ثقافة وفن

نينوى العراقية ثروة سياحية لا تنضب وإهمال متوارث

عُرفت بلاد الرافدين القديمة ببداية الحياة الحضرية ونشأة أولى المدن في التاريخ، وفي شمال العراق حظيت محافظة نينوى بمجموعة من الحضارات التي مرت عليها عبر عصور وحقب زمنية مختلفة؛ من الحضارة الآشورية والنمرود إلى مملكة الحضر، وصولا للحضارة الإسلامية وما ضمت من آثار أموية وعباسية وعثمانية، لكن التحف الحضارية المعمارية لم تحظَ باهتمام الحكومات العراقية المتعاقبة.

ورغم أن العراق قبل عام 2003 حظي برفاه اقتصادي، خاصة في سبعينيات القرن الماضي، فإن الدولة العراقية لم تعمل على استغلال هذه المواقع وتطويرها بالشكل الذي يجعلها قبلة للسياحة المحلية والدولية، لتظل هذه المواقع مهملة طيلة العقود الماضية، ولم تستغل كنظيراتها في دول الجوار.

غابة من الحضارات

يؤكد العديد من الخبراء أن محافظة نينوى تعد أكثر المحافظات العراقية التي تضم مواقع أثرية من مختلف العصور، بل قد تكون أكثر منطقة في العالم، إذ يؤكد معاون مدير آثار نينوى خيري الدين أحمد أن عدد المواقع الأثرية في نينوى يقارب 1700 موقع في مختلف مناطق المحافظة.

ويضيف أحمد أن هناك العديد من المدن الأثرية للإمبراطورية الآشورية، حيث تضم 3 مدن اتخذتها الإمبراطورية عواصم لها على امتداد تاريخها، وهي مدينة نينوى الأثرية التي يبلغ طول سورها 12 كيلومترا، والنمرود (37 كيلومترا جنوب شرق الموصل) التي يحيط بها سور أثري بطول 8 كيلومترات، إضافة إلى مدينة خورسباد شرق المدينة.

ويتابع في حديثه للجزيرة نت أن هذه المواقع تضم عشرات القصور والمكتبات والأبنية، مشيرا إلى مملكة الحضر التي سميت “مملكة الشمس”، أو “عربايه”، التي تأسست عام 300 قبل الميلاد، ومدينة “أسكي موصل” الإسلامية و”الكونسية” غرب المدينة.

ويصف عالم الآثار العراقي أحمد قاسم الجمعة محافظة نينوى بـ”غابة الآثار”، لافتا إلى أن المواقع التي يعود عمرها على 200 عام تعد تراثا، أما ما يزيد على ذلك فتعد آثارا، حسب قوله.

ويكشف الجمعة عن أن نينوى تضم مئات المواقع الأثرية، والكثير منها غير مُنقَّب عنه حتى الآن، وأن أقدم الآثار يعود تاريخها إلى الألف السادس قبل الميلاد، حيث شهدت الموصل ميلاد أول قرية زراعية تحت منطقة “اقليعات” في مدينة الموصل القديمة، التي نقلت الإنسان من مرحلة التنقل وجمع القوت إلى مرحلة الاستقرار الحضري، كما يقول الجمعة.

ويعلق الجمعة بأن نينوى شهدت نشأة العديد من الحضارات والإمبراطوريات التي كان لها الفضل في تاريخ البشرية وتحول الإنسان إلى عصر المدنية، بعد أن كان يعيش عصر البداوة والترحال.

وبالذهاب إلى عميد كلية الآداب في جامعة الموصل محمد عفين أكد أن آثار نينوى تعد من أهم حضارات العالم، حيث أعطى الموقع الجغرافي لنينوى والموصل خصوصية بما تضمه من آثار مسيحية وإسلامية وأخرى تعود لما قبل الميلاد.

العصور الإسلامية

وبالانتقال إلى الحضارة الإسلامية، فيشير عفين إلى الجامع النوري ومنارته الحدباء التي سميت الموصل باسمها، فضلا عن جوامع النبي يونس والنبي جرجيس وشيت وغيرهم، لافتا إلى أن نينوى تزخر بآثار مسيحية عديدة مثل الأديرة والكنائس، ككنيسة مار توما والساعة في مدينة الموصل القديمة، فضلا عن دير مار متي.

أما الجمعة فيضيف من جانبه أن نينوى تتميز بأنها شهدت بناء أول مسجد في الموصل، وخامس مسجد في الإسلام، وهو المسجد الجامع الذي بُني عند فتح المسلمين الموصل عام 16 هجرية، مضيفا أن من أبرز معالم الموصل الأثرية الإسلامية الجامع النوري الكبير، ثم جامع الخضر (المجاهدي)، الذي بني في 574هـ على يد أحد وزراء الدولة الأتابكية (الزنكية) مجاهد الدين قيماز.

