اراء و أفكـار

لحظة 2014

احمد سعداوي*
1 ـ
تبدو العشرية [2003-2013] جملة رقمية مغرية لتتبع عتبات التغيير في العراق، وأزعم هنا أنهما حدان يشبهان القوسين، القوس الأول مثّل بداية كاسحة للتغيير؛ تغيير النظام السياسي في العراق عن طريق الاحتلال الاميركي للبلد، تغيير المعادلة الاجتماعية السياسية، اختفاء نخبة سياسية وظهور نخبة سياسية جديدة، تحطيم “الدولة”، وبداية مشروع دولة جديدة، وضع خريطة طريق لتكوين نظام سياسي جديد. تفجير الارض الاجتماعية للعراق وبدء الحرب الاهلية.
أما في القوس الثاني سنرى؛ إنسحاب القوة الاحتلالية الاميركية من البلد ومن واجهة التأثير. استمرار اضطراب المعادلة الاجتماعية السياسية الجديدة وعدم وصولها الى لحظة استقرار، اعادة انتاج النخبة السياسية القديمة داخل اطار النخبة الجديدة، تلكؤ مشروع بناء الدولة الجديدة، وصول خريطة طريق النظام السياسي الى مخنق خطر. استمرار الحرب الاهلية.

2 ـ
هناك اشارات كثيرة تعزز القناعة بأننا في 2014 امام لحظة تغيير جديدة، أهمها نتائج الانتخابات البرلمانية في الربيع القادم، ولا أستطيع هنا تحميل مفردة “التغيير” أي معاني ايجابية، فمن الواضح أن ازماتنا الحالية في تصاعد، وستحصل على لحظة تفجير جديدة مع نتائج الانتخابات البرلمانية، بغض النظر عن مستوى الاقبال الشعبي عليها، فأنها ستضعنا كبلد ومجتمع أمام ثلاث خيارات حاسمة:
ـ الاول؛ حصول رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي على كتلة كبيرة تؤهله للتفاوض مع الكتل الفائزة الأخرى للابقاء عليه في منصبه الحالي. وستكون مفاوضات صعبة وعسيرة، ومن المتوقع أنه سيعطي تنازلات كبيرة ومفاجئة في سبيل الابقاء عليه في منصبه.
ـ الثاني؛ رغم التنازلات المتوقعة من المالكي، إلا أن احداً لن يستطيع الجزم بأن الكتل الاخرى ستقبل بهذه الصفقة، لتستمر ازمة تشكيل الحكومة فترةً طويلة، ينجح خلالها المالكي في شق الصفوف داخل الكتل الأخرى، مستفيداً من سلطته ومنصبه الذي لن يتركه اثناء ذلك، ثم ينجح لاحقاً، استناداً الى الدستور!، في القيام بحركة مفاجئة، تجعل الجميع أمام خيارات صعبة، فيتزايد الانشقاق في صفوف معارضيه، ويتفجر الوضع العام أكثر. بما يؤدي في الخلاصة الى الابقاء على المالكي بحكم الأمر الواقع.
ـ الثالث؛ نجاح الأطراف المعارضة للمالكي بالتنسيق الموحّد بينها في فرض مرشّح آخر لرئاسة الوزراء القادمة، وفرض صفقة سياسية جديدة، تعزّز المشاركة وتقاسم السلطة، وبالتالي اجبار المالكي، على التنحّي، من خلال مفاوضات تمنحه وفريقه السياسي الحالي حصانة من الملاحقات القانونية او عمليات الثأر والانتقام. بمعنى أن الفريق السياسي الجديد الذي تشكّله الكتل المعارضة للمالكي يجب أن يتعامل بمنطق مختلف تماماً عن منطق المالكي، وإلا فأنها ستقع في أخطائه نفسها وتعيد انتاج الاضطراب ولا تنهيه.

