اراء و أفكـار

أمراض الدولة: السمنة البيروقراطية

محمد أبو النواعير*

“البروقراطية” كلمة أصبحت شائعة، سواء بين فئات المثقفين او المواطنين العاديين، وهذه الكلمة وبحسب أصولها وجذورها اللغوية القديمة، تعني: حكم المكاتب.

وارتبط استخدامها بالاتجاهات الليبرالية في القرن الثامن عشر، ثم ترسخ في القرن التاسع عشر، على يد الثوريين الفرنسيين، الذين كانوا يفضلون سلطان الطبيعة على الإنسان، عن سلطان الإنسان على الإنسان؛ ومصطلح البيروقراطية من منظور دلالته الاجتماعية، يتميز بالتنوع، فهو ذو مضمون اجتماعي- سياسي، يكون عادة تابعا لنوعية القوة السياسية الاجتماعية المنمطة في بلد معين.

ومع ما يحمله هذا المصطلح من دلالات مصطبغة بسلبية واضحة، إلا أننا يمكن أن نرصد اتجاهين رئيسيين لتفسيره؛ الاتجاه الأول: يحاول ان يسبغ على هذا المصطلح معنى إداريا بحتا، فيقدم صورة لعالم بأكمله من المكاتب والموظفين والسعاة والأوراق والملفات والروتين؛ وهي صورة تمثل البطء والتهرب من المسؤولية، وأحيانا القهر والظلم. والاتجاه الثاني: يحاول أن يفسر هذا المصطلح تفسيرا سياسيا، ليرسم صورة لطبقة من الموظفين، التي تستخدم سلطتها المكتبية، في سبيل الحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية واجتماعية على حساب الشعب، وتمارس سلطتها بطريقة تعسفية، بل واستبدادية أحيانا.

ما تم توصيفه يمثل الحالة الإدارية في بلد من البلدان، يصر القائمين على منظومته التشريعية والقانونية، أن يسير ويُسَيِّر مواطنيه، بمتاهات طويلة من الإجراء الروتيني القاتل؛ إلا أن ما يحصل في العراق هو أشد وقعا.

ففي العراق، كان اندفاع الدولة اتجاه فتح مجال التعيين الوظيفي، كآلية لامتصاص البطالة المتفشية، أثر كبير في حصول حالة تضخم وسمنة وترهل في جسد الدولة المؤسساتي، مما أثقل كاهل الدولة اقتصاديا وماديا، وأدى الى تكوين جيش من العاطلين (برواتب)؛ ومع أن المعادلة القائمة في كل بلد يريد التطور، هو أن تكون هناك منفعة متبادلة بين أي طرفين يمثلان مشروعا تنمويا قائما؛ إلا أن هذا لا يحصل في العراق. فأغلب المواطنين من الطبقة الوظيفية، هم فئة زائدة عن الملاك الوظيفي. هذا الأمر قاد بالنتيجة الى حصول حالات مبالغ فيها من البيروقراطية والروتين، والذي أضاف الى المواطن (المراجع) هما كبيرا لا يقل حجما عن هموم أخرى، كَهَمِّ الإرهاب، وهَم العَوز، وهم الخوف من المستقبل.

سوء التخطيط، وسوء إدارة الموارد والثروات، وسيطرة المحسوبيات القرائبية والعشائرية والحزبية، وسوء تفعيل الجهاز الرقابي والعقابي في الدولة، مع سيطرة مافيوية على المجال الاقتصادي. تطورت بعد ذلك الى مافيات محترفة ومنظمة؛ كل ذلك أدى- مع ما تقوم به الدولة من عمليات توظيف مستمرة للمواطنين- إلى التأسيس لضعف في البنية الاقتصادية من جانب، وفي البنية الفكرية الوظيفية من جانب آخر؛ فأكثر من 60% من الموظفين، ممن لا حاجة للدولة بهم، سوى اسكات أصواتهم المطالبة بتأمين مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، أدى توظيفهم الى ضعف البنية الفكرية الإنتاجية لأكثرهم، خاصة وأنهم لا يمثلون شيئا، من الفاعلية الوظيفية والحركية في اجهزة الدولة؛ كل ذلك أدى الى افتقادهم لأهم عامل من عوامل التطوير الوظيفي، والذي يصب في خانة تطور مؤسسات الدولة؛ وأقصد به التطور الناتج عن تراكم الخبرات، والاحتكاك المباشر، مع المشاكل الوظيفية اليومية، التي تعمل على صقل مواهب المنتمين لأي مؤسسة وظيفية؛ واستمرار هذه الحالة، وبمرور سنين طويلة، سيؤدي الى ضعف وشيخوخة وتهاوي، للمؤسسات التي تدير الدولة والتي تديرها الدولة.

قد لا يكون الحل سهلا، ولكن توجه الدولة نحو قطاعات الاستثمار الخاص، وتسهيل تواجد الشركات المستثمرة، مع شرط الدولة على هذه الشركات، تشغيل اليد العاملة العراقية حصرا في معاملها ومؤسساتها؛ والأهم: مراقبة ومحاسبة انسيابية عمل هذه الشركات، والوقوف بالضد من أي محاولة من أي جهة كانت، لممارسة الابتزاز تجاه هذه الشركات؛ كل ذلك في رأيي سوف يقود الى تصحيح بعض المسارات، كحلول بدائية تعمل في البداية كروافع ودعامات، توفر الإمكانية الإدارية السلسة لحل مشكلتي: تطوير الإقتصاد+ القضاء على البطالة.

ما هو موجود اليوم في العراق من سمنة ادارية، عملت وستعمل وبشكل تدريجي، على انهيار مفهوم الدولة المؤسساتية؛ وستؤدي الى تراجع فضيع في قوة وعافية الهيكلة الإدارية لإدارة البلد عبر مؤسساته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً