ثقافة وفن

نيويورك تايمز: المناخ المتغير منح البشر العديد من الفرص لمغادرة أفريقيا

تشير دراسات حديثة للحمض النووي إلى أن البشر يتشاركون جميعا قصة هجرة قديمة، انحدر فيها جميع الناس من أسلاف غادروا أفريقيا قبل أكثر من 60 ألف عام، وأن أول البشر المعاصرين قد غامر منذ نحو 45 ألف سنة بالهجرة نحو أوروبا -التي كانت تغطيها الصفائح الجليدية- وذلك عبر الشرق الأوسط والجزيرة العربية.

وحتى وقت قريب، اعتقد العلماء أن البشر المعاصرين غادروا أفريقيا في هجرة جماعية ضخمة واحدة منذ نحو 65 ألف عام، لكن نموذجا مناخيا جديدا يشير إلى أن البشر المعاصرين كانت لديهم العديد من الفرص لمغادرة القارة في وقت مبكر جدا.

وقالت الكاتبة صابرينا إمبلر -في تقريرها لصحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times) الأميركية- إن بحثًا نُشر أمس الأول الثلاثاء في مجلة “نيتشر كوميونيكيشنز” (Nature Communications) أعاد محاكاة مناخ شمال شرق أفريقيا على مدار 300 ألف عام الماضية، وحدد العلماء كمية الأمطار ووقتها التي تسمح لمجموعة من الصيادين وجامعي الثمار بالبقاء على قيد الحياة أثناء الرحلة إلى شبه الجزيرة العربية.

ولا تزال البيانات الأثرية والجينية تدعم فرضية أن جميع الأشخاص غير الأفارقة ينحدرون من هجرة واحدة غادرت القارة منذ ما بين 50 و80 ألف عام، لكن البحث الجديد يدعم النظرية القائلة إن الإنسان العاقل كانت له هجرات متعددة من أفريقيا.

الهجرة من أفريقيا

وذكرت الكاتبة أنه حتى لو نجحت مجموعات بشرية مختلفة في مغادرة القارة، فربما لم تلعب دورا كبيرا في إعمار العالم.

وتسلط مجموعة سابقة من الحفريات الضوء على بعض البدايات الزائفة للإنسان العاقل؛ فقد عُثر على جزء من إصبع أوسط يعود إلى 85 ألف عام في شبه الجزيرة العربية، وعظم فكّ بشري يعود إلى 177 ألف عام على الأقل في الجليل، وجمجمة ربما تعود إلى 210 آلاف عام في اليونان.

وهذا يدعو لاستقراء توقيت ومسارات هذه الرحلات المبكرة من هذه السجلات الأثرية. وحسب أندريا مانيكا -عالمة البيئة التطورية في جامعة كامبريدج ومؤلفة البحث الجديد، فإن الحفريات تقدم “خطوطا محدودة ومليئة بالثغرات من الأدلة” على الهجرات المحتملة.

وتعتقد مانيكا أن النموذج البيئي يمكن أن يعالج السؤال من زاوية جديدة: أولا توقع ما كان ممكنًا، ثم التأكد من مدى توافق الحفريات.

وقال عالم الأنثروبولوجيا ريك بوتس -الذي يدير مشروع الأصول البشرية في متحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي، والذي لم يشارك في البحث- إن “الورقة البحثية الجديدة تدرك نقطة مهمة، وهي أنه كانت هناك حالات متعددة لانتشار جنسنا البشري خارج أفريقيا قبل الهجرة الرئيسية”.

وأشارت الكاتبة إلى أن مانيكا وروبرت باير -الباحث في معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ في ألمانيا- ابتكرا منهجهما البيئي لأول مرة عام 2018. ومع أن العلماء قاموا بالفعل بنمذجة المناخ منذ 125 ألف عام، فإن مانيكا وباير أرادا العودة إلى تاريخ أقدم الحفريات البشرية الحديثة تشريحيًّا، التي عُثر عليها في المغرب، ويقدّر عمرها بنحو 300 ألف عام على الأقل.

وللتنبؤ بالوقت الذي كان بإمكان الإنسان العاقل التحرك فيه عبر شمال شرق أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، كان الباحثون بحاجة إلى معرفة الحد الأدنى من الظروف التي يمكن للبشر أن يعيشوا فيها.

توزيع الصيادين

نظر الباحثون في خرائط توزيع الصيادين وجامعي الثمار الحاليين، ووجدوا أنه لا يتم تسجيل وجود مجموعات سكانية بشكل عام في المناطق التي ينخفض فيها هطول الأمطار إلى أقل من 3.5 بوصات من المطر سنويا، وهي كميات لا تكفي للحفاظ على البقع الخضراء من القصب والأعشاب والشجيرات التي تغذي حيوانات الرعي التي ربما كان البشر الأوائل يعتمدون عليها.

بمجرد أن حدد الباحثون عتبة البقاء على قيد الحياة عند 3.5 بوصات من الأمطار، قاموا بدمجها مع نموذج إعادة بناء المناخ لمعرفة متى كانت الظروف مناسبة بما يكفي للسفر عبر طريقين محتملين إلى أوراسيا (أوروبا وآسيا)، هما شبه جزيرة سيناء المصرية في الشمال، وإلى الجنوب حيث مضيق باب المندب، الذي يفصل القرن الأفريقي عن اليمن المعاصر.

