ثقافة وفن

في “خزائن”.. أرشيف فلسطين الإنساني قبل النكبة وبعدها

رام الله –  في 17 يونيو/حزيران 1942 نشر الفنان المصري محمد عبد الوهاب في جريدة الدفاع الفلسطينية إعلانا للقراء لاقتراح اسم لفيلمه الجديد “ممنوع الحب” وإرسال اقتراحاتهم لإدارة سينما الحمراء في يافا مقابل جائزة مالية قيمتها 200 جنيه، فوصلت في حينه الكثير من الاقتراحات التي كان من بينها الاسم الذي اعتمده الفنان المصري قبل موعد عرضه في السينما بأيام.

وثقت تلك الواقعة وغيرها أوراقا أرشيفية احتفظ بها موسى يونس الحسيني أصغر مدير سينما في حينه، والذي تسلم منصبه وعمره لم يتجاوز 25 عاما، بعد خسارة عمله إثر إغلاق حكومة الانتداب البريطاني الصحيفة التي كان يعمل فيها.

وفي زمنه تطورت السينما وارتفعت أسهمها بفضل جهوده واتصالاته التي كان يقوم بها مع فنانين وشعراء عرب، حيث حرص على عرض أقوى وأحدث الأفلام واستقدام أفضل الفرق الفنية.

تفاصيل حياة الحسيني وعائلته تتبعتها مؤسسة مبادرة خزائن والباحث فادي عاصلة من خلال رسائل الحسيني مع شعراء وفنانين في الوطن العربي، وفي ما بعد رسائله لأشقائه الذين تشتتوا في دول عدة بعد النكبة.

هذه الرسائل وصلت إلى أرشيف “خزائن” من خلال حفيدة العائلة غدير الدجاني التي حاولت الحفاظ على ما تبقى منها بعد تعرض منزل جدها في شارع صلاح الدين بالقدس المحتلة للسرقة وضياع جزء من هذه الوثائق.

ومبادرة “خزائن” -التي انطلقت عام 2016- هي أرشيف مجتمعي يوثق النشاط الإنساني العربي في شتى العواصم، مع الاهتمام بالإنتاج الفلسطيني خاصة كأرشيف مجتمعي يوثق الحياة اليومية ويوفر لكل مؤسسة أو جمعية أو عائلة خزانة خاصة توثق نشاطها وتحفظ إرثها وتحميه من التلف، وهذا الأرشيف هو المنشورات اليومية من وثائق وملصقات ومطويات وإعلانات وكل قصاصة ورق.

5 آلاف وثيقة

تقول الدجاني للجزيرة نت “هذه الوثائق لم تكن اكتشافا لفريق خزائن وإنما للعائلة، فقد كانت تحتوي تفاصيل يومياتهم وأماكن لم تعد موجودة الآن، وهي أحداث غير محصورة في عائلة والدتي وإنما تتقاطع مع كل الأحداث الفلسطينية من الانتداب والنكبة والنكسة وما تبعها”.

وأرشيف الدجاني كان عبارة عن قصاصات ورقية تجاوز عددها الـ5 آلاف، وبعد أرشفتها من قبل فريق “خزائن” وبمشاركة العائلة استطاع الباحث عاصلة كتابه حكاية موسى الحسيني -وهو واحد من أنجح رجال الاقتصاد الفلسطينيين- من خلال الرسائل التي كانت تصله من شتى الأماكن في العالم إلى القدس، وفي ما بعد رسائله لشقيقاته اللواتي بقين في القدس بعد النكبة.

وبعد توثيقها أرشيف عائلة والدتها الحسيني واكتشاف أهمية هذا الأرشيف تعمل الدجاني على توثيق أرشيف عائلة جدها لوالدها، خاصة في ظل تهديد منزل جدها فؤاد الدجاني في حي الشيخ جراح، وخلال 5 سنوات من عمر “خزائن” استطاعت توثيق آلاف الوثائق.

AD

وهذه الأرشيفات تفتح خزائنها للباحثين والمهتمين، خاصة أنها تغطي بعض الجوانب التي لم يتم توثيقها أكاديميا، كما يقول الباحث عاصلة.

توثيق نادر

وأرشيف عائلة أبو عيد كان أحد هذه الأرشيفات التي احتوت على وثائق من عام 1830 إلى 2017، والتي كان من بينها رسائل احتجاج أرسلها أهالي قرية بيتونيا غربي رام الله إلى الباب العالي في إسطنبول احتجاجا على فساد مدير الناحية جرجي أفندم الحمصي الذي قام بدفع المال ليكسب الانتخابات.