ويضيف أن آثار نينوى لا يمكن حصرها، إذ إن المواقع الأثرية منتشرة في جميع زوايا نينوى ومدنها وأقضيتها، مستشهدا ببعض القلاع؛ كقعلة باشطابيا الأثرية التي لا تزال شاخصة حتى الآن على ضفة نهر دجلة، حسب الجمعة.

وتمتد الحضارة الإسلامية في الموصل إلى بدايات دخول المسلمين للمدينة، حيث يجد زائر الموصل مساجد ومدارس بنيت في حقب زمنية تمتد من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة العثمانية، كما يؤكد الباحث في التاريخ الإسلامي حسن أدهم.

ويشير أدهم في حديثه للجزيرة نت إلى أن أغلب المساجد في الموصل القديمة أثرية، كما في جامع النبي جرجيس وجامع المصفي، إضافة إلى جامع النبي يونس في الجانب الأيسر من المدينة، الذي فجره تنظيم الدولة الإسلامية بُعيد سيطرته على الموصل في يونيو/حزيران 2014، ولم يعاد إعماره حتى الآن، حاله حال بقية المعالم التي دمرت ونهبت خلال الحرب.

إهمال متوارث

الباحث في الفكر الإسلامي محمد الشماع عبَّر في حديث سابق للجزيرة نت عن اعتقاده أن تنظيم الدولة فجّر العديد من الآثار الإسلامية وغيرها بحجة وجود قبور وأضرحة فيها، مشيرا إلى أن جميع الأضرحة والقبور كانت خارج حرم المساجد.

ويعتقد الشماع -الذي كان مشرفا على جامع النبي يونس لأكثر من عقدين من الزمن- أن إعمار هذه المساجد ممكن جدا، من خلال محاكاة التصاميم والزخارف ذاتها التي كانت عليها المساجد قبل هدمها.

وعن إهمال هذه الآثار، يؤكد معاون مدير آثار نينوى أن الدولة العراقية وعلى مر تاريخها لم تنظر لهذه الآثار نظرة سياحية، ويعلل ذلك بأن العراق وباعتباره دولة غنية بالنفط ويعتمد عليه في موازنته المالية، فإن هذه الآثار لم تحظ بالاهتمام ذاته الذي نالته الآثار في دول مجاورة كالأردن ومصر وتركيا.

ويضيف أن الحروب التي دخلها العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي جعلت السياح الأجانب يمتنعون عن زيارة المواقع الأثرية العراقية، معبرا عن أمله أن تشهد السنوات القادمة اهتماما أكبر بالآثار، خاصة بعد استعادة نينوى من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في يوليو/تموز 2017.

 

أما عميد كلية الآداب فيرى من جانبه أن الاهتمام بالمواقع الأثرية وتطويرها سيؤدي إلى تحول جذري في اقتصاد العراق، خاصة إذا قورنت هذه الآثار بما تضمه دول الجوار، وكيف جعلت تلك الدول مواقعها الأثرية رافدا أساسيا في مواردها المالية.

وبالعودة إلى الجمعة، فإنه يؤكد أن ما هو تحت الأرض من آثار يفوق بكثير ما اكتشف حتى الآن، وأن كل معلم أثري يحكي قصة مرحلة تاريخية معينة من فنون الكتابة والزخرفة والأسواق وغيرها.

وعن إهمال الآثار، يؤكد الجمعة أن الدولة وبإمكاناتها الحالية يمكن لها أن تؤهل العديد من الآثار خلال أشهر وتدخلها ضمن الموارد السياحية التي ترفد البلاد بموارد كبيرة، مستشهدا بمدينة الموصل القديمة التي تضم قلعة باشطابيا وبجانبها مدرستا البدرية والكمالية ومزار يحيى بن القاسم وغيرها، حيث تطل جميعها على نهر دجلة، وتقابلها غابات الموصل في الجانب الآخر من المدينة.

ويشير خبراء اقتصاد إلى أن العراق يضم موارد لا يمكن حصرها، حيث يعلق الباحث في الشأن الاقتصادي محمد الحمداني بأن نينوى بما تضمه من آثار تشكل ثروة يمكن استثمارها بما يعود على المدينة بفرص عمل كبيرة وإيرادات مالية كبيرة.

ويتابع الحمداني أن هذه المواقع إذا استثمرت بالشكل الصحيح وبمبلغ دخول لا يتجاوز الدولار الواحد لكل موقع أثري، فإنها يمكن أن تشكل ثروة مستدامة لا تنضب.

ويعلل الحمداني إهمال الحكومات العراقية للأثار بأن البلاد لم تشهد استقرارا سياسيا منذ تشكيل الجمهورية، إذ إن الانقلابات العسكرية المتكررة والحروب والحصار الدولي والغزو الأميركي عام 2003، وما تبعه من أحداث؛ جعلت الآثار مهملة ومعرضة للسرقة والنهب.

وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة “يونسكو” (UNESCO) باشرت قبل عامين العمل على مشروع لإعادة إعمار الجامع النوري ومنارته الحدباء والأزقة المحيطة به.

مقالات ذات صلة