وأوضحت الكاتبة أن نموذج الباحثين كشف عن عدد من النوافذ التاريخية التي كانت خلالها نسبة الأمطار ومستوى سطح البحر المنخفض نسبيا مناسبين لتأمين هجرة البشر من أفريقيا. كان الجسر البري في سيناء قابلًا للعبور عدة مرات، منذ 246 ألف عام، وكانت للمضيق الجنوبي نوافذ أكثر ملاءمة، بما في ذلك الفترة قبل 65 ألف عام.

استعمار أوراسيا

لقد فاجأ العدد الكبير من فرص العبور الدكتورة مانيكا، بالنظر إلى الأدلة القوية التي تشير إلى أن الهجرة الجماعية الأخيرة فقط هي التي أسهمت في إعمار العالم بالإنسان العاقل؛ لذا فإن السؤال المطروح: إذا كان بعض البشر العاقلين قادرين على استعمار أوراسيا قبل ذلك بكثير، فلماذا لم ينجحوا؟

لدى الباحثين بعض النظريات؛ فإذا كان من الممكن للبشر الأوائل الانتقال من أفريقيا في وقت مبكر جدا، فإنهم قد واجهوا منافسة شديدة من أنواع أخرى من البشر الأوائل، حيث كان الشمال معقلا لإنسان “نياندرتال”، ومن المحتمل أن سلالة بشرية منقرضة أخرى تدعى “دينيسوفان” كانت تسكن جزءا كبيرا من شرق آسيا.

وتشير النماذج أيضا إلى أن فترات الجفاف كانت غالبا تتبع النوافذ المواتية، التي كان من الممكن أن تعزل أي مجموعة سكانية تقوم بهجرة جماعية. لكن المؤلفين لاحظوا أيضا أنه حتى لو كانت الظروف جيدة، فربما لم يستغل البشر هذه الفترات للهجرة. كان على النموذج أن يضع عدة افتراضات، بما في ذلك أن عبور المضيق الجنوبي كان ممكنا دائما بالنسبة للبشر الذين ربما كانت لديهم تقنية القارب للقيام بذلك.

انتقادات للدراسة

ونقلت الكاتبة عن عالمة المناخ القديم بجامعة “أريزونا” جيسيكا تيرني -التي لم تشارك في البحث- أن النماذج المناخية للورقة البحثية الجديدة كانت بسيطة للغاية للتنبؤ بما كان عليه تغير المناخ منذ مئات الآلاف من الأعوام.

كما شككت أيضا في بعض قواعد النموذج، مثل قدرة البشر على الهجرة فقط مع الحد الأدنى من هطول الأمطار. وقالت تيرني “أعتقد أنه من المنطقي أن نفترض هذا الأمر. ومن ناحية أخرى، كان نهر النيل موجودا دائما، ويمكنهم الخروج بهذه الطريقة في أي وقت تقريبا”.

وبالمثل، قالت عالمة الأرض في جامعة “هيوستن” إميلي بيفرلي -التي لم تشارك في البحث- إن المؤلفين لم يفكروا في وجود ينابيع المياه العذبة التي يمكن أن تكون مصدرا لمياه الشرب للإنسان المهاجر خلال فترات الجفاف.

وأشار الدكتور بوتس إلى أن المستوى الأدنى لهطول الأمطار في النموذج كان “منخفضا جدا” للسماح للصيادين وجامعي الثمار بالانتشار بنجاح خارج أفريقيا.

وذكر بوتس أن بحثا سابقا أشار إلى أنه لم يكن من الممكن للبشر الأوائل الانتشار في القارة إلا عندما كان متوسط هطول الأمطار أكثر من 3.9 بوصات في العام، وانتشروا عادة عندما كان هناك ما لا يقل عن 10 بوصات من الأمطار. إن السؤال البحثي الأكثر إثارة للاهتمام -من وجهة نظر الدكتور بوتس- يتعلق بمسارات الانتشار التي كانت ستكون متاحة في هذه النوافذ ذات الأمطار الغزيرة.

صحاري الجزيرة العربية

ويقول عالم الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض عبد الله الشارخ -الذي لم يشارك في البحث- إنه يقدر فحص الورقة البحثية للمناخ العربي في عصور ما قبل التاريخ.

وكتب الدكتور الشارخ -في رسالة بالبريد الإلكتروني للصحيفة الأميركية- “لقد أظهر العقدان الماضيان أن العديد من أسئلتنا حول نماذج الهجرة خارج أفريقيا يمكن تحسينها بشكل كبير من خلال المزيد من الأبحاث على أرض الواقع في شبه الجزيرة العربية. ماذا يكمن تحت تلك الصحاري الرملية؟”

ولدى الدكتورة مانيكا أمل مماثل، وهو أن الحفريات والتحقيقات الجينية في المستقبل ستسلط مزيدا من الضوء على هجرة الإنسان العاقل المتقطعة خارج أفريقيا؛ كل من الموجات السابقة التي تبدو غير ناجحة، والهجرة الرئيسية التي أطلقت العنان لهيمنة الإنسان العاقل لتغيير بقية العالم بشكل لا رجعة فيه.

مقالات ذات صلة