د. منقذ داغر “نسب المقاطعة،ودلالات(الممانعة)؟”
كعادة المجموعة المستقلة للأبحاث ومؤسسة غالوب الدولية فقد تم مؤخراً أجراء أستطلاع نوايا الناخبين العراقيين بخصوص الأنتخابات المحلية التي ستجرى هذا الشهر. جاءت النتائج لتؤكد أن هذه الأنتخابات ستكون الأقل مشاركةً والأكثر مقاطعةً من قبل الناخبين العراقيين مقارنةً بكل الأنتخابات البرلمانية والمحلية التي أجريت في العراق منذ 2005. فعلى الرغم من أن هذه النسب المتوقعة للمشاركة هي نسب أولية قد تتغير خلال الأسبوعين القادمين لأي سبب،فأن التوقعات تشير الى أن الأنتخابات لو أجريت يوم غد فستتراوح نسبة المشاركين في الانتخابات بين 15-20% فقط من مجموع العراقيين الذين يبلغون ثمانية عشر عاماً فأعلى. فأذا عرفنا أن نسبةً مهمةً من هؤلاء سوف لن تكون مؤهلة للأنتخاب بسبب عدم حصولها على بطاقة الناخب فأن نسب المشاركة المتوقعة قد تقل حتى عن 15%. وأذا عرفنا أن نسبة العراقيين المرتبطين بالأحزاب السياسية المتنافسة(عدا الصدريين الذين أعلنوا مقاطعتهم) تتراوح عادةّ بين 5-10% من مجموع الناخبين فأن ثلثي المصوتين سيكونون من الجمهور الحزبي،وثلث فقط (أي بحدود 5% من المجموع الكلي للمؤهلين للتصويت) هم ممن يسمون بجمهور المستقلين .ماذا تعني هذه الأرقام؟ أنها بأختصار تعني أن مجالس المحافظات سوف لن تكون فقط أستنساخاً لخريطة القوى الحزبية في البرلمان الحالي،بل قد تتعدى آثارها ذلك بكثير.
وعلى الرغم من أن النتائج تشير الى تباين في نسب المشاركة بين المحافظات حيث ستكون بغداد مثلاً هي أقل المحافظات مشاركةً أذ لا يتوقع أن تصل نسبة المشاركة الى 15%،الا أن العزوف عن المشاركة سيشمل جميع المحافظات تقريباً. هنا يقفز السؤال عن سر هذا السلوك المقاطع للأنتخابات على الرغم من معرفة المقاطعين أن سلوكهم هذا سوف لن يحسّن الأوضاع السياسية التي أدت لمقاطعتهم،أن لم يزدها سوءً عما هي عليه الآن؟ يبدو فعل المقاطعة فعلاً سلبياً كونه لن يزيد الا من فرص الأحزاب القابضة على السلطة والتي يود الناخب معاقبتها على سوء أداءها وفسادها وهيمنتها على مقدرات البلاد.فبدلاً من السعي لتغيير هذه الأحزاب والقوى من خلال صندوق الأنتخابات،فأن فعل المقاطعة سوف يكرس هيمنة تلك القوى ويكافئها بدلاً عن ذلك من خلال فسح المجال لناخبيها لكي ينفردوا بصناديق الأنتخابات وبدون أي منافسة. وفقاً لهذا المنطق الأحصائي العقلاني فأن المقاطعة لا تبدو فعلاً عقلانياً راشدا! هذا صحيح،لكن من قال لكم أن السلوك الأنساني عموماً،والسلوك الأنتخابي يخضع دوماً لمنطق الرياضيات والعقلانية؟!
يخضع السلوك الأنساني لعوامل نفسية-أجتماعية كثيرة تجعله يغفل الحسابات الرياضية العقلانية. فلطالما قام الأنسان بتصرفات وهو يعلم يقيناً أنها لن تجلب له منفعة أو تدفع عنه ضرراً سوى تحقيقها لحاجة نفسية ملحة نسميها حاجة التميز أو الأهمية SIGIFICANCE NEED وهي واحدة من مجموعة دوافع نفسية تتحكم بسلوكنا الأنساني. هل مر بكم يوماً شخص يولم لأصدقاءه ومعارفه ويبذخ في وليمته رغم أنه قد يبقى كل الشهر بدون مال كافي له ولعياله؟! أن شعور الأفراد(والجماعات أيضاً) بأنهم مهمون، ومرغوبون، ومقدرون – أمر بالغ الأهمية للنمو الشخصي ولتحقيق صحة عقلية وعاطفية جيدة. تتباين سلوكيات الناس لتحقيق الأحساس بالأهمية مثل القيام بأعمال بطولية،أو أعمال خيرية،أو تحقيق أنجازات معينة. ويبرز الدافع لتحقيق(الأهمية) بأوضح أشكاله حينما يشعر الفرد أن هناك من يسلب منه أهميته أو يتجاهله أو يقلل من أحترامه. تشير أرقام الأستطلاعات التي قامت بها المجموعة المستقلة للأبحاث أن حوالي 60% من العراقيين يشعرون أنهم لا يعاملون بكرامة من قبل من يمتلكون السلطة.وتزداد هذه النسبة الى حوالي الثلثين بين الشباب!
أن شعور العراقيين بالأنتقاص من قيمتهم،وبالذات الشباب الذين تتزايد لديهم حاجة الشعور بالأهمية،يؤدي الى التفكير بأساليب قد تبدو غير مجدية ظاهرياً،لكنها مفيدة نفسياً ومنها الأنتقام ممن سلبهم الشعور بالأهمية من خلال أي فعل ممكن،وهو هنا مقاطعة الأنتخابات. لكن يجب التنبيه أن تفاقم الشعور بعدم الأهمية وأدراك أن مقاطعة الأنتخابات لم تعد مجدية هي الأخرى أو غير كافية لأستعادة الشعور بالأهمية سيؤدي الى البحث عن أساليب أخرى منها،ما هو فردي مثل اللجوء للمخدرات أو الكحول،أو التطرف الفكري مثلاً فضلاً عن أشكال سلوكية أخرى تهدف لأستعادة الأهمية المفقودة.ومنها سلوكيات جماعية كالأنضمام للجماعات(بمختلف أشكالها) التي يمكنها أعادة الشعور بالأهمية للفرد أو الجماعة. لقد عودتنا الطبقة الحاكمة على عدم أدراكها وألتقاطها للعلامات التحذيرية (كمقاطعة الأنتخابات هذه) التي يطلقها المجتمع بسبب حساباتهم المنفعية الآنية والضيقة. لذا علينا أن لا نفاجأ بتطور هذه المقاطعة،والتي هي سلوك أحتجاجي وعقابي وأنتقامي أولي الى سلوكيات أحتجاجية وأنتقامية أشد قوةً وأنفعالأً،وما تشرين عنا ببعيد.