“واشنطن ولندن وطوكيو وسول وكانبرا “: حلف القيادة المئوية القادمة للعالم
إذا كانت في مقدّمة الأولويات الخاصة بسياسات بايدن الداخلية، معالجة الآثار السلبية الناجمة عن انقسام المجتمع الأميركي وتمزّقه، وعن تفشّي وباء كوفيد19، فإن العمل على استعادة الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها وهيبتها في النظام العالمي، أولى الأولويات المتعلقة بسياسته الخارجية، وذلك من خلال التصدي للنفوذ الصيني المتنامي عالميًا.
ولعل أبرز ذلك التنامي، فبينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة في خلافاتها الانتخابية التي تجاوزت كل متوقع، ومشغولة بدفن ضحايا الوباء بالآلاف، والترويج للقاحاتها السحرية، نجحت الصين في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بإبرام أكبر اتفاق للتجارة الحرة في العالم، مع جيرانها الأقربين والأبعدين، شمل 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادي، ويضم الاتفاق 10 دول في جنوب شرقي آسيا، إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا، والأهم، أن الصين، وقد باتت مصنع العالم، ضمنت بهذه الاتفاقية التي تتيح التبادل التجاري السهل، تحت جناحيها، أكثر من ملياري نسمة، وثلث التجارة العالمية، وسددت ضربة للهند التي خرجت من المفاوضات، وما كان للرئيس الصيني “شي جينبينغ” أن ينجح في مبادرته التي استغرقت سنوات، ويضع الولايات المتحدة الأمريكية خارجاً، لولا تخلي دونالد ترمب عن «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي» التي كانت تشمل غالبية هذه الدول عام 2018، ثم وجدت نفسها بسبب الحمائية الترمبية، من دون قائد.
وتوصلت الصين والاتحاد الأوروبي قبل 3 أسابيع من تولي جو بايدن الحكم، إلى «اتفاق شامل بشأن الاستثمارات» بين الطرفين.
وأمام هذا الزحف التجاري المتنامي، يمكن وصف الصين بـ«بلدوزر الاقتصاد العالمي» فالصين تتقدم بينما يتأخر الآخرون، ومع نهاية عام كارثي للبشرية، خسر فيه الجميع، تمكنت الصين من تحقيق نمو بنسبة 2%، وإن استمر الوضع على ما هو عليه، ستكون الولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الحالي منشغلة بأسوأ أزمة صحية شهدتها منذ 100 سنة، فيما ستتمكن الصين من بلوغ نسبة نمو ستصل حسب التقديرات العالمية إلى 8%، وهو ما يؤهلها خلال 7 سنوات فقط لأن تتقدم على الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الصين تريد أن تصبح «واحدة من أكثر الدول ابتكاراً» عام 2030 و«الدولة الأكثر إبداعاً» في عام 2049، وهو عام احتفالها بالذكرى المئوية لوصول الحزب الشيوعي الصيني إلى الحكم.
تتمدد الصين في كل الاتجاهات، فالنهوض الصيني هو التحدي الأصعب لإدارة جو بايدن، لأن الصين خلافاً للاتحاد السوفياتي السابق، ليست دولة عسكرية جبارة تقوم على اقتصاد ضعيف، بل هي اقتصاد قوي يصنع قوة عسكرية مؤثرة.
إن النمو المتواصل للنفوذ الصيني في آسيا وعلى المستوى العالمي، هو أساس هذا التحدي، وان الدور العالمي الشامل الذي تتطلع إليه الصين يرتبط بصعود خصوم الغرب المعادين للولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها تبقى خطرًا كامناً يهدد الاستقرار في منطقة آسيا – المحيط الهادئ.
إن الصين ليست دولة تميل الى الحفاظ على الوضع القائم Status quo، بل هي قوة قد ترغب في تغيير ميزان القوى في آسيا أيضًا لصالحها، وهذا وحده يجعل منها منافساً استراتيجياً وليس شريكاً استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية، كما ان نجاح الصين في السيطرة على ميزان القوى يعتمد في جزء كبير منه على رد فعل الولايات المتحدة الأمريكية على هذا التحدي.. فكيف سترد إدارة بايدن على هذا التحدي؟
أولا: على السياسة الخارجية الأمريكية تصحيح أخطاء ترامب، فلم تكن علاقات واشنطن مع حلفائها على ما يرام، فقد كانت تعاني من فقدان الثقة، حتى مع أقرب حلفائها، فعلاقتها مع أوروبا الغربية ومع كوريا الجنوبية تكاد تكون مفقودة، إن لم تكن معدومة، وكذلك الحال مع اليابان والهند، وذلك كله بسبب سياساتها الإنعزالية، أو تلك المرتكزة على شعار “أميركا أولا”.
إن بايدن بحاجة ماسّة لاستعادة هيبة الولايات المتحدة ومكانتها على الصعيد العالمي، وسوف تدفعه حتما إلى البدء بترميم العلاقة مع الحلفاء الغربيين والأسيويين، والعمل على إصلاح الشرخ الذي أصاب حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عهد ترمب، غير أن مصداقية الولايات المتحدة على هذا الصعيد لن تثبت إلا إذا تخلى بايدن كليا عن شعار “أميركا أولا”، واعتمد بدلا منه، سياسة تقوم على صيغة تحالف جديدة.
لذلك سارع بايدن إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لعودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، وإلى منظمة الصحة العالمية، وربما السعي إلى إصلاح منظومة الأمم المتحدة، وهو ما سيمهد الطريق أمام استعادة الثقة بين الشركاء على جانبي الأطلنطي، خطوة أولى في اتجاه التأسيس لقيادة تحالف مشترك للنظام العالمي.
ثانيًا: تشكيل تحالف جديد متعدد الجهات الجغرافية، ويضم “الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا” وحلفاءها لمواجهة الصين، وهذا تحالف في حال تشكيله سيكون تحالفًا عملاقًا مرتكزًا على عناصر القوة السياسية “حق الفيتو الأمريكي والبريطاني في مجلس الأمن” والعسكرية والتكنولوجيا والاقتصادية والثقافية، وسيشكل هذا التحالف ضربة قاصمة لاتفاق الصين مع بعض دول منطقة آسيا والمحيط الهادي، وسيعمل على إبطال تلك الاتفاقية.
ولن يقتصر ذلك التحالف على الدول المشار إليها آنفًا وحسب، بل سيتسع ليشمل إسرائيل الحليف الوثيق للولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وألمانيا وسنغافورة والفلبين وبعض الدول العربية، وقد تنضم إليه فيتنام أيضًا، نظرًا لحساسيتها، خاصة تجاه الصين بسبب قربها منها من جهة، والنزعة لدى الشعب الفيتنامي إلى رفض أية هيمنة خارجية من جهة أخرى، ولتعزيز هذا التحالف وتقويته أيضًا، ستقوم بريطانيا واليابان بدور الوسيط لتسوية الخلافات العالقة بين واشنطن وبعض الدول، ولعل في مقدمة تلك الدول تركيا، إذ يشكل انضمامها لهذا التحالف المستقبلي مكسبا كبيرا له.
خلاصة القول.. إن إدارة بايدن والإدارات الأمريكية القادمة لن تقبل أن يكون القرن الأول من الألفية الثالثة قرنًا للقوة والقيم الصينية، وإنما قرنًا تسوده القيم الليبرالية التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وهذا يعني أن حلف الخمس دول الرئيسة “الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا” والدول الأخرى التابعة لهذا الحلف، سوف تقود التفاعلات الدولية والعالمية لـ” 100 عام” المقبلة.
أكرم زنكنة