مدخل لعقد إجتماعي سياسي جديد – منقذ داغر
منقذ داغر
يعاني العراق من حالة عدم استقرار سياسي-اجتماعي واضح باتت تؤثر على كل منظوماته الحياتية وتسبب الكثير من الصراعات التي جعلت العراق كقدرٍ يغلي على النار. وليس مؤكداً للان ان كان هذا الغليان سيؤدي الى إنفجار هذا القدر،أو حرق مكونات الطبخة،أو أنه سيصهر كل المكونات في بوتقته ويساعد على تشكيل مجتمع متجانس ذي هوية واحدة!
وكمختص في دراسة المجتمع العراقي أعتقد (جازماً) أننا إزاء حالة تشكل اجتماعي سياسي مرت بها كثير من المجتمعات الاخرى. ورغم اني لا استطيع توقع نتيجة السيرورة الحالية ولا المدى الزمني الذي ستستغرقه الا انني أرى الكثير من الدلائل التي يمكن ان ترسل رسائل ايجابية عن مآل هذه السيرورة الاجتماعية-السياسية-الاقتصادية. ولكي تتحول هذه الارهاصات الايجابية الى وقائع حياتية ينبغي حسم الصراع بين الثنائيات التي ظلت تتحكم في واقعنا الاجتماعي والسياسي لمدة طويلة. هذه الثنائيات المصطرِعة والتي أسهمت في كثير من تناقضات الشخصية العراقية، تتمثل في ازدواج الحضارة-البداوة،الدين-العلمانية،الشخصانية-المؤسسية، والفرد-الجماعة. وحين أقول حسم صراع هذه الثنائيات في مجتمعنا،فاني لا اقصد بالتأكيد أنتصار أحدى هذه الثنائيات ودحر نقيضها. بل اني اقصد ما قصده ماركس في تفسيره للتطور الديالكتيكي من خلال تفاعل الفكرة ونقيضها لانتاج فكرة جديدة قد لا تمت بصلة للأصل لكن فيها شيء منه.
أن الدعوة لعقد اجتماعي-سياسي جديد بات ضرورة قصوى يجب ان تستهدف باعتقادي حسم الصراع بين كل الثنائيات السابقة وهو ما سأفصله بايجاز شديد،قد يكون مخلاً بأصل الفكرة، على أمل تخصيص دراسة اكثر تفصيلاً لها في المستقبل القريب.
1- صراع الحضارة-البداوة. لن اتمكن بالتأكيد من إضافة الكثير لما ذكره ابن خلدون وعلي الوردي في تشخيص جذور هذا الصراع الذي بات لا يحكم فقط ممارساتنا الحياتية بل يتحكم بمنظومتنا الفكرية ككل،لكني أقول ان من السذاجة الاعتقاد ان هذا الصراع قد خبى بعد كل هذه القرون التي مرت عليه. فصراع البداوة والحضارة لا يتجلى فقط في بروز وانتشار قيم البداوة في مدننا المتريفة بل في انعكاسات قيم البداوة على ثنائيات الصراع بين الدين والعلمانية،وبين الشخصانية والمؤسسية وبين الفرد والجماعة في العراق. وفي ظل انحسار الدور الذي تقوم به مؤسسات الدولة وضعف الثقة بها،بخاصة في توفير الامن للمواطن،فأن من الطبيعي ان تزداد الاهمية النسبية للقبيلة(العشيرة)لتزيد من حدة الصراع -المستعر اصلاً-بين البداوة والحضارة .ان الشخصية الهجينة للفرد والمجتمع العراقيَين ،والناجمة عن هذا الصراع الذي لم يحسم بعد،باتت تؤثر في كل الممارسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في وقتنا الحاضر. فالعراقي يريد ان يكون شيخاً في مؤسسته التي يستخدم موظفوها كومبيوترات لا يفقه هو عنها شيئاً،ويمارس ما أسماه استاذي عامر الكبيسي بالقيادة الشيخوقراطية التي لم تقم سوى باستبدال ديوان العشيرة بديوان المؤسسة او الوزارة.فتحول المدير الى شيخ،والموظف الى فلاح او فرد في قبيلة كل همها النجاة من التصحر وليس متابعة التطور!والعراقي يريد ان يكون شيخاً في أسرته،في الوقت الذي لا يتمكن فيه من استخدام موبايله(الذي لا يستغني عنه)دون ان يستعين كل خمس دقائق بأبنه الصغير الذي يُطلب منه ان يطيع شيخاً يعتقد هو انه يعيش خارج نطاق الزمن!كما ان العراقي يعشق ان ينادوه بالشيخ في حزبه الذي يدعي انه يهدف لتحقيق المساواة والديمقراطية لكل افراد المجتمع-القبيلة!
2- صراع الدين-العلمانية. لطالما رددتُ وأستناداً الى كل المسوحات الإجتماعية التي أجريتها وفريقي طوال اكثر من 17 عاماً،ان الشعب العراقي من بين أكثر الشعوب التي تمت دراستها تمسكاً بالقيم الدينية على صعيد الايمان الفردي. ومع ان نسبة العراقيين الذين يحبذون تنشئة اطفالهم على القيم الدينية قد انخفضت من 92 بالمئة عام 2004 الى 62 بالمئة عام 2019 الا ان هذه النسبة مازالت اعلى من المتوسط العالمي بأكثر من 20 نقطة.فالدين عند العراقي مكوّن اصيل من مكونات شخصيته وثقافته ومجتمعه. وأنا هنا لا اتحدث عن السلوكيات الدينية بل القيم الدينية.
قيم الدين
ولا أغالي حين أقول أن قيم الدين والبداوة هي القيم الاساسية المكوّنة للثقافة العراقية. في مقابل ذلك فأن الذاكرة العراقية التي أمتلأت على مايبدو بممارسات الدولة الدينية الظالمة على مدار قرون عديدة جعلت العراقيين أبعد ما يكونون عن الرغبة بمزج الدين بالدولة . ويبدو ان ادراك البريطانيين لهذه التركيبة العراقية هي واحدة من الأشياء التي شجعتهم على تنصيب ملك (هاشمي)ليحكم العراق بدستور وممارسات علمانيَين. وعلى الرغم من محاولة نظام مابعد 2003 اتباع نفس التقليد العلماني الذي استقرت عليه الدولة العراقية الحديثة،الا ان الظروف والممارسات والاحزاب الدينية التي حكمت العراق،ابتعدت تدريجياً عن هذا التقليد مما ادى الى ردة فعل علمانية شديدة باتت تهدد ثوابت القيم الدينية العراقية. ويكفي هنا القول ان نسبة العراقيين الذين لا يؤمنون بالله ارتفعت من اقل من 1 بالمئة عام 2004 الى حوالي 4 بالمئة عام 2019? في حين إنخفضت نسبة من يفضلون تربية اولادهم على القيم الدينية من 92 بالمئة الى 62 بالمئة خلال نفس المدة.وهذا تغير كبير في رأيي في شدة الاتجاهات الدينية عند العراقيين.ليس ذلك فحسب،بل ان العلمانية باتت لدى بعض المدافعين عنها اشبه بالدين المقدس الذي لا يمكن المساس بصحته او الطعن في مبرراته.وهكذا، بات الصراع بين العلمانية والدين واحداً من مظاهر النقاش السياسي-الاجتماعي وصرنا نشهد مؤخراً تطرفاً على جانبي النقاش يخشى من تحوله الى صراع ايديولوجي عقيم. ورغم ان الدين السياسي لا زال هو الوحيد الذي يحتكر السلاح والعنف في العراق،الا ان هناك خشية حقيقية من تقليد حراس معبد(العلمانية) لنظرائهم الدينيين وتبنيهم لميليشيات ترفع شعار (العلمانية هي الحل)، وبدلاً من ان نسمع مصطلحات السيد والحجي نصبح نسمع مصطلح العلماني والمستر ككلمة سر تفتح كل مغاليق العلمانية المتطرفة.
3- صراع الشخصانية-المؤسسية. ليس خافياً ان المؤسسية بمعناها العلمي الذي يؤكد على إستقلالية المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عمّن يديرها كانت الأساس الذي قامت عليه كل الدول المتطورة. ومنذ بدايات القرن العشرين،حين تم فصل إدارة المؤسسات عن الملكية الشخصية، خطى العالم خطوات كبيرة في التقدم بعيداً عن تقلب ومزاجات وتغيير الحاكمين لتلك المؤسسات. أما في العراق وعلى الرغم من ان عمر بعض المؤسسات العراقية ناهز القرن فإنها للاسف لا زالت محكومة بمزاجات وتغيرات الحاكمين لتلك المؤسسات. ومما زاد الطين بلة ان المحاصصة التي توافقت عليها كل اطراف العملية السياسية جعلت سياسة وادارة تلك المؤسسات خاضعة لصك (الطابو) الخاص بالوزارة او المؤسسة والذي يمنحه المتحاصصون لهذا الحزب او ذاك.
احزاب سياسية
والادهى والانكى من كل ذلك ان كل الاحزاب السياسية(حتى القديمة منها) باتت تمثل ناطق بلسان وسياسة رئيس الحزب لا الحزب نفسه. ان شخصنة السياسة والاقتصاد والاجتماع باتت هي القاعدة والمأسسة صارت استثناءً في العراق للاسف.
