الاقتصاد

في تحول تاريخي.. سياسات واشنطن المتخبطة تُباعد بين الدولار وعوائد السندات

 

على مدى عقود، كانت سندات الخزانة الأميركية بمثابة حجر الزاوية للتمويل العالمي، ومقياساً رئيسياً لمشاعر المستثمرين. فلطالما ارتبط ارتفاع عوائد هذه السندات بوجود اقتصاد أميركي قوي يجذب رؤوس الأموال الأجنبية ويعزز قيمة الدولار. إلا أن هذه العلاقة التقليدية قد انهارت مؤخراً، مع تراجع اهتمام المستثمرين بالأصول الأميركية وسط مخاوف مزدادة بشأن مصداقية الاقتصاد الأميركي واستقلالية مؤسساته المالية، مدفوعين بسياسات الرئيس دونالد ترمب المتقلبة.

 

أوراق نقدية من الدولار (رويترز)

 

علامة «توتر» بدلاً من «قوة»

اعتادت عوائد الاقتراض الحكومي وقيمة العملة الأميركية على التحرك بتناغم تام. لكن منذ إعلان ترمب عن تعريفات «يوم التحرير» في أوائل أبريل (نيسان)، ارتفعت عوائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات؛ من 4.16 في المائة إلى 4.42 في المائة، بينما انخفض الدولار بنسبة 4.7 في المائة مقابل سلة من العملات. هذا التراجع في الارتباط وصل إلى أدنى مستوى له في نحو 3 سنوات، مما يشير إلى أن ارتفاع العوائد هذه المرة لا يعكس قوة اقتصادية، بل هو «أحد أعراض التوتر»، ويعكس عدم ارتياح المستثمرين بشأن الولايات المتحدة.

ويعلق شهاب جالينوس، رئيس استراتيجية صرف العملات الأجنبية لمجموعة العشر في «يو بي إس»، قائلاً لصحيفة «فاينانشيال تايمز»: «في الظروف العادية، تعدّ العوائد المرتفعة علامة على أداء الاقتصاد الأميركي القوي. وهذا جذاب لتدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة. لكن إذا كانت العوائد ترتفع لأن الديون الأميركية أكثر خطورة، بسبب المخاوف المالية وعدم اليقين في السياسة، ففي الوقت نفسه يمكن أن يضعف الدولار»، مشبهاً هذا النمط بما «يُرى بشكل متكرر في الأسواق الناشئة».

الأسباب الرئيسية لفك الارتباط

وفقاً لـ«ذي إيكونوميك تايمز» و«فاينانشيال تايمز»، يمكن تلخيص الأسباب الرئيسية وراء هذا التباعد في الآتي:

1- ديناميكيات العرض والطلب: نفقات حكومية جامحة ترفع العوائد.

من المتوقع أن تؤدي النفقات الحكومية غير المنضبطة إلى اتساع كبير في العجز المالي الأميركي. وبالنظر إلى الميل التاريخي للتدخل النقدي القوي خلال فترات التباطؤ الاقتصادي، فإن نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي ونسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في طريقهما نحو الارتفاع. ومع تدهور هذه المؤشرات المالية، تتفاقم مخاوف المستثمرين بشأن الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة، مما يدفعهم إلى طلب عوائد أعلى على أوراق الخزانة.

وبدوره، يؤدي ارتفاع العوائد إلى زيادة تكاليف الاقتراض عبر الاقتصاد الأوسع، مما يؤثر على كل شيء بدءاً من الرهون العقارية وقروض السيارات، وصولاً إلى ديون الشركات. ولاحتواء هذه الدوامة التصاعدية في العوائد، قد يضطر «الاحتياطي الفيدرالي» إلى تطبيق «التحكم في منحنى العائد» (YCC)، وهي استراتيجية تتضمن عمليات شراء واسعة النطاق للسندات طويلة الأجل لتحديد سقف لأسعار الفائدة.

 

متداولان في بورصة نيويورك (رويترز)

 

2- خفض التصنيف من قبل «موديز»: ضربة هيكلية للمصداقية الأميركية.

في 16 مايو (أيار) 2025، خفضت وكالة «موديز» تصنيف الولايات المتحدة السيادي من «إيه إيه إيه» إلى «إيه إيه 1»، لتلحق بذلك خطى وكالتي «ستاندرد آند بورز» (2011) و«فيتش» (2023). لم يكن هذا التخفيض رمزياً فحسب، بل سلّط الضوء على التالي:

  • عجز فيدرالي متوقع أن يتسع إلى 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035.
  • نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي يتوقع أن تتجاوز 134 في المائة.
  • مدفوعات الفائدة قد تستهلك 30 في المائة من الإيرادات الفيدرالية بحلول عام 2035 (مقابل 18 في المائة اليوم).

وقد أثار هذا التخفيض عمليات بيع حادة في سندات الخزانة، مما دفع العوائد إلى الارتفاع وقوض الثقة في الدولار.

3- إعادة التموضع العالمي: اليابان والصين تتراجعان.

أدى التحول «المتشدد» لليابان – مدفوعاً بالتضخم المستمر – إلى توقعات بزيادات إضافية في أسعار الفائدة وعكس «مراجحة الين». ومع قيام اليابان والصين بخفض حيازاتهما من سندات الخزانة الأميركية، يتراجع الطلب الأجنبي على الديون الأميركية، مما يضيف مزيداً من الضغط التصاعدي على العوائد والضغط الهبوطي على الدولار.

التأثير الأوسع

هذا التباعد له تداعيات خطيرة تتجاوز أسواق السندات:

1- ارتفاع تكاليف إعادة التمويل: مع حلول أجل استحقاق أكثر من 55 في المائة من الدين الأميركي – ما يقرب من 5.1 تريليون دولار – قبل يوليو (تموز) 2025، فإن إعادة تمويل هذا الدين بعوائد مرتفعة ستزيد بشكل كبير من تكاليف الفائدة. ويتفاقم هذا العبء المالي بسبب تخفيضات ضريبية تجاوزت 4.5 تريليون دولار وتباطؤ نمو الإيرادات.

2- ضعف النمو الاقتصادي: أدت أسعار الاقتراض المرتفعة إلى تراجع كبير في إصدارات الديون من قبل الشركات، خصوصاً ذات التصنيفات الائتمانية المنخفضة. وفي أبريل 2025، أصدرت الشركات الأميركية ذات التصنيف المنخفض أقل من مليار دولار من السندات، وهو الأدنى في 4 سنوات. هذا التراجع الحاد في الاقتراض يؤشر إلى انخفاض الاستثمار، وضعف توقعات الإيرادات، مما قد يؤدي إلى خفض التكاليف، وتقليص الوظائف، وتباطؤ نمو الأجور، ويهدد بتراجع الإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي زيادة مخاطر الركود أو الانكماش الاقتصادي.

 

الرئيس دونالد ترمب على خشبة المسرح في قاعدة العديد الجوية بالدوحة (أ.ب)

 

سياسات ترمب وهجماته على الفيدرالي

لقد أسهم مشروع قانون الضرائب «الكبير والجميل» الذي طرحه ترمب، بالإضافة إلى تخفيض تصنيف «موديز»، في تسليط الضوء على استدامة العجز، مما أثر سلباً على أسعار السندات. ويشير تحليل أجرته تورستن سلوك، كبيرة الاقتصاديين في «أبولو»، إلى أن فروق مقايضات التخلف عن سداد الائتمان الحكومي الأميركي تتداول عند مستويات مماثلة لليونان وإيطاليا.

كما أثارت هجمات ترمب على رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» جيروم باول قلق السوق، حيث استدعى الرئيس باول إلى البيت الأبيض مؤخراً. ويرى مايكل دي باس، الرئيس العالمي لتداول أسعار الفائدة في «سيتاديل سيكيوريتيز»، أن «قوة الدولار الأميركي تأتي جزئياً من نزاهته المؤسسية: سيادة القانون، واستقلالية البنك المركزي، والسياسة التي يمكن التنبؤ بها». ويضيف أن «الأشهر الثلاثة الماضية شككت في ذلك»، وأن «الشاغل الرئيسي للأسواق الآن هو ما إذا كنا ننتقص من المصداقية المؤسسية للدولار، أم لا».

 

الرئيس الأميركي يسير مع جيروم باول مرشحه لرئاسة «الاحتياطي الفيدرالي» عام 2017 (أرشيفية -أ.ف.ب)

 

تحول في استراتيجيات الاستثمار

يمثل التباعد بين عوائد الخزانة والدولار تحولاً ملحوظاً عن نمط السنوات الأخيرة، حيث كانت التوقعات بشأن السياسة النقدية والنمو الاقتصادي هي المحركات الحاسمة لتكاليف الاقتراض الحكومي. يقول أندرياس كونيغ، رئيس قسم العملات الأجنبية العالمية في «أموندي»، إن هذا النمط الجديد يمكن أن يزيد المخاطر للمستثمرين الباحثين عن أصول الملاذ الآمن. «هذا يغير كل شيء. في السنوات القليلة الماضية، كان الاحتفاظ بالدولار في المحفظة… عاملاً جيداً جداً للاستقرار… إذا فجأة أصبح الدولار مرتبطاً (بالخسائر بدلاً من الاستقرار)، فإنه يزيد المخاطر».

ويشير محللو «غولدمان ساكس» إلى أن المخاوف الجديدة المتعلقة باستقلالية «الاحتياطي الفيدرالي»، والاستدامة المالية تجعل نمط الأصول يبدو مختلفاً بوضوح، وقد شكلت «تحدياً لكلتا أدوات التحوط الشائعة للمحافظ».

ويُعزى ضعف العملة الأميركية جزئياً إلى لجوء حاملي الأصول المقومة بالدولار بشكل مزداد إلى تحوط استثماراتهم باتخاذ مراكز بيع في الدولار. ووفقاً لجالينوس من «يو بي إس»، «كلما زاد عدم اليقين في السياسة، زادت احتمالية أن يرفع المستثمرون نسب التحوط الخاصة بهم»، وهو ما قد يعني «بيع مليارات كثيرة من الدولارات» إذا زادت نسب التحوط على المخزون الحالي من الأصول الدولارية.

مقالات ذات صلة