ثقافة وفن

الاستعمار الإنجليزي وخلفه الاستيطان الصهيوني.. مؤرخ بريطاني إسرائيلي يناقش خطيئة “الوطن القومي”

كانت لندن دائما في معسكر إسرائيل منذ “الخطيئة الأصلية” لعام 1917 إلى تبني الحكومة البريطانية مؤخرا تعريفا مثيرا للجدل وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمصطلح “معاداة السامية”.

ورَد ذلك بمقال طويل في موقع “ميدل إيست آي” (middleeasteye) البريطاني للمؤرخ وأستاذ العلاقات الدولية السابق بجامعة أوكسفورد البريطاني الإسرائيلي آفي شلايم الزميل الفخري في كلية سانت أنتوني بإنجلترا والمهتم بشكل رئيسي بالصراع العربي الإسرائيلي.

يقول شلايم إن “الخطيئة الأصلية” هي إعلان بلفور لعام 1917، الذي وعد بدعم إقامة “وطن قومي للشعب اليهودي” بشرط عدم القيام بأي شيء “للإضرار بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين”. وحينها كان العرب يشكلون 90% من سكان فلسطين ويشكل اليهود أقل من 10%.

وثيقة استعمارية

وهكذا كان الإعلان وثيقة استعمارية كلاسيكية، فقد منح الحق في تقرير المصير القومي لأقلية صغيرة، وحرم الأغلبية منه. ولزيادة الطين بلة، أشار الإعلان إلى 90% من سكان البلاد على أنهم “مجتمعات غير يهودية في فلسطين” مما جعلهم في وضع أدنى.

في النهاية، أوفت بريطانيا بوعدها للصهاينة من خلال مساعدة “الوطن القومي” على التطور إلى دولة يهودية، لكنها خانت تعهدها للفلسطينيين.

وأدت خيانة بريطانيا إلى اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939، وكانت انتفاضة قومية تطالب بالاستقلال العربي ووضع حد لسياسة الهجرة اليهودية المفتوحة وشراء الأراضي، لكن تم قمع الثورة بقسوة ووحشية من قبل الجيش البريطاني والشرطة.

وفي عملية سحق الانتفاضة، كسرت بريطانيا العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، وأضعفت الفلسطينيين بشكل خطير. وفي المقابل قوّت المجموعات الصهيونية، حيث تحرك الطرفان بلا هوادة نحو المواجهة النهائية.

لم تضِعْ فلسطين إذن أواخر الأربعينيات كما هو شائع، فقد ضاعت أواخر الثلاثينيات، نتيجة لسحق بريطانيا الوحشي للمقاومة الفلسطينية ودعمها للمجموعات اليهودية شبه العسكرية.

عنصرية ضد العرب

وكان وجود تيار عنصري بالمملكة المتحدة معاد للعرب قد أدى إلى التأثير على طريقة تعامل بريطانيا بالكامل مع الانتداب على فلسطين. ففي عام 1937، قال ونستون تشرشل الذي أصبح فيما بعد رئيسا للوزراء “لا أوافق على أن الكلب الموجود في الحظيرة له الحق النهائي في الحظيرة رغم أنه قد يكون مكث هناك لفترة طويلة جدا. أنا لا أعترف بهذا الحق”.

وأضاف “أنا لا أعترف، على سبيل المثال، أنه تم ارتكاب خطأ فادح بحق الهنود الحمر في أميركا أو السود في أستراليا. أنا لا أعترف بأنه قد تم ارتكاب خطأ تجاه هؤلاء الناس من خلال حقيقة أن عرقا أقوىا، وأعلى درجة، وأكثر حكمة.. قد جاء وحل مكانهم”.

لذلك، يقول الكاتب: كان أحد المتظاهرين في احتجاجات “حياة السود مهمة” على حق عندما قام، في يونيو/حزيران 2020، برش رسومات على تمثال تشرشل في ساحة البرلمان بلندن لإضافة عبارة “كان عنصريا” إذ نظر تشرشل للعرب بازدراء، لكن ذلك ليس مفاجئا تماما فالعنصرية عادة ما تسير جنبا إلى جنب مع الاستعمار.

ومع اقتراب الانتداب البريطاني لفلسطين من نهايته المزعجة، استمرت لندن في موقفها المعادي للفلسطينيين. فعندما صوتت الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 1947 على تقسيم فلسطين -تحت الانتداب- إلى دولتين، تبنت بريطانيا رسميا موقفا محايدا، لكنها وراء الكواليس عملت على إجهاض ولادة دولة فلسطينية.

إرث مخجل

بحسب الكاتب، فإن حزب المحافظين البريطاني وقادته هم حاملو لواء هذا الإرث المخزي من الدعم البريطاني غير المشروط لإسرائيل، واللامبالاة بحقوق الفلسطينيين.

وكان آخر 3 قادة لحزب المحافظين من المؤيدين بلا تحفظ لدولة إسرائيل. فرئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون وصف نفسه بأنه “صديق شغوف” لإسرائيل، وأصر على أنه لا شيء يمكن أن يكسر هذه الصداقة، وذكّرت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي جمهورها بأن بريطانيا تدخل “وقتا خاصا” في الذكرى المئوية لوعد بلفور.

ومضت ماي لتصدر حكما من جانب واحد تماما على هذه الوثيقة الاستعمارية، بالقول “إنها واحدة من أهم الرسائل في التاريخ”. في المقابل لم يكن هناك أي ذكر لفشل بريطانيا في الحفاظ حتى على الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين.

