اراء و أفكـار

هل يمثل الأتفاق السعودي-الأيراني ضربةً للسياسة الأمريكية في المنطقة؟

 

ضجت (بعض) مواقع التواصل والأخبار بعبارات الفرح والترحيب بفوز بايدن وخسارة ترامب للأنتخابات الأميركية الأخيرة، مستبشرةً بعهد جديد في سياسة أميركا في المنطقة.وقد كتبت آنذاك تغريدة قلت فيها أن ما يحصل يذكرني بالفرح والحبور الذي أنتاب كثير من العراقيين عندما خسر الجمهوريون موقع الرئاسة لصالح بيل كلينتون في 1993. لقد أعتقد هؤلاء المتفائلون أن كلينتون سيكون أخف وطأةً على العراق الذي كان يعاني من حصار خانق،لكن الأيام أثبتت أن سياسته لم تختلف سوى في وسائل إنفاذها. لقد أعتقد البعض أن الأتفاق السعودي الأيراني الأخير يمثل صفعة للسياسة الأميركية ودليل على تراجع نفوذها في المنطقة فهل هذا الأعتقاد صحيح؟

على الرغم من تمنياتي المخلصة بنجاح هذا الأتفاق، لكني لن أناقش ذلك الا بعد ثبوت صموده وتطبيقه على أرض الواقع وهذا سيستغرق ما لايقل عن شهرين وستتضح أولى دلائله في اليمن. مع هذا فأن تركيزي هنا على تأثير الأتفاق ودلالاته على النفوذ والسياسة الأمريكية في منطقتنا. هل نحن أزاء زلزال أو على الأقل أنقلاب جيو أستراتيجي؟ هل نحن أزاء شرق أوسط جديد تغيرت فيه التحالفات والأصطفافات الأستراتيجية؟ شخصياً،أعتقد أن من المبكر جداً الوصول الى مثل هذه الأستنتاجات. فكل ما أراه هو تغير في وسائل ممارسة النفوذ الأمريكي وبما يتناسب وعقيدة بايدن الجديدة في المنطقة والتي تقوم على تقليل ممارسة القوة الخشنة ومزيد من الأستثمار في القوة الناعمة. هذا يعني أن الشرق الأوسط وأن قلت أهميته لكنه سيبقى ضمن دائرة المراقبة والأهتمام الأميركيين وسيكون من السذاجة التصور أن أمريكا ستترك الصين تتفوق عليها أستراتيجياً في المنطقة.

أن ما يحصل الآن هو تغيير سياسة التهديد والعقوبات التي قامت عليها عقيدة ترامب في المنطقة الى سياسة الأحتواء والأتفاقات التي تقوم عليها عقيدة بايدن. لقد عمل ترامب جاهداً لتحييد الخطر الأيراني عن “أسرائيل” ومصالح أميركا في المنطقة من خلال ما سمي بسياسة الضغط الأقصى الذي تُوّج بما يسمى بصفقة القرن أو الأتفاق الأبراهيمي.مع ذلك فقد تميزت تلك الفترة بنشاط متصاعد لأيران ووكلائها في المنطقة تمثل بشن هجمات مستمرة على القوات الأميركية وحلفائها سواء في العراق أو سوريا أو اليمن بل وتهديد الملاحة الدولية وتدفق النفط لاسواق العالم بضرب أرامكو السعودية. أم بعد أستلام بايدن للحكم فقد عادت البنادق لمشاجبها ولم تُسمع قرقعة السلاح حتى بعد تأكد الجميع أن العودة للأتفاق النووي الأمريكي الأيراني صارت مستحيلة!
لقد ألتقطت أدارة بايدن اللحظة المناسبة لترويض النفوذ الأيراني بعد أن أنهكته، وأذرعه، العقوبات الأقتصادية وباتت تهدد أستقراره الداخلي. ولم يكن الأتفاق السعودي الأيراني سوى خطوة أخيرة توجّت ما سبقها من أتفاق لبناني “أسرائيلي” بخصوص ترسيم الحدود البحرية والأعتراف بدولة “أسرائيل”، ثم الهدنة في اليمن، ثم الغزل الأطاري والتفاهمات مع الأميركان في العراق وأخيراً أيقاف كل الأعمال العدائية ضد المصالح الأميركية في المنطقة. لقد حققت سياسة الأحتواء هذه للمصالح الأميركية، وحلفائها في المنطقة، أكثر بكثير مما حققته سياسة الضغط الأقصى الترامبية. وأستناداَ الى مصادر أميركية مطلعة،فأن الأتفاق السعودي الأيراني الأخير لم يكن خارج نطاق الرادار الأميركي. فبحسب هذه المصادر،فأن السعوديين لم يرغبوا بالمخاطرة بعلاقتهم الأسترانيجية مع أميركا فكانوا يطلعونها أولاً بأول على مستجدات المباحثات ومضامين الأتفاق مع أيران. ولم تعارض أميركا أشراك الصين في تهدئة الأوضاع في المنطقة وكبح جماح طموحات أيران النووية وطموحاتها التوسعية في المنطقة وهو ما يتناسب تماماً مع عقيدة بايدن. بل بالعكس،فأن هذا الأتفاق أذا نجح سيضمن لأميركا مزيد من المراقبة والتقييد لأنشطة أيران النووية بعد أن بات من الصعب مراقبة هذه الأنشطة في أعقاب موت الأتفاق النووي مع أميركا وأوربا. أكثر من ذلك فقد قامت السعودية بخطوتين مهمتين لعدم أثارة الغضب الأمريكي. الأولى تمثلت في زيارة وزير خارجيتها لكييف الشهر الماضي ودعمها بحزمة مساعدات بلغت قيمتها 400 مليون دولار وهذه مساعدة سخية تدعم الجهد الأمريكي لحشد الأسناد لأوكرانيا في حربها مع روسيا وهو ما يقع على رأس أولويات الأستراتيجية الأميركية حالياً. أما الخطوة الأهم والتي أحتفلت بها وروجت لها أدارة بايدن في اليومين السابقين فقد تمثلت بصفقة شراء 120 طائرة بوينغ أميركية بقيمة 37 مليار دولار أمريكي،وهو ما سيفر آلاف فرص العمل كما قالت الأدارة الأميركية.

الخلاصة،أن هناك أولويتان ثابتتان في أستراتيجية الأمن القومي الأميركي بغض النظر عمن سيحكم البيت الأبيض.الأولى هي ضمان أمن “أسرائيل” والثانية هي أستمرار تدفق النفط الخليجي للأسواق العالمية حتى وأن لم تكن أميركا هي المستورد،فأمن الطاقة العالمي ضمانة أكيدة لأستقرار الأقتصاد الأمريكي. لذا فمن الخطأ تصور أنسحاب أميركا الكلي من المنطقة ما دامت هاتين الأولويتين ثابتتين في قلب أستراتيجية الأمن القومي الأمريكي. كما أنه وعلى الرغم من الأنعطافات والمناورات التي باتت السياسة السعودية الخارجية أقل تحفظاً في أستخدامها بخاصة أزاء أميركا،ألا أن من السذاجة أيضاً تصور أن السعودية يمكن أن تخاطر بعلاقاتها الأستراتيجية مع واشنطن أو حتى التلويح بأستبدال الشريك الصيني محل الشريك الأمريكي. وسنبقى خلال الشهرين القادمين نترقب ما يحصل على الأرض للحكم على مدى نجاح الأتفاق السعودي الأيراني الذي أتمنى ككثير من العقلاء أن ينجح ويأتي ثماره لصالح جميع شعوب المنطقة.

مقالات ذات صلة