تكنولوجيا
الذكاء الاصطناعي… هل يزيد البشر غباءً؟

في العصر الحالي، بات من السهل الحصول على أي إجابة خلال ثوانٍ معدودة، من دون الحاجة إلى بحثٍ معمّق أو تفكير مطوّل. بكبسة زر، يستطيع أي شخص أن يكتب مقالًا، يحل معادلة رياضية، يترجم نصًّا، أو حتى يُصمم لوحة فنية، بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة. هذه القدرة، وإن بدت في ظاهرها معجزة تقنية، تثير قلقًا متزايدًا في الأوساط العلمية والتربوية: ماذا يحدث لدماغ الإنسان عندما يتوقف عن “العمل”؟ هل نحن في طريقنا إلى فقدان أهم ما نملكه — عقولنا؟ تسأل صحيفة “ذا غارديان” البريطانية.
منذ ثلاثينيات القرن الماضي، سجّلت البشرية ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الذكاء عبر الأجيال، وهي الظاهرة المعروفة باسم “تأثير فلين”، التي عزاها العلماء إلى تحسين ظروف التعليم والرعاية الصحية والتغذية.
لكن هذا المنحى بدأ يتراجع، كما أظهرت دراسات حديثة. ففي المملكة المتحدة، كشف جيمس فلين نفسه عن انخفاض معدل ذكاء المراهقين بنقطتين بين عامي 1980 و2008. أما على المستوى العالمي، فتُظهر نتائج دراسة “برنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA)” تدهورًا في نتائج الرياضيات والقراءة والعلوم، إلى جانب ضعف في التركيز والتفكير النقدي.
تشير بعض الأصوات إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه المسؤول عن هذا التدهور. لكن العالمة إليزابيث دْووراك من كلية الطب في جامعة نورثويسترن تحذر من التسرّع في الأحكام، قائلة: “الذكاء البشري يتأثر بعوامل متعددة: من التغذية إلى البيئة التعليمية والرعاية السابقة للولادة. لا يمكن إلقاء اللوم على الذكاء الاصطناعي وحده”.
لكنّ القلق لا يدور فقط حول معدلات الذكاء العامة، بل حول تراجع مهارات معرفية محددة بسبب ما يُعرف بـ”تفريغ الجهد العقلي” على أدوات الذكاء الاصطناعي. فعندما نتوقف عن التذكّر، ونوكل المهام الكتابية أو الحسابية إلى الآلة، تبدأ قدراتنا الشخصية بالتراجع.
أبرز المهارات المعرضة للتآكل، بحسب الباحثين، هو التفكير النقدي. فعندما نسأل الذكاء الاصطناعي عن رأيه في كاتب بريطاني، بدلًا من التفكير بأنفسنا، نحن في الواقع نتخلى عن تمرين أساسي لدماغنا.
دراسة أجراها مايكل غيرليش من كلية الأعمال في سويسرا على 666 شخصًا في بريطانيا، كشفت أن الاعتماد المتكرر على أدوات الذكاء الاصطناعي يرتبط بتراجع في مهارات التفكير النقدي، خاصة بين الشباب. بينما أظهرت دراسة مشتركة بين “مايكروسوفت” وجامعة كارنيغي ميلون أن العاملين في المهن التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي يصبحون أقل قدرة على حل المشكلات بدون هذه الأدوات.
يقول أحد المشاركين في الدراسة: “من الرائع أن أمتلك كل هذه المعلومات بنقرة زر، لكنني أحيانًا أشعر أنني لا أتعلم شيئًا فعليًّا. لا أعلم إن كنت أستطيع حل مشكلة من دون مساعدة الذكاء الاصطناعي”.
لا تقتصر المشكلة على الذكاء الاصطناعي التفاعلي فحسب، بل تمتد إلى الخوارزميات التي تتحكم فيما نراه على وسائل التواصل الاجتماعي. يشير غيرليش إلى أن منصات الفيديو تجبرك على جذب الانتباه خلال أول أربع ثوانٍ، ما يُنتج محتوى سريعًا وسطحيًّا. يقول: “هذه الخوارزميات تقدم لك المعلومة من دون أن تتكلف عناء التفكير فيها”.
في ظل هذا الانهمار المستمر للمعلومات الجاهزة، يفقد الدماغ مهارة التحليل والتقييم الأخلاقي والدلالي لما يتلقاه. ويؤكد غيرليش: “نحن في حاجة إلى انضباط نفسي حتى لا نُسند التفكير النقدي إلى هذه الأدوات”.
في دراسة نُشرت عام 2023 في مجلة Science Advances، تبين أنّ ChatGPT لا يقدم فقط معلومات سهلة الفهم مقارنة بالبشر، بل إنّه يُنتج معلومات مضللة أكثر إقناعًا. هذا يطرح سؤالًا حول احتمالية توظيف الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالرأي العام ـ سواء من قبل جهات تجارية، إعلامية أو سياسية.
أما على صعيد الإبداع، فقد بينت الدراسات أن الذكاء الاصطناعي قد يعزز إنتاج الفرد لأفكار جديدة، لكنه في الوقت ذاته يحدّ من التنوع الإبداعي على مستوى المجتمعات. يكتب ستيرنبرغ: “الذكاء الاصطناعي يعيد تركيب الأفكار، لكنه لا يخلق أفكارًا تغير قواعد اللعبة”.
تشير أبحاث ماركو مولر من جامعة أولم الألمانية إلى أن الاستخدام النشط لوسائل التواصل قد يُعزز الإبداع لدى الأجيال الشابة، لكنه لا ينطبق بالضرورة على الأكبر سنًّا الذين يتلقون المحتوى من دون تفاعل.
وعلى مستوى الدماغ، يحذر علماء الأعصاب من أن اللحظات “العبقرية” التي تولّدها أدمغتنا تُنشط أنظمة المكافأة العصبية، ما يدفع إلى مزيد من التعلم والتجريب ـ وهو ما لا توفره الحلول التي تُنتجها الآلات.