3 ـ
أياً كانت لحظة الاستقرار القادمة وانهاء الاضطراب الذي تنتجه صفقة سياسية ناجحة، بالمالكي أو بدونه، فأنها لن تتأثر كثيراً بالكلام الثقافي عن المكونات والتعايش وذاكرة التاريخ الحسنة واللطيفة، ولا بالكلام العاطفي عن الذاكرة الاجتماعية الشخصية للعراقيين كأفراد. إنها صفقة متأثرة بقوة، بل هي نتاج كل تداعيات وآثار العشرية المنصرمة [2003-2013] بشكل حصري. وهي صفقة إن لم تؤد بالنتيجة الى انهاء حالة الحرب الاهلية التي عشناها بـ”التقسيط المريح” خلال عشر سنوات، وبدراما الاكشن خلال سنتين “2006-2007” فأنها صفقة لا نفع فيها ولا فائدة.
لقد كان العقد الماضي، في جانب مهم منه، عقداً لاكتشاف الشيعة؛ ساسةً ونخباً ومجتمعاً، لصيغ التعبير السياسي عن وجودهم المقموع، وكان هذا الاكتشاف يجري احياناً بالضد من فرضيات بناء دولة لجميع المكونات. وظل المساران يتزاوجان معاً؛ مسار بناء دولة عراقية جديدة على ركام دولة كانت سيئة كما يفترض، ومسار اكتشاف الشيعة العراقيين لأنفسهم كهوية ووجود سياسي واجتماعي خاص.
بالضد من ذلك فأن السنة استقبلوا فائض التمدد الشيعي بنوع من الانهيار الداخلي لصفوفهم الاجتماعية، وأسباب ذلك معروفة وتم التطرق إليها كثيراً، من أهمها اقصاء نخبهم عن المشهد السياسي الجديد، والارتباك امام فرضية المكونات وحجومها، والموقف الاقليمي من التغيير الذي حصل في العراق وتأثير هذا الاقليم في خيارات السنّة. وأيضاً عدم النظر من قبل السنة لأنفسهم فيما سبق بمنظار المكون أو الجماعة ذات المطالب الخاصة، وتشبّعهم الثقافي بأدبيات الدولة الوطنية بصبغتها القومية.
أما عن الكرد فأنهم استكملوا بعد 2003 المسار الخاص الذي وجدوا انفسهم فيه منذ عام 1991، والذي يضع الهوية القومية سياجاً حامياً ازاء اضطرابات الاكتشاف واعادة الانتاج لصراعات الهوية العراقية والدولة العراقية عموماً.

4 ـ
بالنسبة للكرد فأنهم ماضون في تدعيم مشروعهم الخاص، وإبقاء التركيز على المطالب المحددة بشأن ما يسمونه في أدبياتهم “المناطق المستقطعة” من الإقليم، ولا يهم كثيراً بعد ذلك أن ينالوا الاستقلال كدولة، أم يبقون كإقليم ضمن دولة العراق ما دام الخيار في ذلك بأيديهم هم وحدهم. أما دورهم السياسي الحاسم في تشكيل حكومات المركز في بغداد، فهو لا يسير وفق تحالفات دائمة، وانما يتحول ويتغير مع مسار بوصلة “المصالح الكردية العليا”.
أما عن الشيعة فأن الوقائع تثبت أن الغالبية الاجتماعية مازالت ترى نفسها في مرمى التهديد المستمر، ورغم كل الأخطاء والكوارث التي ارتكبتها النخب السياسية الشيعية “الاسلامية”، إلا ان الشارع الشيعي ما زال مؤيداً لهذه النخب، أو متابعاً للأطروحة السياسية التي يباركها علماء ورجال الدين الشيعة بشكل عام، في غياب صارخ للبدائل العابرة للطائفة، أو التي تطرح مشروعاً وطنياً واضح المعالم، وليس مجرد بلاغات وشعارات وعواطف. وأي تغيير في موازين القوى “شيعياً” فهو يجري داخل الاطار الشيعي وليس خارجه.
سنيّاً، فأن حسم ملف الأرهاب في محافظة الأنبار تحديداً، لن يغيّر شيئاً من المطالب السنية العامة التي تبلورت خلال العامين الماضيين. فحتى لو قضت الحكومة المركزية، او العشائر الانبارية، على الأرهاب بشكل حاسم. فأن المطالب التي سمعناها من على منصات التظاهر في الانبار وسامراء وغيرها، لن يتم نسيانها، كما أن المزاج العام الذي بلورته الخطب النارية على المنابر ومنصات التظاهر، لم يكن مجرد خطأ أو سهو أو ذنب، وانما هو كشف لمخزون الآثار التي انتجها عقد من التغيير على المجتمع السنّي. أما بروز رجال الدين على واجهة الحراك السنّي فهو لذات الأسباب التي تمنع ظهور نخب مدنية قوية لدى المجتمع الشيعي، وجذر المشكلة هو عدم وجود مصاديق على الأرض للخطاب المدني العابر للطائفة، وتراكم ذاكرة جديدة من المآسي خلال عشرة أعوام يتم الاحتكام إليها في تحديد هوية الضحية والجلاد، والقاتل والمقتول، وتحديد خيارات المستقبل.
استناداً الى هذه الذاكرة القصيرة فأن السنة يميلون بشكل عام نحو خيار الإقليم، كما ان المزاج الشعبي الشيعي لا يمانع هذا الخيار. وأياً كانت الحكومة التي ستتشكل ما بعد ربيع 2014 فأنها امام تحدي قبول خيارات مجتمع متأثر بذاكرة عشر سنوات ماضية، وليس بذاكرة أطول وأبعد. ليكون العراق على ضوء ذلك أمام خيارات ثلاث؛ إما إنجاز تسوية تاريخية بتنازلات متبادلة تقوم بها المكونات الثلاث الكبرى، أو عدم التنازل، وبالتالي استمرار الفوضى أو اقتسام الارض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً