تكنولوجيا

موديز: فوائد الذكاء الاصطناعي للشركات مؤكَّدة.. وقلة القدرات الداخلية تعرقلها

 

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تجريبية في إدارة المخاطر والامتثال، بل بات ركيزة أساسية في التحول الرقمي للقطاعات المالية والتنظيمية حول العالم. تقرير جديد صادر عن «موديز أناليتكس» يكشف كيف سيُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل العمليات التنظيمية، ولا سيما في مجالات مثل كشف الاحتيال، والتعرف على العميل، ومراقبة المعاملات.

كذلك لم تعد فكرة الانتقال من الامتثال التفاعلي إلى الامتثال الاستباقي المدعوم بالذكاء الاصطناعي مجرد نظرية، بل تتحقق بالفعل. وبالنسبة للجهات التنظيمية في دول الخليج ومصر، فإن نتائج هذا المسح العالمي توفر رؤى مهمة في وقتٍ تتسارع فيه خطط التحول الرقمي وتحقيق مستهدفات «رؤية السعودية 2030»، ولا سيما في قطاع الخدمات المالية والحوكمة الرقمية.

نبض عالمي عبر قطاعات متعددة

شمل مسح «موديز» نحو 600 متخصص رفيع في مجالات الامتثال وإدارة المخاطر والتنظيم، موزعين عبر عدة قطاعات؛ منها البنوك، والتقنية المالية وإدارة الأصول والتأمين والقطاعات الحكومية والشركات الكبرى. النتائج كانت لافتة. أكد 53 في المائة من المشاركين أنهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي أو يجرّبونه حالياً في وظائف الامتثال والمخاطر، مقارنة بـ30 في المائة فقط خلال عام 2023. وتوقّع 49 في المائة منهم اعتماداً واسعاً للذكاء الاصطناعي، خلال ثلاث سنوات، بينما يرى 13 في المائة أن ذلك سيحدث خلال عام واحد فقط. وفي حين يرى 84 في المائة أن للذكاء الاصطناعي فوائد كبيرة، فإن 46 في المائة أشاروا إلى أنهم يلمسون هذه الفوائد بوضوح، ما يشير إلى فجوة بين التوقعات والتطبيق العملي.

 

أقرّ 41 % من المشاركين بأن قدراتهم البشرية غير كافية لتوسيع استخدام الذكاء الاصطناعي (غيتي)

 

أبرز مجالات التأثير

أبرز المجالات التي يشهد فيها الذكاء الاصطناعي أثراً مباشراً، اليوم، هو «كشف الاحتيال»، و«اعرف عميلك»، و«التصفية الآلية» للعملاء، وهي أيضاً المجالات التي يتوقع لها أكبر أثر في المستقبل.

وأوضح المشاركون أن الذكاء الاصطناعي يساعد في كشف المعاملات المشبوهة وتحليل الأنماط الغريبة وتعزيز عمليات العناية الواجبة بشكل فوري. وهذه القدرات حيوية في دول الخليج، حيث تعمل الجهات التنظيمية على تعزيز أطر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تماشياً مع توجيهات مجموعة العمل المالي (FATF).

وفي السعودية، على سبيل المثال، يُولي البنك المركزي السعودي (ساما) وهيئة السوق المالية (CMA) أهمية متزايدة لحلول «اعرف عميلك KYC» الرقمية والرصد الفوري للأنشطة الاحتيالية، وفقاً لـ«موديز». كما أن منصة «goAML» في الإمارات تُظهر توجهاً مماثلاً نحو الرقابة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. ومع ذلك تُشير نتائج التقرير إلى أن نقص الكفاءات البشرية لا يزال عائقاً رئيسياً أمام التوسع.

فجوة المهارات

رغم وجود نية قوية لتوسيع استخدام الذكاء الاصطناعي، فإن التحدي الأكبر هو نقص الخبرات والمهارات. فقد أشار 41 في المائة من المشاركين إلى أن قلة القدرات الداخلية تُشكل العائق الأكبر لاعتماد الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. فالمؤسسات الكبيرة التي تضم أكثر من 10 آلاف موظف أظهرت ميلاً أكبر لتجربة الذكاء الاصطناعي، مقارنة بالشركات الصغيرة التي يقلّ عدد موظفيها عن 100، ما يعكس فجوة في الموارد.

على المستوى الجغرافي، تبدو أوروبا وأميركا الشمالية أسرع تقدماً من منطقة الشرق الأوسط، حيث يُحتمل أن تكون القيود التنظيمية والأنظمة القديمة والقيود المالية من أسباب التباطؤ.

بالنسبة لفِرق الامتثال في الرياض ودبي والقاهرة، يشكل ذلك تحدياً مزدوجاً، تطوير الكفاءات البشرية، وفي الوقت نفسه الاستثمار في أنظمة ذكاء اصطناعي تتوافق مع قوانين سيادة البيانات والخصوصية الوطنية والتمويل الإسلامي.

 

يؤكد 96 % من المتخصصين ضرورة الإشراف البشري في حين يدعو 79 % إلى تشريعات جديدة تعزز الشفافية والخصوصية والمساءلة (شاترستوك)

 

النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)

من أبرز الاتجاهات في التقرير الصعود السريع لـ«النماذج اللغوية الكبيرة» (LLMs) مثل «تشات جي بي تي»، و«مايكروسوفت كوبايلوت»، والأدوات الداخلية التي تُستخدم في مراجعة الوثائق وتصفية العملاء وإدارة الحالات. في عام 2023، كان 28 في المائة فقط من المشاركين يشجعون أو يقبلون استخدام «LLMs». أما اليوم، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 62 في المائة. لكن الشركات الكبرى لا تزال حذِرة، إذ إن 41 في المائة منها تمنع أو تُثبط استخدام «LLMs» بسبب مخاوف من تسرب البيانات وانحياز النماذج ونقص الشفافية.

لذا، يتجه كثير من المؤسسات إلى تطوير أنظمة «حدائق مغلقة»؛ أي أنظمة داخلية آمنة تُقدم ميزات الذكاء الاصطناعي دون تعريض البيانات الحساسة للخطر. وهذا يتماشى مع توجه الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا» (SDAIA) ومكتب إدارة البيانات الوطنية (NDMO)، كما يظهر في دعم مشاريع مثل النموذج اللغوي العربي «علّام»، الذي يُعد مثالاً على بناء منظومة ذكاء اصطناعي سيادية وآمنة.

نمو الوعي في بيئة مجزّأة

يبقى تنظيم الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التحديات وأكثر المجالات التي يمكن للجهات التنظيمية في الشرق الأوسط أن تتقدم فيها بسياسات جريئة ومدروسة. أظهر التقرير أن 59 في المائة من المشاركين لديهم وعي متوسط بالتنظيمات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، مقارنة بـ36 في المائة فقط خلال 2023. لكن المفارقة أن 8 في المائة فقط يشعرون بأنهم مطّلعون بالكامل على الأُطر التنظيمية، في حين أن 17 في المائة لا يعلمون شيئاً عنها.

لكن هناك توافقاً واسعاً على أهمية التشريع، حيث يرى 79 في المائة أن هناك حاجة ماسة لقوانين جديدة لضبط استخدام الذكاء الاصطناعي، خصوصاً فيما يتعلق بالشفافية والخصوصية والمساءلة.

وبينما تمضي أوروبا قُدماً في اعتماد «قانون الذكاء الاصطناعي»، تُفضل الولايات المتحدة نهجاً لا مركزياً. في المقابل، يرى تقرير «موديز» أن السعودية والإمارات تمتلكان فرصة لوضع نموذج تشريعي محلي متوازن، يضمن الابتكار ويحمي، في الوقت نفسه، القيم المجتمعية والسيادة الرقمية.

الإشراف البشري ضرورة

رغم تقدم الذكاء الاصطناعي، فإن الدور البشري لا يمكن الاستغناء عنه. فقد عبّر 96 في المائة من المشاركين عن اعتقادهم أن الذكاء الاصطناعي سيؤثّر في أدوارهم، لكن دون أن يستبدلها، بل على العكس، يتوقعون أن تتحول مسؤولياتهم نحو الإشراف الاستراتيجي، وتحليل نتائج الذكاء الاصطناعي، وضمان نزاهة المُخرجات. ومع ازدياد الاعتماد على الأنظمة المُؤَتْمتة، سيبقى على فِرق الامتثال التعامل مع الاستثناءات، وتدقيق الأسباب، وتعديل النماذج. هذا التوازن بين الأتمتة والتمييز البشري مهم جداً في بيئة الشرق الأوسط، حيث تحمل الأخطاء التنظيمية تبعات قانونية وشرعية كبيرة.

في المحصلة، يكشف تقرير «موديز» عن قطاعٍ في مرحلة انتقالية متحمس لإمكانات الذكاء الاصطناعي، لكنه يواجه تحديات حقيقية على أرض الواقع حيث يبقى تبنّي الذكاء الاصطناعي بشكل واعٍ وأخلاقي وآمن أحد مفاتيح النجاح في السنوات المقبلة.

مقالات ذات صلة