ويقول عاصلة للجزيرة نت “قدم لنا هذا الأرشيف وثائق تعود للقرن الـ19 لفلاحين طالبوا بتغيير القيادة السياسية التي تحكمهم، وهو توثيق نادر من الصعب إيجاده بمصدر تاريخي آخر”.

AD

هذا الأرشيف وصل إلى “خزائن” من خلال حفيدة العائلة سارة أبو عيد، حيث احتفظت به لمعة أبو عيد جدة والدتها طوال هذه السنوات في منزلها، وبعد وفاتها في 2017 اقترحت على العائلة حفظه في “خزائن” وسجل باسم حنان أبو عيد ابنة لمعة.

تقول سارة أبو عيد للجزيرة نت “بعد وفاة الجدة وجدنا في البيت الذي كانت تسكنه صندوقين كانت تحتفظ فيهما بكل قصاصة ورق”.

 

AD

وهذه القصاصات عبارة عن فواتير الأراضي وملكياتها وفواتير المياه والكهرباء ودعوات الفرح، وجزء منها أرشيف قديم يعود إلى والد زوجها عبد الله أبو صالح خلال الفترة العثمانية، إلى جانب ملكيته الأراضي التي صودرت وراء الجدار العازل.

وتتابع أبو عيد أن “بعض الأوراق تعود إلى العام 1909، ومنها رسالة لرئيس ديوان باقة الغربية بشأن تجارة الملح التي كان يقوم بها عبد الله أبو عيد بين اللد والرملة”.

هذا الأرشيف لم يقدم جديدا للباحثين فقط، وإنما دفع أبو عيد إلى إعادة التفكير بأهمية كل وثيقة وأن تحافظ عليها كما جدتها، وتابعت أنه “من المهم أن يكون لكل عائلة أرشيف في خزائن”.

جهود طوعية

ويعمل فريق “خزائن” بشكل تطوعي على تحقيق هدف تأسيس مخزون معرفي يوثق التاريخ الفلسطيني المجتمعي، ليتحول إلى مصدر معرفي داعم للسردية الفلسطينية والحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، كما يقول مدير المؤسسة حاتم الطحان.

ويتابع الطحان للجزيرة نت “نسعى لبناء أرشيف بديل عن الذي سرقه الاحتلال خلال النكبة الفلسطينية أو ما تبعها في ما بعد من اجتياح المركز الفلسطيني للأبحاث أو سرقة الأرشيفات العائلية من منازل الفلسطينيين”.

ولا يتوقف عمل “خزائن” على جمع هذه الوثائق، وإنما تقوم بالاستفادة منها لإنتاج محتوى معرفي كما هو الحال مع مجموعة “أحمد حسين الخطيب”، وهي عبارة عن 40 ورقة من القطع الكبير كتبت بخط يده خلال وجوده في سجن عكا بعد الحكم عليه بالإعدام عام 1938، وهذا الحكم لم ينفذ بفضل جهد كبير من المحامي الذي استطاع تخفيض الحكم للمؤبد.

الأرشيف الذي وصل إلى “خزائن” بعد 80 عاما لم يشر إلى مصير الخطيب بعد النكبة، فكان البحث من قبل فريق العمل الذي استطاع الوصول لأحد أبناء عائلته، وتبين أنه رحل إلى لبنان في النكبة واستقر في بعلبك ولم يصطحب من فلسطين سوى ابنته أمينة، أما باقي أولاده وعائلته فبقوا في فلسطين، وفي ما بعد تزوجت أمينة في عين الحلوة، فيما توفي الوالد في بعلبك عام 1956.

ومع ذكرى النكبة تنشط “خزائن” في نشر ما يتعلق بالنكبة من صور ووثائق حول القرى المهجرة والمعارك التي وقعت في المدن والقرى الفلسطينية.

ويقول عاصلة “هذه الأرشيفات توثق لمرحلة ما قبل النكبة، وتغطي الفجوات التي لم يتطرق لها الباحثون من قبل، فكل ما نعرفه عن النكبة أن 850 ألف فلسطيني هجّروا من بلدهم، ولكن هذه القصاصات تقدم القصة الإنسانية لهؤلاء اللاجئين”.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة