ابن مالك النحوي والمقريزي والشيخ محمد عبده.. تعرف على العابرين بين المذاهب
عُرف الشيخ محمد عبده (ت 1323هـ/1905م) بتتلمذه على أيدي المالكية ولكنه عندما أُسنِد إليه منصب الإفتاء تحوّل إلى المذهب الحنفي لأسباب تخص التقاليد العثمانية فيمن يتولى وظيفة المفتي العام للقُطر؛ لكن هذا التحول المذهبي -الذي مارسه الشيخ عبده- إنما هو جزء من حَراك علمي طويل وثريّ اشتُهر به التراث المذهبي الإسلامي.
إن التنقل بين المذاهب الفقهية يجب ألا يُنظَر إليه بوصفه مجرد ملمح طريف في الأوساط العلمية، بقدر ما هو إحدى علامات المرونة والتعايش والتخصيب المتبادل داخل العقل الفقهي الإسلامي؛ كما أنه كذلك يفتح الباب واسعا لدراسة السياقات والظروف التي تضغط لتغيير الأفكار والانتماءات المذهبية، بل ويوسّع مداركنا لنعرف لماذا يزدهر مذهب في لحظة ما على حساب مذاهب أخرى، ومن ثمّ نستوعب العوامل الجاذبة أو الطاردة المؤثرة في ذلك الحراك المذهبي.
ثم إن هذه الظاهرة العلمية العجيبة تقدح زند معارفنا لندرك هندسة هذه التحولات فنتساءل: هل كان لطبيعة المذهب الشافعي الوسطية منهجيا دورٌ في وفرة الوافدين إليه؟ وهل لتأخر تبلور المذهب الحنبلي أثر في كثرة الخارجين منه؟ هل هناك علاقة بين جغرافيا الأفكار وجغرافيا الأمصار؟ وكيف نفهم في ضوء ذلك استقرار المذهب المالكي وقلة النزوح عنه في الغرب الإسلامي؟
الحق أيضا أنه -بجانب تلك الظروف- لا يمكن إغفال العامل المعيشي وغريزة حُبّ تَسَنُّم المناصب وطلب الوجاهة والثراء، ولكن سيكون من التحامل الإيغال في ذلك لأن التعويل على البُعد المادي في تحليل مواقف التحول المذهبي تصطدم دائما بمواقف نقيضة رفض أهلها إغراء الجوائز وإغواء المناصب، وسيؤدي لا محالة إلى خطأ في الرصد فيوقع في نتائج متسرعة ومُجتَزَأة إن لم تكن مُغرِضة!
إن حركة التحول المذهبي هي -في النهاية- حركة داخل البيت الفقهي والفكري الشرعي الواحد، الذي غلبت عليه صبغة التعايش البنّاء بين الأهلين والمنتمين، ولم تكن لحظة الخروج والدخول لحظة مفاصلة بقدر ما هي حركة طبيعية تتسع لها حدود المذاهب، كما تتسع الحدود الجغرافية لحركة البشر خروجا ودخولا.
وقديما رُزق الشيخ إبراهيم بن مسلم الصمادي الشافعي (= ت 1073هـ/1700م) “قبولا عظيما واتفق الناس على تجليله واعتقاده، وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه أربعة أولاد ليكون كل واحد منهم على مذهب من المذاهب الأربعة؛ فوُلد له أربعة أولاد وهم: مسلم وكان مالكيا، وعبد الله وكان حنبليا، وموسى وكان شافعيا، ومحمد وكان حنفيا”! حسبما يرويه المؤرخ محمد أمين المحبّي (ت 1111هـ/1663م) في ‘خلاصة الأثر‘.
إن هذا المقال محاولة لرصد ورسم ملامح ظاهرة الحَراك المذهبي فقهيا وفكريا؛ ليس داخل البيت الأصغر كما في حالة عائلة الشيخ الصمادي، ولكن داخل البيت الفقهي الأكبر الذي يتسع لعائلة المذاهب الفقهية الأكثر انتشارا -عبر العصور- داخل الجغرافيا الإسلامية، وسنقف فيه على دلالات عميقة وملامح طريفة ومواقف غريبة لعيّنة تمثيلية لا تتجاوز 10% تقريبا من هذه الظاهرة التي شملت ما يناهز خمسمئة عالم أو يزيدون، أصابتهم “عدوى” تغيير المذهب ووصلتنا أسماؤهم في دواوين تراجم أعلامنا، ولعل ما ضاع من أخبار نظرائهم أكبر وأكثر!
دوافع متنوعة
تكلم العلماء نظريا على حُكْمِ الانتقال من مذهبٍ فقهي إلى مذهبٍ آخر؛ وخلاصة نقاشهم الطويل في هذه المسألة هي تصحيح جمهورهم أن للمشتغل بالعلم الانتقالَ إلى مذهب غيره وتقليده إن ترجح لديه قوله، ويستدل لذلك السيوطي (ت 911هـ/1506م) بقوله -في كتابه ‘الرد على من أخلد إلى الأرض‘- إنه “لم يزل الناس (= الصحابة فمن بعدهم) يسألون من اتفق من العلماء، من غير تقييد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين”.
أما في الواقع العملي؛ فقد مارس هذا التنقل المذهبي عدد لا يحصى من العلماء، ويمكن أن نستخلص من استعراض نماذجهم جملة من الأسباب كانت -على تفاوت بينها في الحضور- وراء انتقال العالِم والفقيه من مذهبٍ إلى آخر، وهي حقيقة أسباب لا يمكن حصرها لأنّ لكل عالِم حالته الخاصة وسياقات زمنه وظروفه المغايرة لغيره، على أنّ أكثر تحول الفقهاء عن مذاهبهم كان انعكاساً لقولهم بضرورة النظر والاجتهاد، فكأنّ الانتقال ممارسة عملية لقولهم بإعمال الاجتهاد ونبذ الركون إلى التقليد.
وسنعرض هنا لأهمّ أسباب الانتقال عن المذهب الفقهي مما لا يدخل في دافع ممارسة الاجتهاد والنظر عموما، لأن التحول بهذا الدافع هو الشائع في أغلبية المذكورين مع التصريح به في كتب التراجم والطبقات، ولذلك سنكتفي بالأسباب والعوامل الذاتية والظرفية، مع ملاحظة أن كثيرا من حالات التحول المذهبي لا تكون مشفوعة بما يدل على أسبابها ودوافعها الخفية. ويمكن تلخيص أهم الأسباب المرصودة فيما يلي:
1- الانتقال بدافع مادي: من أسباب انتقال عدد من العلماء عن مذاهبهم إلى مذاهب أخرى بحثهم عن المنصب وما يتصل به من وجاهة ومورد رزق، وتلك مسألة متجذرة متكررة وإن قلّ من تنبه إليها في تراجم العلماء. ولئن التفت إليها بعض فقهاء الشيعة الكبار -أمثال مرتضى مطهري (ت 1400هـ/1979م) وغيره- لارتباطها بـ”فريضة الخُمس” لدى الشيعة ومرجعياتهم العلمية؛ فإن الكلام عليها في الأوساط السُّنية ظل مبثوثا في كتب الطبقات والتراجم ينتظر التتبع والجمع والإبراز، وهو ما سنقف لاحقا على نماذج يسيرة منه تمثيلا لا حصرا.
وقد اشتكى علماء من ظاهرة الانتقال المذهبي بدوافع مادية كما نجد في حديث ابن الجوزيّ (ت 597هـ/1200م) -في ‘المنتظم‘- عن انتشارها في صفوف المذاهب منذ النصف الأخير من القرن الخامس/الـ11 الميلادي على الأقل: “قال ابن عقيل (أبو الوفاء الحنبلي ت 513هـ/1119م): ثم جاءت دولة النِّظام (= الوزير السلجوقي نِظَام الملك ت 485هـ/1092م) فعظُم الأشعرية..، ورأيتُ كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا، وتوثقـ[ـوا] بمذهب الأشعري والشافعي طمعا في العزّ والجرايات (= المرتّبات)”.
وفي مقابل ذلك؛ نجد أن بعض العلماء لم يرتض الانتقال عن مذهبه أبدا مهما كانت المغريات، فالإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) ينقل لنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن شارح ‘ديوان المتنبي‘ الأشهر أبا البقاء العُكْبُري الحنبلي (ت 616هـ/1219م) كان يقول: “جاء إليّ جماعة من الشافعية فقالوا: انتقل إلى مذهبنا ونعطيك تدريس النحو واللغة بـ[المدرسة] النِّظامية، فأقسمتُ وقلتُ: لو أقمتموني وصببتم علي الذهب حتى أتوارى به ما رجعتُ عن مذهبي”!!
التقاء عابر
وربما اجتمع النموذجان على صعيد واحد؛ فالذهبي يحدثنا أيضا أنه “بنى الخليفة [العباسي] المستنصر (ت 640هـ/1242م) مسجدا كبيرا وزخرفه واعتنى به.. فامتدت الأعناق إليه [طلبا لإمامته والتدريس فيه]، فاستدعى الوزيرُ ابنُ الناقد (نصير الدين ت 642هـ/1244م) جماعةً من القراء، وكان هناك بعض الحنابلة، فقال: تنقل عن مذهبك وتكون إماما؟ فأجاب! وأما.. عبد الصمد بن أحمد (ت 625هـ/1228م) فقال له ذلك، فقال: لا أنتقل عن مذهبي! فقيل: أليس مذهب الشافعي حسنا؟! فقال: بلى، ولكن مذهبي ما علمت به عيبا لأتركه لأجْله! فبلغ الخليفة ذلك، فاستحسن قوله وقال: هو يكون إمامه دونهم”!!
على أنّ الانتقال المذهبيّ بدافع مادي ينبغي أن نتفهمه في إطاره وسياقه، فإنّ مسألة تأمين مورد الرزق من المسائل الضاغطة على الفقهاء الذين ليسوا من فئة العلماء التجار ويبحثون عن الاستقلالية العلمية والمالية، بعيداً عن طمع السلطان فيه تارة وطمع الأغنياء من التجار والأعيان وغيرهم فيه تارة أخرى، وهو أمر قد لا يجدونه إلا في تولي مناصب تدريس يشترِط أصحاب الوقف المنفقون عليها الانتماءَ لمذهب معين.
2- الانتقال بدافع منهجي: وهو ما نجده لدى كل المذاهب، وإن ظهر كثيرا في الحنابلة الذين كان مذهبهم في مراحله الأولى قريبا من المذهب الشافعي لاعتماده على الروايات والآثار، وكان أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) تلميذا مخلصا للشافعي؛ فكان الانتقال من الحنبلية إلى الشافعية سهلا وقريبا، وربما مقبولاً مذهبيا.
وعلى كُلٍّ؛ فإنّ التحول من مذهب إلى آخر دليل -في الغالب- على السلامة من آفة التعصب المذهبي، وهو تحوُّل ضمن مدارس لفهم نصوص شريعة واحدة يقدم قراءة مغايرة في الفروع دون الأصول، وهو أشبه في عصرنا بالانتقال من جامعة إلى أخرى أو من مدرسة علمية بمناهج محددة إلى أخرى بمعايير مختلفة، بيد أنّ الهدف والمقصود واحد في نهاية الأمر.
3- الانتقال بدافع الخصومة: قد يؤدي خلاف الفقيه مع نظرائه في المذهب وعدم قبولهم لمقولاته الاجتهادية إلى تحوله عن المذهب، خاصة إن كان الترحيب به في المذهب الجديد سيتيح له قدرا من المساحة للتحرك والاستقلالية والاجتهاد وربما الوجاهة.
ومن نماذج ذلك ما قاله ابن الجوزي عن الفقيه الحنبلي أحمد بن علي ابن بَرْهان (ت 518هـ/1121م) الذي “كان على مذهب أحمد بن حنبل وصحب أبا الوفاء ابن عقيل، وكان بارعا في الفقه وأصوله شديد الذكاء والفطنة؛ فنقم عليه أصحابنا (= الحنابلة) أشياء لم تحتملها أخلاقُهم الخشنة، فانتقل وتفقه على [الإمامين الشافعييْن] الشاشي (ت 507هـ/1113م) والغزالي (ت 505هـ/1111م)، ووجد أصحابَ الشافعي على أوفى ما يريده من الإكرام، ثم ترقَّى وجعلوه مدرِّسا للنظامية (= المدرسة النِّظامية)”.
عامل داخلي
وعند التأمل في عبارة ابن الجوزيّ الحنبلي نجده لا يلوم المتحوِّل بل يلوم أخلاقَ المحتوَّل عنهم بسبب “أخلاقهم الخشنة” التي عاملوا بها رفيقهم في المذهب، فكانت سبباً في انتقال هذا العالمِ عن المذهب؛ وهكذا نجد أن مؤسسة المذهب أو الطائفة قد تتحمل أحيانا المسؤولية عن انفصال بعض أبنائها وخروجهم من عباءتها.
على أن العكس قد يحصل أحيانا؛ فيخرج العالم من مذهبه ثم يجد معاملة غير لائقة من أبناء مذهبه الجديد، كما روى ابن الجوزيّ في ترجمة أبي نصر الرفاء (ت 543هـ/1148م) الذي “كان حنبليا ثم انتقل فصار شافعيا.. وبرز في الفقه، ثم أخرِج من المدرسة [النِّظامية] إخراجا عنيفا”!!
4- الانتقال طلبا للمكانة العلمية: انتقل بعض الفقهاء إلى مذاهب أخرى بغية التدريس في المدارس الكبرى التي امتلكتها هذه المذاهب دون غيرها، كنوع من السعي لنيل الترقية العلمية والمكانة المرموقة التي يمنحها الانخراط في سلك هيئات تدريس هذه المدارس الشهيرة، والتي كثيرا ما كانت مدعومة بإمكانيات السلطة الحاكمة؛ إذ إنه ما من مذهب فقهي إلا وشهد فترات كانت ذهبية في مسيرته بين المذاهب من حيث الرواج والانتشار وتبنِّي الدول له.
فالمذهب الشافعي ساد -كما رأينا في كلام ابن عقيل الحنبلي- منذ أيام دولة الوزير نظام الملك، وقبلها كان المذهب الحنبلي في أوْجه خلال فترات من العصر العباسي، وقبلهما راج المذهب الحنفي في صدر الدولة العباسية ثم تعزز مركزه لاحقا خلال العصر العثماني، وفي المغرب والأندلس ظلَّ المذهب المالكيّ صاحب السيادة التامة أغلب الأوقات، منذ منحته الدولة الأموية هناك رعايتها مطلع القرن الثالث/التاسع الميلادي.
وممن انتقل من مذهبه إلى الشافعية طلبا -على ما يبدو- للتدريس في مدارسهم ببغداد حتى بلغ مرتبة التدريس في كبراها وهي المدرسة النِّظامية: أبو بكر ابنُ الحُبَيْر السَّلامي (ت 639هـ/1241م) الذي يقول عنه ابن كثير (ت 774هـ/1371م) في ‘البداية والنهاية‘: “شيخ عالم فاضل، كان حنبليا ثم صار شافعيا ودرّس بعدة مدارس ببغداد للشافعية..، وتقدم ببلده وعظُم كثيرا..، ثم صار من أمره أن درَّس بالنظامية..، وما زال بها حتى توفي”.
5- الانتقال استجابة لمؤثرات محيطة: فنحن نلاقي في تراجم عدد من العلماء أن انتقال أحدهم كان بسبب تأثير أحد ذوي العلم من عائلته اللصيقة (عمًّا أو خالا أو أخًا)، أو انجذابا إلى مذهب أحد شيوخه المؤثرين، أو حتى نزولا عند رغبة صاحب سلطان خالطه تقتربا إليه أو طلبا لإصلاح سياسي يحدث من بوابة السلطة، أو مواءمة مع منطقة جغرافية وفد إليها ووجد مذهبها الفقهي مخالفا لمذهبه الذي نشأ عليه.
ولعل من أطرف الصور التي جمعت بعض تلك المؤثرات غير الموضوعية أن بعضهم تحوّل إلى مذهبه الجديد لرؤيا منام خرج منها وهو مقتنع بأرجحية هذا المذهب!! فهذا السيوطي (ت 911هـ/1506م) يروي -في ‘بُغْيَة الوُعاة‘- أن محمد بن محمد بن علي الكاشغري (ت 705هـ/1305م) “كان ماهرا في النحو واللغة والتفسير والوعظ صوفيا..، وقدِم اليمن وكان حنفيا فتحول شافعيا، وقال: رأيت القيامة قامت والناس يدخلون الجنة فعَبَرت مع زمرة، فجذبني شخص، وقال: يدخل الشافعية قبل أصحاب أبي حنيفة! فأردت أن أكون مع المتقدمين”!!
إغراء قوي
أولا: الانتقال إلى المذهب الشافعي: يبدو أنّ المذهب الشافعي كان أكثر المذاهب استقطابا للمتحولين من فقهاء وعلماء المذاهب الأخرى، ولاسيما من المذهب الحنبلي؛ وذلك لعدّة أسباب أهمها تعاظم وجود المذهب -منذ وفاة مؤسسه الإمام الشافعي (ت 204/820م)- في حواضر كبرى تتبوأ جغرافياً قلب العالم الإسلامي، وما واكب ذلك من ارتفاع شأن الشافعية وكثرت مدارسهم وأوقافهم بعد أن ترسخت رعاية سلاطين الدول المستقلة -في تلك الرقعة- لمذهبهم الفقهي، وكذلك لشقيقه العَقَدي ممثلا في الأشعرية.
فقد مرّ بنا ذكر العناية الكبيرة التي نالها علماء الشافعية في عهد الدولة السلجوقية بخراسان والعراق، بدءا من منتصف القرن الخامس/الـ11 الميلادي مع صعود نجم وزيرها الكبير نظام الملك الذي كان شافعي المذهب، وكذلك علا نجم الشافعية أيام الدولة الأيوبية -في أواخر القرن التالي- بالشام ومصر، وفي وريثتها الدولة المملوكية منذ منتصف القرن السابع/الـ13م وحتى عشرينيات القرن العاشر/الـ16م.
ونتيجة لهذه الرعاية السلطانية كان للشافعية امتياز تولي منصب قضاء القضاة والحِسْبة ونِظَارة كثير من المدارس والمؤسسات الوقفية، بعد انتشار مدارسه في الشرق والغرب وتعاظم أوقافه؛ فتحول كثير من الحنابلة والحنفية والمالكية بخراسان والعراق والشام ومصر إلى المذهب الشافعي طلبا للاشتراك في تلك الامتيازات.
وثمة بُعدٌ منهجي مهم الالتفات إليه؛ وهو أن المذهب الشافعي عُرف بكونه مذهبا وسطا بين المدرسة الفقهية التي غلب عليها الرأي والنظر [الحنفية] وتلك التي غلب عليها الحديث والأثر (المالكية والحنابلة)؛ وهو ما أغرى كلا الجانبين بالالتحاق به حال الرغبة في التحول والانتقال. وفيما يلي نورد ذكر نماذج لأشهر المتحولين إلى المذهب الشافعي:
أ- حنفية تحولوا شافعية: من أمثلة علماء المذهب الحنفي الذين انتقلوا إلى الشافعية ما أورده السيوطي -في ‘بُغْيَة الوُعاة‘- في ترجمة أبي الخير النحوي (ت 423هـ/1033م)؛ فقال إنه: “كان من أصحاب الرأي (= الحنفية) فصار من أصحاب الحديث لصحبة الإمام أبي بكر القَفّال (الشافعي ت 365هـ/977م) [الذي] سمع الحديث منه”.
وهنا يُصرّح السيوطيّ بسبب التحول والانتقال وهو تأثر التلميذ بالأستاذ، وليست هذه قاعدة مطردة فابن عقيل الحنبلي تتلمذ على المعتزلة وعلى الأشعرية وعلى الشافعية، ومع ذلك بقي على مذهبه رغم محنته مع كبار حنابلة عصره.
وترجم الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- لأبي علي حسن ابن إسرافيل النَّسَفي (ت 460هـ/1068م) فوصفه بأنه “شيخُ الحنفيةِ والشافعيةِ العلامةُ.. أحدُ الأعلام، كان حنفيا ثم تحوّل شافعيا”. وممن كان حنفيا فانتقل شافعيا ربما للمواءمة مع مذهب منطقة إقامته الجديدة محمد بن محمد بن علي الكاشغري الذي تقدم ذكره.
استثناء عائلي
وممن خالف عادة عائلته في الانتماء المذهبي أو كان امتدادا وتنويعا لتعددية الانتماء في أجنحتها المذهبية؛ القاضي المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) الذي يقول عنه السخاوي في ‘الضوء اللامع‘: “طاف على الشيوخ ولقي الكبار وجالس الأئمة فأخذ عنهم، وتفقَّه حنفيا على مذهب جدِّه لأمه وحفظ مُخْتَصَراً فيه، ثم لما ترعرع -وذلك بعد موت والده.. (سنة 786هـ/1383م)- تحوَّل شافعيا واستقر عليه أمره، لكنه كان مائلا إلى الظاهر (= المذهب الظاهري)..، هذا مع كون والده وجده حنبلييْن”!!
ب- مالكية تحولوا شافعية: من قدماء المالكية الذين انتقلوا إلى مذهب الشافعيّ ما جاء في ‘حُسْن المحاضرة‘ للسيوطي عن أبي عليّ بن مِقْلاص الخُزاعيّ المصريّ (ت 234هـ/848م)، من أنه “كان فقيها فاضلا زاهدا ثقة، وكان من أكابر العلماء المالكية، فلما قدِم الشافعي مصر لزمه وتفقّه على مذهبه”. وهنا تصادفنا إحدى حالات الانتقال نتيجة لتأثر التلميذ بأستاذه ذي المكانة العلمية المؤثرة!
ويترجم الصفدي (ت 764هـ/م1362) -في ‘الوافي بالوفيات‘- للإمام ابن دقيق العيد (ت 702هـ/1302م)؛ فيقول عنه: “شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد..، أحدُ الأعلام وقاضي القضاة.. وكان عارفا بمذهبيْ مالك والشافعي، كان مالكيا أولا ثم صار شافعيا؛ قال: وافق اجتهادي اجتهاد الشافعي إلا في مسألتين”! وهذا مثال نموذجي على الانتقال المذهبي بدافع منهجي، مما يدل على أن هذا الانتقال جزء من عملية الاجتهاد والنظر وإثراءٌ للحياة العلمية.
ويقول الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) -في ‘إنباء الغُمْر‘- مترجما لمحمد أبي الخطاب سبط التقي السبكي (ت 799هـ/1396م) إنه “كان أبوه قاضي المالكية، ثم تحول هو شافعياً مع أخواله السُّبْكية، ونشأ بينهم [فسلك] طريقهم”. وهنا نلمح تأثيرا آخر لأحد عناصر البيئة العائلية في اختيارات العلماء المذهبية، وهو أمر تكرر كثيرا في نماذج الانتقالات المذهبية.
وذكر السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- في ترجمة القاضي عمر بن عبد الله بن محمد بن عيسى بن موسى المغربي المصمودي الشافعي (ت 815هـ/1418م) أن منشأ شافعيته هو أن “جدّه موسى كان مالكيا، ونشأ ابنه [عيسى] كذلك، ثم مات قاضي الطائف ابن المرحل [فـ]ـتحوّل [عيسى] شافعيا وولي قضاءها، وتبعه بنوه” من بعده على المذهب الشافعي؛ فهذه أسرة بأكملها تغيرت وجهتها المذهبية بدافع سعي جدها لنيل منصب قضائي طلبا لوجاهته أو امتيازاته المادية!!
انتقال ثلاثي
ج- حنابلة تحولوا شافعية: وفقا لما يبدو من معطيات كتب تراجم العلماء؛ فإن الحنابلة كانوا أكثر أصحاب المذاهب انتقالا إلى الشافعيّة، حتى إنه أطلِق على هؤلاء الحنابلة المتشفِّعين لقب طريفٌ هو “حَنْبَش”، المنحوت من صفة: “حنبلي/شافعي”. فابن حجر حين ترجم – في ‘نزهة الالباب‘- لمحمد بن أحمد بن خلف البَنْدَنِيجي (ت 538هـ/1143م) الملقب بـ”حنبش”، قال إنه “كان حنبليا فتحول شافعيا فلُقِّبَ بذلك (اللقب: حنبش)”!!
ومن منتقلي الحنابلة غير “حنبش” هذا وابن الحُبير الذي قدمنا ذكره: أسعدُ بن أحمد الشيباني المعروف بابن البلدي (ت 601هـ/1204م) الذي أورد الصفدي ترجمته -في ‘الوافي بالوفيات‘- فقال إنه “تفقه في صباه على مذهب أحمد.. ثم انتقل إلى مذهب الشافعي”.
وذكر ابن النجار -في ‘تتمة ذيل تاريخ بغداد‘- أبا القاسم عمر بن أبي بكر الدبّاس (ت 601هـ/1204م) فقل إنه “كان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وقرأ الكلام على مذهب الأشعري، وسكن المدرسة النِّظامية [ببغداد]..، وسمع الحديث الكثير..، وكان يتولى الإشراف على دار الكتب النظامية بالمدرسة”.
وحين ترجم ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- للإمام سيف الدين الآمديّ (ت 631هـ/1234م) وصفه بأنه “الفقيه الأصولي..، كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب، وانحدر إلى بغداد وقرأ بها..، وبقي على ذلك مدة ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي”. وأورد ترجمتَه الذهبيُّ -في ‘السِّيَر‘- فقال إنه “العلامة المصنِّف فارس الكلام، سيف الدين الآمدي الحنبلي ثم الشافعي..، لم يكن في زمانه من يُجاريه في الأصليْن (= أصول الدين وأصول الفقه)”. وربما يُفهم من ربط ابن خلكان بين انتقال الآمدي إلى الحنبلية وإقامته ببغداد -وهي حينها معقل للحنابلة- أن تحوله المذهبي جاء مُواءمةً مع بيئته الجديدة، هذا مع تلمذته لبعض أئمة الحنابلة فيها.
ومنهم كذلك الإمام يوسف بن قِزْغُلِي البغدادي (ت 654هـ/1256م) المعروف بسبط ابن الجوزي؛ فقد قال ابن شاكر الكُتبي (ت 764هـ/1362م) -في ‘فوات الوفيات‘- إنه “الإمام المؤرخ الواعظ شمس الدين..، وكان حنبليا فانتقل وصار حنفيا لأجل الدنيا، وصنّف في مناقب أبي حنيفة جزءا”.
ولعل الكتبي هنا كان يشير إلى أن سبط ابن الجوزي تأثر بعلاقته الوثيقة بملك دمشق المعظَّم الأيوبي (ت 624هـ/1227م) الذي عُرف بأنه من جماعة الأمراء العلماء؛ فكان حنفي المذهب مخالفا بذلك عادة أسرته الأيوبية المعروفة بالانتماء إلى الشافعية، بل إن الذهبي يقول إن المعظّم “كان يتعصب لمذهبه [الحنفي]، وقد جَعَلَ لمن عَرَضَ (= حَفِظ).. ‘الجامعَ الكبير‘ [للإمام الحنفي محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ/805م)] مئتيْ دينار (= اليوم 35 ألف دولار تقريبا)” مكافأةً.
ومِن أواخر مَن ذكرته كتب التراجم من قدماء منتقلي الحنابلة إلى الشافعية: محدِّثُ دمشق في عصره برهان الدين إبراهيم بن محمد الدمشقي (ت 900هـ/1505م)، الذي ذكره السيوطي -في ‘نظم العِقْيان‘- فقال إنه “المعروف بالناجي لكونه تمذهب شافعيا بعد أن كان حنبليا”!!
عينة نادرة
تعددت نماذج انتقال أئمة وعلماء من المذهبين الشافعي والحنبلي إلى المذهب الحنفي، لكن حالات الانتقال من المذهب المالكي إلى الحنفية ظلت نادرة الوقوع إذا تجاوزنا الغموض الحاصل -نوعا ما- في التصنيف المذهبي للإمام أسد بن الفرات (ت 213هـ/828م)؛ ومن نماذج التحول إلى الحنفية ما يلي:
أ- حنابلة تحولوا حنفية: جاء في ترجمة عبد الواحد بن عليّ العُكْبُري (ت 456هـ/1065م) عند كمال الدين الأنباري (ت 577هـ/1181م) -في ‘نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء‘- أنه “كان في أول زمانه منجِّما ثم صار نحويًّا، وكان حنبليا فصار حنفيا”!
ويبدو أنّ العكبري هذا مرّ بتحولات فكرية ومنهجية عميقة، إذ لم يتحول عن مذهبه الفقهي فحسب، بل إنه كذلك غيّر تخصصه العلمي فأصبح نحويا بعد أن كان منجما، مما يدلّ على خوضه مرحلة فارقة في حياته علميا ونفسيا! وهو نموذج لشريحة من العلماء كان انتقالهم المذهبي حادًّا في تحولهم من مذهب أثري خالص -كالمذهب الحنبلي- إلى مذهب عُرف بغلبة النظر العقلي على أصحابه كالمذهب الحنفي.
ومن اللافت أنه غالبا ما نجد هؤلاء يمرّون بمرحلة تحوّل وُسْطى بانتمائهم للمذهب الشافعي بعد الحنبلي، وكأنهم بذلك يهيئون أنفسهم لنقطة التحول العقلية الكبرى نحو الحنفية، وتلك ربما دلالة أخرى على وسطية الشافعية بين المذاهب الفقهية!! حتى إنهم أطلقوا على من مرّ بمسار هذا الانتقال المذهبي الثلاثي (الحنبلي/الشافعي/الحنفي) لقب “حَنْفَشَ”؛ فالذهبي -في ‘السِّيَر‘- يقول إن البَنْدَنِيجي المتقدم ذكره “كان حنبليا ثم صار حنفيا ثم شافعيا”، ولذلك صار يعرف بـ”حَنْفَشَ”!!
وممن “تَحَنْفَشَ” أيضا من الحنابلة: الإمام أبو اليُمْن زيد بن الحسن الكِنْدي (ت 613هـ/1216م) الذي نعته الذهبي -في ‘السير‘- بأنه “الشيخ الإمام العلامة المفتي شيخ الحنفية، وشيخ العربية وشيخ القراءات ومُسْند الشام..، وكان حنبليا فانتقل حنفيا..، [وكان] أشبه بالوزراء من العلماء لجلالته وعلوّ منزلته”!
ثم نسب الذهبي إلى الإمام الحنبلي موفق الدين ابن قدامة المقدسي (ت 620هـ/1223م) قوله إن الكندي “انتقل إلى مذهبه [الحنفي] لأجل الدنيا إلا أنه كان على السنة، وصّى إليّ بالصلاة عليه والوقوف على دفنه، ففعلتُ”!! وهذا مثال آخر على تحول مذهبي بدافع البحث عن منافع تضمن لصاحبها أن يظل “أشبه بالوزراء من العلماء”!!
ومن هؤلاء أيضا الحسن بن المبارك الزبيدي (ت 629هـ/1232م)، وهو إمام كبير ذاق طعم الانتماء إلى جُلّ المذاهب فاستقرّ على المذهب الحنفي؛ فقد قال السيوطي -في ‘بغية الوعاة‘- إنه “كان فاضلا عالما..، وكَتَبَ بخطه كثيرا، وكانت أوقاته محفوظة؛ وكان حنبليا، ثم تحول شافعيا، ثم استقرّ حنفيا”.
وهذا الانتقال من الحنبلية إلى الشافعية إلى الحنفية يدلّ غالبا على النظر الجاد والاجتهاد الدائم من أولئك العلماء للوصول إلى الحقيقة التي هداهم علمهم واجتهادهم إليها، ويمكن القول إنّ هذا الانتقال معبّر عن الحياة العلمية والاجتهادية آنذاك، فالانتقال من لوازم الاجتهاد إذْ لا يُعقل انتقالٌ دون اجتهاد!
استقرار مؤسسي
ب- شافعية تحولوا حنفية: من الناحية المنهجية؛ قد يكون غريبا أن يكون انتقال الحنابلة إلى الحنفية أكثر من تحول الشافعية إليهم، ولعل استقرار الأوضاع المؤسسية للشافعية ووسطيتهم المنهجية كانت سببا في ذلك. ومع ذلك فإننا نلاقي أمثلة عديدة على انتقال علماء الشافعية إلى المذهب الحنفي، وإن كان العديد ممن وقفنا على انتقالهم ينتمون زمنيا إلى الحقبة التي بسطت فيها الدولة العثمانية سيادتها على منطقة العراق والشام ومصر، ومن المعلوم العلاقة الوثيقة بين هذه الدولة والمذهب الحنفي.
ومن هؤلاء الشافعية المتحولين حنفيةً: سعد الله بن حسين الفارسي السَّلْماسي الحنفي المقرئ (ت 890هـ/1485م)؛ فقد ترجم له السخاوي (ت 902هـ/1498م) -في ‘الضوء اللامع‘- فقال إنه “نزيل بيت المقدس وإمام الحنفية بالأقصى.. وكان شافعيا فتحنَّف (= صار حنفيا)”.
ومنهم القاضي معين الدين أشرف محمد التبريزي (ت 995هـ/1587م) الشهير بميرزا مخدوم الحسني، الذي ترجم له حاجي خليفة (ت 1067هـ/1657م) -في ‘سلم الوصول‘- فقال إنه “كان قدومه إلى قسطنطينية سنة 953 (هجرية = 1546م) وكان شافعيا فتحنَّف، فأكرمه السلطان (= سليمان القانوني ت 974هـ/1566م) فمَن دونه، وتولى المناصب العلمية”، وتقلّد القضاء في مدن عظيمة بينها مكة المكرمة!!
ومنهم كذلك إسماعيل بن عبد الغني النابلسي الحنفي (ت 1062هـ/1652م)؛ فقد جاء -في ‘مشيخة أبي المواهب الحنبلي‘- للمحدّث محمد بن عبد الباقي الحنبلي البَعْلي (ت 1126هـ/1715م) أنه “العلامة الفقيه..، [كان] محرِّرا مدققا له المعرفة بالتاريخ والأدب..، وبعد أن كان شافعيا عدل إلى مذهب أبي حنيفة”.
ومنهم أيضا الإمام الكبير ابن عابدين الحنفي (ت 1252هـ/1836م)؛ فقد جاء في ترجمته عند عبد الرزاق الميداني (ت 1335هـ/1916م) -في ‘حلية البشر‘- أنه قرأ “فقه الإمام الشافعي.. وكان شافعي المذهب وقتئذ، ثم لزم شيخه الشيخ شاكر العقاد (ت 1222هـ/1808م).. وقرأ عليه في المعقولات، وألزمه شيخه المذكور بالتحول لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان (ت 150هـ/768م)”.
ج- مالكية تحولوا حنفية: هذه الفئة من المتحولين مذهبيا نادرة الوجود، ومن أمثلتها قديما شهاب الدين أحمد بن عبد الله الوادي آشي الأندلسي (ت 739هـ/1338م) الذي يفيدنا ابن حجر -في ‘الدرر الكامنة‘- بأنه “تفقّه في بلده [وادي آش بغرناطة] وتأدّب، ورحل إلى المشرق فحج ثم سكن طرابلس ثم حلب وتحوَّل حنفيا، واشتمل عليه ناصر الدين ابن العديم (ت 752هـ/1351م) قاضيها فكان يواليه ويطرب لأماليه، واستنابه في عدة مدارس وفي الأحكام”.
فالظاهر من صنيع الرجل أن تحوله من مالكيته الأندلسية إلى الحنفية ساهمت فيه عوامل عدة؛ منها تغير البيئة المذهبية، وتأثير الشخصيات الوازنة، والرغبة في تقلد المناصب الموقوفة على مرافق حنفية ببلاد حنفية! وقد سرى الموقف نفسه -قبل ذلك بقرن- على بلديّه الأندلسي محمد بن مالك النحوي (ت 672هـ/1273م) الذي وصل المشرق مالكيَ المذهب ثم تحول فيه إلى الشافعية، مما جعل السيوطي ينعته -في ‘بغية الوعاة‘- بأنه “انفرد عن المغاربة.. [بـ]ـمذهب الإمام الشافعي”!!
ومن الأمثلة المتأخرة جدا لهذه الفئة: مفتي الديار المصرية الأشهر الإمام محمد عبده (ت 1323هـ/1905م)؛ فقد كتب أحمد حسن الزيات (ت 1388هـ/1968م) -في العدد 50 من مجلة ‘الرسالة‘- ترجمة لشيخ الأزهر حسونة النواوي الحنفي (ت 1343هـ/1924م)، وجاء فيها أن الخديوي عباس الثاني (ت 1364هـ/1944م) “أصدر أمره يوم السبت 24 المحرم سنة 1317 (1899م) بفصله (= النواوي) من [منصبيْ مشيخة] الأزهر والإفتاء، وإقامة ابن عمه الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي (ت 1327هـ/1909م) شيخا على الأزهر، والشيخ محمد عبده -المستشار بالاستئناف الأهلي- مفتيا للقطر، بعدما انتقل من مذهب الإمام مالك لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة”.
توازن مطرد
انتقل العديد من علماء المذاهب إلى مذهب الإمام مالك ابن أنس (ت 179هـ/796م)؛ وهنا نذكر منهم تمثيلا:
أ- شافعية تحولوا مالكية: ترجم القاضي عياض (ت 544هـ/1149م) -في ‘ترتيب المدارك‘- لصالح بن سالم الخولاني (ت 267هـ/880م) قال إنه “تفقَّه بالشافعي ثم مال إلى المالكية”. وقد ذكر ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ‘معجم البلدان‘- ملمحا طريفا في سيرة الإمام اللغوي أحمد بن فارس (ت 395هـ/1006م)، فقال إنه “كان فقيها شافعيا فصار مالكيا، وقال: دخلتني الحميةُ لهذا البلد -يعني الرَّيّ (= طهران اليوم)- كيف لا يكون فيه رجل على مذهب هذا الرجل المقبول القول على جميع الألسنة”!!
وجاء في ترجمة الحافظ ابن عبد البَرّ الأندلسي (ت 463هـ/1071م) -في ‘السِّيَر‘ للذهبي- أنه “كان أولا ظاهريا فيما قيل، ثم تحول مالكيا مع مَيْل بيِّن إلى فقه الشافعية في مسائل، ولا يُنكَر له ذلك فإنه بلغ رتبة الأئمة المجتهدين”. وفي مثال آخر على خضوع العلماء أحيانا لتجاذب تأثيرات البيئة العائلية؛ يقول ابن حجر -في ‘إنباء الغُمْر‘- إن الفقيه إبراهيم بن محمد الإخْنائي (ت 777هـ/1375م) “كان شافعيَّ المذهب كأبيه..، ثم تحول مالكيا كعمّه”!
ب- حنفية تحولوا مالكية: لا يوازي ندرة تحول المالكية إلى المذهب الحنفي إلا نظيرتها في الاتجاه المعاكس؛ ومع ذلك فنحن واجدون مثالا -على الأقل- لفقيه حنفي صار مالكيا! فمؤرخ تراجم المالكية العلامة أحمد بابا التُّنْبُكْتي (ت 1036هـ/1627م) يقول -في ‘نيل الابتهاج‘- إن الفقيه فتح الدين عبد الرحمن بن الشِّحْنة الحلبي (ت 830هـ/1427م) “كان حنفيا ثم انتقل مالكيا، [ثم] تولى قضاء المالكية، وكان من الفضلاء الأعيان وأحد النبلاء الأذكياء من بيت علم”.
والحاصل، أن المذهب المالكي ربما كان من أقل المذاهب تحولا عنه وإليه، ولعل مردّ ذلك أنّه ارتبط بجغرافيا المغرب والأندلس وكانت الرحلة شاقة إلى تلك الأقاليم، ولذا صارت القاعدة المطردة هي أن “المغاربة كلهم مالكيون إلا النادر منهم”؛ كما قال تقي الدين الفاسي (ت 832هـ/1429م) في ‘العِقْد الثمين‘.
أما المذهب الحنبل؛ فقد انتقل إليه كثير من العلماء من مختلف المذاهب، باستثناء المذهب الحنفي الذي لم نعثر على متحولين منه إلى الحنابلة الذين كان مذهبهم أقل المذاهب جذبا واستقطابا. ويبدو أن سبب ذلك أنّ هذا المذهب لم يُنظر إليه أصلا باعتباره مذهباً فقهيا بل مدرسة حديثية، حتى إنه كاد يلحق بقافلة المذاهب الفقهية المندثرة لولا أن أحد أئمته الأوائل وهو أبو بكر الخَلّال (ت 311هـ/924م) اضطلع بمهمة تدوين آرائه الفقهية في آخر عمره، كما يفيدنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بقوله: “ولم يكن قبله (= الخلال) للإمام مذهب مستقل، حتى تتبع هو نصوص أحمد ودوّنها وبَرْهَنها بعد الثلاثمئة”. ورغم ذلك؛ فقد سجّلت لنا كتبُ التراجم انتقالاتٍ مذهبيةً إليه؛ منها:
أ- شافعية انتقلوا حنابلة: ربما كان من أوائل من استقطبهم المذهب الحنبلي: أبو الخطاب علي بن أحمد البغدادي المؤدِّب (ت 476هـ/1083م)، الذي قال عنه ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1679م) -في ‘شذرات الذهب‘- إنه “كان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين، ومن حنابلتها المجتهدين، وكان سابقا شافعيا ثم رأى [في المنام الإمامَ] أحمد [بن حنبل] وسأله عن أشياء، وأصبح وقد تَحَنْبَل وصنّف في معتقدهم”! وهذه طريقة طريفة في تعليل التحول المذهبي اتبعها عدة علماء، غيّروا مذهبهم وبرّروا ذلك برؤى منامية توصلوا فيها إلى أرجحية المذهب الجديد!!
أسباب وجيهة
وترجم ابن العماد أيضا للإمام محمد بن ناصر السَّلامي البغدادي (ت 550هـ/1160م) فذكر أنه “تحوّل من مذهب الشافعي إلى مذهب الحنابلة، وخالط الحنابلة ومال إليهم وانتقل إلى مذهبهم.. في الأصول والفروع، ومات عليه”. ومن الشافعية المتحنبلين إمام النحاة في عصره ابن هشام المصري (ت 761هـ/1360م)؛ فقد قال عنه السيوطي -في ‘بغية الوعاة‘- إنه “تفقّه للشافعي ثم تحنبل وتصدَّر لنفع الطالبين، وانفرد بالفوائد الغريبة والمباحث الدقيقة”.
ب- مالكية تحولوا حنابلة: جاء في ‘الضوء اللامع‘ للسخاوي أن عبد اللطيف بن محمد الحسني (ت 853هـ/1449م) “كان أبوه مالكيا فتحوّل هو حنبليا وولي إمامة مقام الحنابلة بمكة..، ثم قضاءها في سنة تسع (= 809هـ/1406م) فكان أول حنبلي ولي قضاء مكة..، ولم يزل سلفه فقهاء مالكية، فلما أحدثوا (= السلطة المملوكية) بمكة قاضـ[ـيا] للحنفية، وقاضـ[ـيا] للمالكية، وصار بها ثلاثة قضاة، أحب أن يكون رابع الثلاثة، فقال: أنا حنبلي، وسعى في أن يكون [قاضيا للحنابلة] بمكة”.
ومن طرائف هذا التحول المذهبي -المخالف للمستقر في عائلة صاحبه والذي تدفع إليه الرغبة في المناصب- أنه أحيانا يلاقي معارضة من أصحاب المذهب المتحوَّل إليه، خشية من مضايقة الوافد الجديد لهم في المناصب والرواتب، وهو عكس ما كان يُفترض أن يحصل عادة من ترحيب بهذا الوافد باعتباره إضافة علمية سترفد المذهب وتثريه!
ومن أمثلة ذلك ما يفيدنا به السخاوي في ترجمة شهاب الدين أحمد بن أحمد الكناني الشامي (ت 962هـ/م1555) من أنه “كان همّ أن يتحنبل، فأسمعه العزُّ قاضي الحنابلة ما يكره لِظَنِّه فيه قصْدَ مزاحمته في الوظائف وغيرها، لشدة فقره وعدم رواجه بين كثير من أهل مذهبه”!!
وهكذا نجد أنّ أغلب المتحولين إلى مذهب أحمد كانوا من الشافعية، نظرا للتقارب المنهجي بين المذهبين كما مرّ، ولتعايشهما في رقعة جغرافية واحدة (العراق/الشام) كادت تخلو لهما في معظم العصور، والانتقال إلى المذهب القريب سهل على النفس ومتوافق مع تحولاتها الفكرية.
هذا علاوة على تأخر نشوء المذهب الحنبلي وتأسسه وانتشاره كمذهب فقهي، على أنه عندما انتشر وتعزز كانت المذاهب الثلاثة الأخرى قد بسطت هيمنتها في بلاد الإسلام شرقا وغربا، ومن ثمّ كانت المنافسة أمام المذهب الحنبلي صعبة لأنّه لم يجد بيئة خالية، واستمرّ ذلك حتى قدوم شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) الذي أحدث تحولات عميقة في مسيرة المذهب الحنبلي فتحا وانفتاحا.
تيار جامع
لم ينتقل عدد من العلماء مرّة واحدة من مذهبه إلى مذهبٍ آخر، بل انتقل مرتين وربما أكثر بين المذاهب كما رأينا في ظاهرة تيار “الحَنْفَشَة”، وذلك لبعض الأسباب الآنفة الذكر في صدر المقال، أو ربما لمحض اجتهاد من العالم وتغيّر في رؤاه ومواقفه؛ وعلى كل فقد وُجد من ينتقد هذا التنقل المذهبي المتعدد!
يقول ابن خلكان -في ‘وفيات الأعيان‘- مترجما لأبي بكر المبارك ابن الدهان الضرير (ت 612هـ/1215م) الملقب بـ‘الوجيه‘: “تفقَّه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليا، ثم شغر منصب تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط الواقف ألا يفوَّض إلا إلى شافعي المذهب، فانتقل الوجيه المذكور إلى مذهب الشافعي وتولاه”.
وقد أورد السيوطيّ -في ‘بغية الوعاة‘- انتقاد بعض تلامذة ابن الدهان لتحولات شيخه المذهبية، فقال فيه تلميذه أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي (ت 599هـ/1203م):
ألا مبلغٌ عني الوجيهَ رسالةً ** وإنْ كان لا تُجدي إليه الرسائلُ
تمذهبتَ للنعمان بعد ابن حنبل ** وذلك لمّا أعوزتْكَ المآكلُ
وما اخترتَ رأيَ الشافعي ديانةً ** ولكنْ لأن تهوَى الذي منه حاصلُ
وعمّا قليل أنتَ لا شكّ صائرٌ ** إلى “مالِكٍ” فافطن لما أنا قائل!
وقصد الشاعر بقوله “مالك” الإشارة إلى “مالك خازن جهنم” في الآخرة، تحذيرا لابن الدهان من استجابته المتكررة للدوافع المادية الثاوية خلف تحولاته المذهبي!! وقد علّق السيوطيّ مستهجنا انتقاد هذا التلميذ الشاعر لشيخه فقال: “قلتُ: هكذا تكون التلامذة! يتخرجون بأشياخهم ثم يهجونهم! لا قوة إلا بالله”!!
