الوضع القانوني لخور عبد الله في ظلِّ الاتفاقيات الدولية
القاضي محمد حيدر حسين / رئيس محكمة استئناف ميسان
أثار مقال السيد رئيس مجلس القضاء الأعلى، الدكتور فائق زيدان، بشأن قضية خور عبد الله، الكثير من التساؤلات، إذ اعتبره بعضهم إذنًا من مجلس القضاء الأعلى بخضوع خور عبد الله لسيادة دولة الكويت، وذهب آخرون إلى أنه تصريح بالتنازل عن هذا الممر الحيوي. ومن باب الإنصاف نقول إن ما ذهب إليه المقال لا يتضمن هذا ولا ذاك، بل يمثل قراءة قانونية تستند إلى وقائع ثابتة.
لا بد من إدراك أن قضية خور عبد الله مرت بمرحلتين مختلفتين، الأولى قبل عام ٢٠٠٣، والثانية بعده. ومن الضروري التمييز بين نوعين من الخطابات المتداولة حولها، الخطاب الجماهيري العفوي، وهو غالبًا ما يُبنى على الانفعال الوطني أو الشعور بالاضطهاد الجمعي، والخطاب العلمي القانوني الذي يستند إلى قواعد ومعطيات قانونية واجبة الاحترام. وهنا نؤكد أن لا أحد من العراقيين الشرفاء يقبل التنازل عن شبر واحد من أرض العراق أو مياهه الإقليمية، رغم ما لحق بالدولة من حيف وظلم بعد عام ١٩٩١.
ويجدر التوضيح للرأي العام العراقي بطبيعة اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، والتي تم عرضها على المحكمة الاتحادية ومجلس النواب، حيث يروج البعض، خصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي، لفكرة أن المحكمة الاتحادية، في عهد رئيسها السابق جاسم العميري، ألغت الاتفاقية وأبطلت آثارها، وأعادت الأمور إلى ما كانت عليه. لكن الحقيقة أن جذور القضية تعود إلى ما قبل عام ٢٠٠٣، حين أصدر مجلس قيادة الثورة المنحل القرار رقم ٢٠٠ في ١٩٩٤/١١/١٠، والذي تضمّن في أسبابه الموجبة اعتراف جمهورية العراق بسيادة دولة الكويت الإقليمية واستقلالها السياسي، تنفيذًا لقرار مجلس الأمن رقم ٨٣٣ لسنة ١٩٩٣، الذي رسم الحدود البرية والبحرية بين البلدين. وقد نص القرار العراقي بوضوح على احترام الحدود الدولية وتنفيذ القرار من قبل الوزارات المختصة، وأصبح نافذًا في اليوم نفسه.
ويُلاحظ أن القرار أعلاه يُعدّ إقرارًا رسميًا من الدولة العراقية بالحدود مع الكويت، رغم مقاطعة العراق للجنة الأممية المعنية بترسيم الحدود وغيابه عن جلساتها. كما أن قرار مجلس الأمن رقم ٨٣٣ تحدث بوضوح عن الحدود البرية والبحرية، وهو ما ورد لاحقًا في اتفاقية تنظيم الملاحة الموقعة بين العراق والكويت بتاريخ ٢٩ نيسان ٢٠١٢، والتي أكدت في إحدى فقراتها الاستناد الصريح إلى قرار مجلس الأمن المذكور. كما أن المجلس الوطني العراقي، في ١٩٩٤/١١/١٠، أصدر بيانًا أعلن فيه تأييده لقرار مجلس قيادة الثورة وللحدود المرسومة بموجب القرار ٨٣٣.
العلاقات الدولية لا تُبنى على تغيّر الأنظمة أو تقلباتها، بل على ما تعقده الدول من اتفاقيات ومعاهدات، وهذه الاتفاقيات تبقى ملزمة ما لم يتم إلغاؤها أو تعديلها باتفاق الطرفين أو بقرار دولي. واتفاقية عام ٢٠١٢ بشأن تنظيم الملاحة في خور عبد الله نصّت على أن الممر الملاحي المشترك سيُدار بما يعزز التعاون الثنائي، التزامًا بقرار مجلس الأمن ٨٣٣. وقد سبق توقيع الاتفاقية مفاوضات مطوّلة، اطّلع فيها الجانبان على كافة تفاصيلها، وشارك فيها خبراء مختصون على دراية بالجوانب الفنية والهندسية والمرجعيات القانونية الدولية.
تتكوّن الاتفاقية من ١٦ مادة، من بينها المادة الثانية التي حدّدت النقاط الملاحية لكلا الطرفين، الأمر الذي يدعو للتساؤل، لماذا لم يوضّح الخبراء في حينه المقصود بهذه النقاط رغم إلمامهم الكامل بالاتفاقية؟ لا سيما أن الاتفاقية نفسها، بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن، قسمت البحر الإقليمي، وأقرت بأن لكل طرف حقًّا ملاحياً في الجزء المحدد له. كما نصت المادة ١٤ من الاتفاقية على أن أي نزاع يُحلّ وديًا، وإذا تعذّر ذلك يُحال إلى محكمة العدل الدولية وفقًا لقانون البحار، على أن تُودَع الاتفاقية لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة تنفيذًا لميثاق المنظمة. كما أنها لا تُعدّل أو تُلغى إلا باتفاق الطرفين.
وقد تم التصديق على الاتفاقية بموجب قانون رقم ٤٢ لسنة ٢٠١٣ الصادر عن رئاسة الجمهورية، ونُشر في جريدة الوقائع العراقية بالعدد ٤٢٩٩ بتاريخ ٢٥ تشرين الثاني ٢٠١٣، فأصبحت الاتفاقية نافذة وملزمة من حيث القانون. إلا أن المحكمة الاتحادية، وبعد مضي عشر سنوات، قضت بأن جلسة البرلمان التي تم فيها التصويت على الاتفاقية لم تكن مكتملة النصاب، وهو ما يثير إشكالًا قانونيًا يتعلق بحجية القوانين النافذة وآلية إبطالها.
إن كل ما تقدم يدل بوضوح على أن مسألة خور عبد الله ليست قضية انفعالية أو خاضعة للأهواء السياسية، بل قضية قانونية خالصة، مقيدة باتفاقيات دولية نافذة، لها قوة الإلزام. ولا يمكن إنكار هذه الاتفاقيات أو تجاوزها من دون أن يترتب على العراق مسؤولية دولية خطيرة.
وبعيدًا عن العاطفة والمزايدات، فإن ما طرحه السيد رئيس مجلس القضاء الأعلى لم يكن إذنًا بنفاذ الاتفاقية، بل كان تحليلًا قانونيًا علميًا يستند إلى وقائع ثابتة، وأسس قانونية واضحة. وليس من وظيفة السلطة القضائية أن تمارس الانحياز أو أن تتحدث بلغة العاطفة.
بل إن ما كان متوقعًا من الحكومات المتعاقبة أن تتحرك على الصعيد الدولي لإلغاء أو تعديل القرارات المجحفة الصادرة بحق العراق بعد عام ١٩٩١، لا سيما أن العراق دفع مليارات الدولارات بموجب قرارات أممية، ومن بينها ما يتعلق بخور عبد الله الذي تم تنظيمه باتفاقية دولية مدعومة بقرارات مجلس الأمن.