أما رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون فلديه نظرة أكثر دقة قليلا لسجل بريطانيا كقوة استعمارية بفلسطين. ففي كتابه لعام 2014 -عن تشرشل- وصف وعد بلفور بأنه “غريب وغير متماسك بشكل مأساوي”.

وكان هذا أحد الأمثلة النادرة للحكم السليم والبصيرة التاريخية من جانب جونسون. لكن عام 2015، في رحلة إلى إسرائيل كرئيس لبلدية لندن، أشاد جونسون بوعد بلفور ووصفه بأنه “شيء عظيم”.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2017، بصفته وزير الخارجية، قدم جونسون مناقشة في مجلس العموم حول وعد بلفور. وكرر شعار فخر بريطانيا بالدور الذي لعبته في إقامة دولة يهودية بفلسطين. وكانت لديه فرصة مثالية لموازنة ذلك مع الاعتراف بفلسطين كدولة، لكنه رفضها مرارا وتكرارا قائلا إن الوقت لم يكن مناسبا.

الوعد البريطاني

كان آرثر بلفور وزير الخارجية عام 1917 صاحب الإعلان الشهير قد وعد بدعم الحقوق المدنية والدينية للسكان الأصليين في فلسطين. وبعد قرن من الزمان، صوت مجلس العموم في أكتوبر/تشرين الأول 2014 بأغلبية 274 صوتا مقابل 12 للاعتراف بدولة فلسطينية، لكن رئيس الوزراء كاميرون تجاهل التصويت غير الملزم.

وعاد شلايم ليقول إن هناك خيطا متواصلا من قِصر النظر الأخلاقي والنفاق وازدواجية المعايير والخداع السياسي البريطاني في فلسطين، من بلفور إلى بوريس جونسون.

مجتمع غير متجانس

ويقول الكاتب إن إسرائيل تُعتبر مجتمعا غير متجانس للغاية ومنقسّما بعمق وله مجموعة واسعة من الآراء حول كل هذه القضايا، وله ثقافة سياسية تتميز بالنزاعات الشرسة.

ويؤكد أن إسرائيل ليست دولة ديمقراطية. حتى داخل حدودها الأصلية، فهي ديمقراطية معيبة في أحسن الأحوال، بسبب التمييز على مستويات متعددة ضد مواطنيها الفلسطينيين. وفي كل المنطقة الواقعة تحت حكمها، بما في ذلك الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ تعتبر إسرائيل إثنوقراطية -نظام سياسي تهيمن فيه مجموعة عرقية على أخرى- وقد تم تكريس المكانة المتفوقة لليهود بإسرائيل في قانون الدولة القومية لعام 2018، وهو التأكيد الرسمي على أن إسرائيل دولة فصل عنصري.

ينص القانون على أن الحق في ممارسة تقرير المصير القومي في إسرائيل “فريد للشعب اليهودي”. فهو يؤسس للعبرية لغة رسمية لإسرائيل، ويخفض مرتبة العربية -التي يتحدث بها المواطنون العرب على نطاق واسع في إسرائيل إلى “مكانة خاصة”.

وهكذا -حسب الكاتب- تعد إسرائيل العضو الوحيد بالأمم المتحدة التي تكرس عنصريتها في القانون، وبالمقابل يقوم أصدقاؤها في أميركا وأوروبا بترهيب منتقدي إسرائيل.

يقول الكاتب “صحيح أنه، بالنسبة للعديد من الطلاب البريطانيين اليهود، تشكل إسرائيل مكونا حيويا لهويتهم، ومع ذلك، فمن غير المفيد ترك إسرائيل تحتل مكانة بارزة في تحليل معاداة السامية. هي دولة مثيرة للجدل تتآكل مؤسساتها الديمقراطية باستمرار، ويجتذب اضطهادها للفلسطينيين انتقادات دولية متزايدة، وقد صدر مؤخرا حكم يمهد الطريق للتحقيق في جرائم الحرب من قبل المحكمة الجنائية الدولية. ورغم ادعائها عكس ذلك، فإن إسرائيل لا تمثل جميع اليهود على مستوى العالم، بل تمثل مواطنيها فقط، وخُمسهم من الفلسطينيين”.

لا حاجة لتعريف

السؤال الذي يطرح نفسه أخيرا: هل نحتاج إلى تعريف لمعاداة السامية بالأساس، ويجيب الكاتب “وجهة نظري أننا لسنا بحاجة لذلك. فمصطلح معاداة السامية بحد ذاته إشكالي لأن العرب ساميون أيضا. والأفضل في رأيي هو مصطلح العنصرية ضد اليهود. ما نحتاجه هو مدونة سلوك لحماية جميع الأقليات، بما في ذلك اليهود، من التمييز والمضايقة، مع حماية حرية التعبير لجميع أعضاء الجامعات”.

ويختم بالقول “إن الحق العالمي في حرية التعبير منصوص عليه بالفعل في قانون المملكة المتحدة بموجب قانون حقوق الإنسان لعام 1998، والذي يحظر على السلطات العامة التصرف بطريقة تتعارض مع هذا الحق. ويوفر قانون التعليم لعام 1986 حماية خاصة لحرية التعبير في الجامعات. لذلك لا نحتاج إلى مزيد من التشريعات. كل ما نحتاجه هو الفطرة السليمة والصدق في تطبيق التشريعات القائمة”.

مقالات ذات صلة