذي يكمل تدمير البلد للحفاظ على النظام الذي يؤيده.
وفي مصر، التي تشهد ذكرى ثورتها الشهر المقبل، يسعى النظام لتدوير مربّع صعب، بعد أن أنتج انتخابات شكليّة أخرج فيها كل القوى المعارضة من البرلمان، ليتوازى ذلك مع إقصائها في السجون، وأقفل الحدود والمعابر والأنفاق على الفلسطينيين، وهجّر سكان رفح المصرية، فيما يقود الحلّ الأمنيّ العسكري ضد «الإرهاب»، وهو ما خلّف آثاراً فظيعة على اقتصاد وسياحة وأمن الكنانة.
وفي ليبيا تحاول الأطراف الدولية جمع الحكومتين والبرلمانين والجيشين المتقاتلين بعد أن فاضت الشواطئ بالمهاجرين واستفحل أمر تنظيم «الدولة» الذي استفاد من الانشقاق الكبير والاختلال الأمني ومظلوميّات عشائر وجماعات كانت محسوبة على القذافي.
وفي تونس يتقاتل قادة حزب «نداء تونس» الحاكم ويتبادلون اتهامات الخيانة القاسية، في الوقت الذي يتوقع فيه شعب تونس منهم عون حكومته الفريدة من نوعها (كونها نتيجة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي) في تأمين الأمن والتنمية والعدالة.
وتبقى حالات البلدان العربية الأخرى تنويعات في قوس قزح هذه الجدلية المليئة بالرعب والأمل. الرعب من المآل الذي يمكن أن تهبط فيه الحالة العربية أكثر، والأمل بأن تكون التضحيات غير المسبوقة للشعوب مفتاحاً لغد أفضل للأجيال الجديدة.
في العام الجديد نراهن على الأمل.

نقلاً عن “القدس العربي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً