حصان طروادة وأحصنة سوريا
ربيع بركات
تقول الأسطورة إن الغُزاة اليونانيين يوم عجزوا عن اقتحام طروادة ذات الأسوار الشاهقة على الساحل التركي، تحايلوا على سكّان المدينة بأن صنعوا حصاناً خشبياً ضخماً وقدّموه إليهم كهديّة من إلهة الحرب «أثينا». ثم مِن بطن هذا الحصان خرج ليلاً مقاتلون فتحوا أمام الغزاة المرابطين خلف الأسوار، بوّابة طروادة التي استعصت عليهم لسنوات. ولم يطُل الأمر حتى أُبيد معظم رجال المدينة وغُنمت النساء وصغار السنّ ووُزِّعوا كعبيدٍ لأسيادهم اليونانيين الجدد.
حين بدأت مَظاهر عسكرة الحراك المدني السوري تتّسع في العام 2011، تحديداً إثر عملية جسر الشغور التي أسفرت عن مقتل العشرات من عناصر الجيش بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الاحتجاجات، وفق ما أعلن صراحة مؤسس «الجيش الحر» حسين هرموش في مقابلة على قناة «العربية» حينها، راح الأقدر على التحكّم بمسار الأمور يُحوِّل الحراك السلمي بالتّدريج إلى مأساة.
أخذ من يمتلك الموارد، مالاً وسلاحاً، يفرض إيقاعه الخاص على الأحداث ويوجّهها. زجَّت بعض دول الخليج، وتركيا في ما بعد، بقدراتها الهادفة إلى قلب الموازين في بلاد الشام، مسعوفةً بخطاب تعبوي يندرج في إطار «سياسات الهوية» التي كانت معظم قوى المعارضة المدعومة من إيران قد انتهجتها في العراق قبلاً إبّان غزوه العام 2003.
من أحشاء «سياسات الهوية»، القائمة على فكرة الفصل بين الأفراد والمجتمعات بناءً على انتماءاتٍ ثابتة، طائفية في الغالب، خرجت نماذج «جهادية» راحت تستولي باطراد على مساحات المعارضة السورية في الداخل والخارج. وأخذ ناشطون مدنيون يعملون في مئات المنظمات غير الحكومية المموّلة بطرق ملتوية في الغالب، يُبيِّضون الوحش الذي ظلّ يكبر داخل جسم «الثورة»، علماً منهم أو جهلاً، قبل أن يبتلع الأخير بعضهم في ما بعد، بينما استمرّ بعضهم الآخر على منواله (وسيبقى على الأرجح إلى أن تحين لحظة انهيار منظومة هائلة من الجمعيات المعنية بتبيض «الثورة المسلّحة» بخطاب «إنسانوي»، فور نضوب مواردها وتغيّر اعتبارات المانحين).
منذ منتصف 2013 وأرشيف اجتماعات قادة الاستخبارات الأوروبية شاهد على تسليمهم بأن تسلّل أحصنة «الجهاديين» إلى ديارهم عبر اللاجئين أو وسائط التواصل عن بُعد، بات تحصيلاً حاصلاً. المفارقة كانت في مشاركة هذه الأحصنة في الانتخابات في الغرب، إذ «صوّت» مهاجم أورلاندو في حزيران الماضي بعمليته الدامية في ملهى ليلي للرئيس الحالي دونالد ترامب، بعدما زاد من رُهاب الأميركيين البيض من «الأغيار»، كذلك فعل سائق شاحنة باريس الذي رفع أسهم اليمين الفرنسي إلى ذرىً غير مسبوقة قبل أكثر من عام على الانتخابات، والأمر ذاته كرّره «زميلٌ» له في برلين قبل يومين، بقضائه على آمال ميركل بالعودة ظافرةً إلى رأس المستشارية الألمانية.
ستنفق الأحصنة «الجهاديّة» تلك تباعاً، بعدما تكون قد خلّفت وراءها عالماً أكثر بشاعة. وآلهة الحرب التي تمظهرت بخطابٍ ديني تارة و«إنسانويٍّ» تارة أخرى، وأمني ـ«مؤامراتي»دائماً، ستختفي كما لو أنها أسطورة لم تكُن لفرط غرابتها. وبما أن بعض كلّ أسطورة حقيقة، فإن الشواهد عليها ستبقى لأمدٍ طويل، حيث يُنتظر إمّا أن ينساق أهل المشرق وسواهم في العالم العربي الفسيح خلف سياسات الهويّة التي أحرقتهم، سنّة وشيعة، ويرتضوا بتوزيعهم غنائمَ على أكثر من خارج، أو يصوغوا، تدريجياً، عقوداً اجتماعية رضائية، عقلانية، وبديلةً عما كان موجوداً حقّاً.
نقلا عن “السفير”