4- صراع الفرد-الجماعة. يعتقد البعض ان فلسفة الفردانية individualism مضرة للمجتمع وتخلق كثير من المشاكل المجتمعية. وهذا قد يكون صحيحاً -الى حد ما- في الممارسات السلوكية الاجتماعية. أما على صعيد السياسة والعمل فان الفردانية عنصر مهم للنضج السياسي ومنع التسلط الناجم عن سياسة الراعي والقطيع،التي طالما عانت وتعاني منها مجتمعاتنا.
أما الجماعية collectivism فهي تؤكد على عُلوية الجماعة للفرد وتقديم حاجات الجماعة ومتطلباتها على الفرد ومتطلباته. وفي الوقت الذي دافع فيه الغرب ومنظروه-وفي مقدمتهم ماكس ڤيبر- عن الفردانية باعتبارها طريقاً لليبرالية والتقدم،فان ماركس قد دافع بشدة عن الفلسفة الجماعية، كما دافعت عنها بشدة الاحزاب الدينية والقومية وكل الحركات التي تقوم على الدفاع عن هوية وعُلوية الجماعة وليس حرية الفرد وعُلويته. وانا هنا لست بصدد اصدار احكام قيمية لاني اعتقد ان في كِلا الفلسفتين بعضاً من الصحة وان الوصول للمزيج الامثل منهما قد يساعد كثيراً في الاجابة على الكثير من التساؤلات الصعبة التي تواجهنا. مع ذلك،لا أخفي تحيزي اكثر للفلسفة الفردانية في مجال العمل السياسي والحكومي بالذات كونها سبيلاً مهماً للديمقراطية والتطور الاقتصادي.
ان الفردانية تدور حول ثلاث سمات رئيسة تجعل الفرد منتجاً ومسؤولاً عن تصرفاته وادارة حياته بطريقة بعيدة عن الاستسلام للعجز ولفكرة ان هناك قوى أكبر من الفرد هي التي تتحكم بمصيره وتقرر عنه. هذه السمات هي الاستقلال،والشعور بالمسؤولية والتميز عن الاخرين. وواضح ان كل من هذه السمات ستؤدي الى خلق مجتمع:معتمد على ذاته ،مبتعد عن نظرية المؤامرة ،ومتحمل للمسؤولية،ومبدع. لكن وللاسف فان التنشئة الاجتماعية في العراق لازالت تحط-او على الاقل لا تنمّي-سمات الفردانية. ففي المسح العالمي الشامل للقيم والذي اجريته مع فريقي خلال العوام 2004-2019 كان واضحاً عدم اهتمام العراقيين باعلاء سمات الفردانية عند أولادهم. إذ ان 14 بالمئة فقط من العراقيين يؤكدون على تنمية سمة الاستقلال عند اولادهم،18 بالمئة يؤكدون على تشجيع سمة الادخار والاستقلال المالي،و 12 بالمئة فقط يؤكدون على سمة التخيل. وحتى في سمة تحمل المسؤولية التي كان حوالي 90 بالمئة من العراقيين يؤكدون على تنميتها قبل عقدٍ من الزمن فأن النسبة انخفضت الى 55 بالمئة فقط عام 2019.مقابل ذلك فأن 60 بالمئة تقريباً يهتمون بتنمية قيمة الطاعة!!
أكرر مرة أخرى انني لا ادعو هنا لنبذ قيمة (الجماعية) لكنني ادعو لاعلاء قيم الفردانية كي تتوازن معها في مزيج مناسب. وإذا كانت منظومتنا الثقافية ومناهج التنشئة الاجتماعية زاخرة بما يُعلي الجماعية فأنها تفتقر كثيراً لمناهج مناسبة لتنمية الفردانية والتي بدونها لا يمكن تحقيق التطور الذي سبقتنا له أمم أخرى.
في النهاية،فأن هذه دعوة مفتوحة لكل المختصين بالاجتماع السياسي والمقتنعين بضرورة انشاء عقد اجتماعي-سياسي جديد يصلح ليكون الاساس الذي تقوم عليه المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكي يحاولوا ان يخلقوا المزيج الافضل من كل هذه الثنائيات التي ناقشناها.هذا المزيج يجب ان يتناسب اولاً مع روح العصر وثانياً مع ثقافة المجتمع العراقي ودون خوف من نقد وتشريح كل التابوهات التي تحكمت فينا لمدة طويلة من الزمن وأعاقت لحاقنا بركب الامم المتقدمة.