تشرشل الذي قاد بلاده في حقبة الحرب العالمية الثانية كان عمل مراسلا حربيا في جنوب إفريقيا وبعد ذلك في السودان.
خلال عمله مع القوات البريطانية في جنوب إفريقيا أثناء الحرب البريطانية مع “البوير”، بقايا المستعمرين الهولنديين، سقط في الأسر وقضى فيه نحو شهر قبل أن يهرب ويتحول على “بطل” ليبدأ الصعود إلى سلم السلطة.
كان الشاب الذي سيتولى رئاسة الحكومة البريطانية في أصعب فترات الحرب العالمية الثانية على متن قطار مدرع يوم 15 نوفمبر 1899، حين فتح عليه “البوير” نيران مدفعيتهم ، وقطعوا الطريق أمامه بالصخور.
توقف القطار لبعض الوقت، وانهالت القذائف عليه، فخرج منه تشرشل محاولا الهرب بسرعة من القذائف المنهمرة على القطار.
جذور الصراع العنيف بين البريطانيين والهولنديين على المنطقة ظهرت في عام 1886 بعد العثور على أغنى رواسب الذهب في العالم في ترانسفال، حيث تدفقت أعداد كبيرة من الباحثين عن الثروات معظمكم من الإنجليز.
بحلول خريف عام 1899، تدهورت العلاقات بشكل حاد بين البريطانيين الذين كانوا يستعمرون جنوب إفريقيا وجمهوريتي البوير “ترانسفال” و”أورانج”، اللتين رفضتا في سبتمبر مطالب بريطانية بمنح العمال البريطانيين حقوقا وامتيازات في مناجم الذهب.
حاول تشرشل الفرار، إلا أن فرسان البوير تمكنوا من اعتقاله ونقله إلى معسكر لأسرى الحرب أقيم في مدرسة نموذجية سابقة في بريتوريا مسيجة ومحصنة.
وثّق ونستون تشرشل أحاديثه مع مقاتلي “البوير”، وذكر أنهم أبلغوه بأن مقاومة جبروت الإمبراطورية البريطانية أمر خطير، لكنهم مستعدون، وأنهم سيقاتلون حتى النهاية وسيطردون البريطانيين من جنوب إفريقيا إلى الأبد .
تشرشل سجّل أنه رد عليهم بعد أن أمّن لنفسه وضعا مريحا بوصفه مراسلا قائلا: “محاولاتكم لا طائل من ورائها. سيتم انتزاع بريتوريا بحلول منتصف مارس. ما فرصتكم ضد مئات الآلاف من الجنود؟”.
البوير، وهم أيضا مثل البريطانيين مستعمرون ودخلاء على القارة الإفريقية، كانوا يعرفون أن ونستون هو ابن الضابط الرفيع راندولف تشرشل، الشهير بآرائه المتغطرسة للغاية حول العلاقات مع المستوطنين الهولنديين، ومع ذلك، عاملوه بلطف واحترام، باعتراف تشرشل نفسه.
تحدث تشرشل عن حواراته الساخنة مع المقاتلين “البوير”، مشيرا إلى معاملتهم الطيبة له ومقاسمتهم إياه ما لديهم من أغطية وحاجيات. كما سجل إعجابه بجرأة وتصميم “البوير” على القتال حتى النهاية، مشيرا إلى أن اليأس تسلل داخله “لبعض الوقت”، واعتقد أن البريطانيين سيخسرون الحرب أمام البوير.
كتب ونستون تشرشل بهذا الشأن يقول: “أي نوع من البشر هؤلاء البوير! تذكرت كيف رأيتهم هذا الصباح حين كانوا يسيرون تحت المطر، الآلاف من الرماة. إنهم يتحركون ويعيشون من دون إمدادات أو نقل، ويندفعون مثل الريح”.
يواصل الشاب ونستون تسجيل انطباعاته قائلا: “اعتقدت، بعد كل شيء، أن هذه الحرب غير عادلة، وأن البوير كانوا أفضل منا، وأن السماء ضدنا، وأن (مناطق) ليديسميث ومافكينغ وكيمبرلي ستسقط، وأن القوى الأجنبية ستتدخل، سنخسر جنوب إفريقيا وستكون هذه بداية النهاية. لكن عندما ظهرت شمس الصباح، وكانت حتى أكثر إشراقا ما بعد عاصفة رعدية وأكثر دفئا بعد البرد، في النافذة استعاد كل شيء ألوانه ونسبه الحقيقية”.
بعد سلسلة طويلة من الهزائم المذلة أمام “البوير” حشدت الإمبراطورية البريطانية قواها ضدهم وتمكنت من الانتصار عليهم.
نجح البريطانيون في ذلك بعد أن استخدموا لأول مرة تكتيكات الأرض المحروقة في مناطق “البوير”، وحشروهم في معسكرات الاعتقال، حيث مات حوالي 30 ألف امرأة وطفل من البوير، إضافة إلى أعداد غير محددة من الأفارقة السود.
تشرشل، كان يتسامر مع المقاتلين “البوير” اللطفاء، وفي نفس الوقت كان يدرس نقاط ضعف سجانيه مترصدا فرصة سانحة للهرب.
قبل أن يفر في مغامرة طويلة وشاقة، كتب الشاب تشرشل رسالة إلى وزير خارجية جمهورية ترانسفال قال فيها:
سيدي، يشرفني أن أبلغكم بأنه بما أنني لا أعترف بأي حق لحكومتكم في احتجازي كأسير حرب!، فقد قررت الهرب من الاحتجاز. أنا واثق تماما من الاتفاقات التي توصلت إليها مع أصدقائي في الخارج، وبالتالي لا يمكنني أن أتوقع أن تتاح لي الفرصة لرؤيتكم مرة أخرى. لذلك، أغتنم هذه الفرصة لأشير إلى أنني أجد معاملتكم للسجناء سليمة وإنسانية وليس لدي أي سبب للشكوى. عندما أعود إلى موقع القوات البريطانية، سأدلي بتصريح عام حول هذه المسألة. أود أن أشكركم شخصيا على موقفكم اللطيف تجاهي وأن أعرب عن الأمل في أن نتمكن بعد فترة من الاجتماع مرة أخرى في بريتوريا، ولكن في ظل ظروف مختلفة. أنا آسف لأنني لا أستطيع أن أودعك بشكل شخصي.
فر تشرشل من المعتقل، وقطع مسافات طويلة، مستغلا قطارات الشحن المليئة بالقطن، إلى أن وصل إلى موزمبيق التي كانت تستعمرها البرتغال. هناك استقبله القنصل البريطاني بالأحضان!
بريطانيا كانت في ذلك الوقت في وضع يائس في حربها مع “البوير” بعد تعرضت لهزائم قاسية فقدت خلالها الآلاف من نودها بين قتيل وجريح وأسير.
كانت الإمبراطورية “التي لا تغرب عنها الشمس” بحاجة ماسة حينها إلى بطل. وكان تشرشل الشخصية المناسبة. ومنذ تلك اللحظة بدأ نجمه في الصعود.
المصدر: RT