ويدخل في هذا الباب مَنْ تمذهب بأكثر من مذهب في وقت واحد؛ فأبو الفداء قاسم بن قُطْلُوْبُغَا الحنفي (ت 879هـ/1475م) يحدثنا -في كتابه ‘الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة‘- أن أبا بكر محمد بن رمضان الحُمَيدي المصري (ت 321هـ/933م) “كان مالكيا شافعيا، والمالكية أغلبُ عليه”.
وعندما ترجم ابن فرحون المالكي (ت 799هـ/1396م) -في ‘الديباج المُذْهَب‘- للإمام أبي العباس عبد الله الإبياني (ت 352هـ/963م) وصفه بأنه “كان عالم إفريقية (= تونس) غير مُدافَع من شيوخ أهل العلم وحفاظ مذهب مالك..، و[كان] يميل إلى مذهب الشافعي”. وفي ترجمته للإمام ابن المُلقِّن (ت 804هـ/1401م) يقول السخاوي في ‘الضوء اللامع‘: “إنه اشتغل في كل فن حتى قرأ في كل مذهب كتابا وأُذِن له بالإفتاء فيه”.
وجاء في ترجمته للفقيه علي بن محمود الحموي (ت 828هـ/1425م): “ووصفه بعضهم -فيما قيل- بأنه يحيط علما بالمذاهب الأربعة، فردّ عليه وقال: قل بجميع المذاهب”! ونُقِل عنه ردّه على أحدهم عندما قال: “هذا عالم بالمذهب الحنفي، فقال له: قل: شيخ المذاهب”!! هذا مع أن ابن حجر يقول عنه في ‘الدرر الكامنة‘: “كان حنفيا فتحوّل عند القاضي تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) شافعيا”.
وورد في ‘فهرس الفهارس‘ للمحدِّث محمد عبد الحي الكتاني المغربي (ت 1382هـ/1962م) أن شيخ الأزهر أحمد الدمنهوري (ت 1192هـ/1779م) “كان يكتب تحت اسمه بعد الشافعي: الحنفي المالكي الحنبلي، استجاز بذلك من شيوخه”.
فهذا جانب آخر مهمّ من مستويات التمذهب عند العلماء يذكرنا بظاهرة تيار الجمع بين الحديث والفقه والتصوف، وهو بديل آخر اتخذه بعضهم عوضا عن التحول والانتقال بالكلية، ربما جرياً مع قاعدة أن “الجمع أولى من الترجيح”! والإشارة إلى هذا النمط متكررة في كتب التراجم والطبقات، وكثيرا ما يقولون مثلا: هو حنفي وله ميل إلى الشافعية، أو العكس؛ وهكذا في سائر المذاهب.
مراجعات فكرية
لم يكن أمر الانتقال المذهبيّ منحصراً في المذاهب الفقهية فحسب، بل إننا نجد بكثرة متحولين متبادَلين بين الفِرَق الفكرية والعقدية، سنقف هنا على نماذج منها تمثيلا لا حصرا؛ ذاكرين بداية أنه من طرائف التحول الفكري والعقدي ما نلقاه أحيانا من دَوْرٍ للنساء في وقوعه، وهو ما لم نعثر على نموذج له في الانتقالات المذهبية الفقهية!
فقد قال الحافظ ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- إن الزعيم الخارجي عِمْران بن حِطَّان السَّدُوسي (ت 84هـ/704م) “أدرك جماعةَ من أصحاب النبي ﷺ، وصار في آخر أمره أنْ رأى رأيَ الخوارج، وكان سبب ذلك -فيما بلغنا- أن ابنة عمٍّ له رأتْ رأيَ الخوارج، فتزوجها ليردّها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها”!
وقال الذهبي -في ‘السِّيَر‘- مترجما لقاضي قضاة الفاطميين ومنظِّر دولتهم الأكبر أبي حنيفة النعمان بن محمد المغربي (ت 363هـ/975م): “كان مالكيا فارتدّ إلى مذهب الباطنية، وصنّف له [كتاب]: ‘أسّ الدعوة‘”. ويقول الصفدي -في ‘الوافي بالوفيات‘- إن ابن الزيتوني المعتزلي (ت 542هـ/1147م) كان “حنبليا من أصحاب أبي الوفاء ابن عقيل، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة..، وكان يذهب إلى الاعتزال وله معرفة بمذاهب المتكلمين”.
ومن غرائب التنقل الفِرَقي ما كان يحصل منه بين مذهبين متناقضين في المنطلق والرؤية والغاية؛ ومن ذلك ما يرويه المؤرخ جمال الدين القِفْطي (ت 624هـ/1227م) -في ‘إنْباه الرُّواة‘- من أن شُبَيْل بن عَزْرَة الضُّبَعي (ت بعد 100هـ/720م) كان “من خطباء الخوارج وعلمائهم..، وكان أوّلا شيعيا نحو سبعين سنة، ثم انتقل إلى الشُّراة (= الخوارج)”!! وترجم ابن كثير لأبي الحسن ابن العريف (ت 592هـ/1196م) فذكر أنه “كان حنبليا ثم اشتغل شافعيا..، ويقال إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الإمامية (= الشيعة)، فالله أعلم”!!
ومن طرائف المذاهب الفقهية والفرق الفكرية أنها كانت تجتمع كلها -على وجه الندرة والاستثناء- في العائلة الواحدة بوئام وانسجام؛ فمن نماذج ذلك في الفِرَق ما يفيدنا به ابنُ قتيبة الدينوري (ت 276هـ/889م) -في ‘المعارف‘- قائلا إنه كان للمحدِّث الثقة أبي الجعد الأشجعي (ت 100هـ/719م) “ستة بنين، فكان منهم: اثنان يتشيعان، واثنان مرجِئان، واثنان يريان رأيَ الخوارج؛ فكان أبوهم يقول لهم: يا بَنيّ: لقد خالف الله بينكم”!!
ومن أمثلة اجتماع المذاهب الفقهية على صعيد واحد داخل أسرة واحدة ما ذكره المؤرخ محمد أمين المحبّي (ت 1111هـ/1700م) -في ‘خلاصة الأثر‘- من أن الشيخ إبراهيم بن مسلم الصمادي الشافعي (= ت 1073هـ/1663م) “رُزق قبولا عظيما واتفق الناس على تجليله واعتقاده، وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه أربعة أولاد ليكون كل واحد منهم على مذهب من المذاهب الأربعة؛ فوُلد له أربعة أولاد وهم: مسلم وكان مالكيا، وعبد الله وكان حنبليا، وموسى وكان شافعيا، ومحمد وكان حنفيا”!!
دلالات وأبعاد
تتضمن تحولات كبار العلماء -من مذهب فقهي إلى آخر- عدّة دلالات مهمة، حريّ أن نقف مع بعضها مما سبق أن أوردنا نماذج تؤيده وتؤكده:
1- ديمومةُ حركة الاجتهاد: ففي المقامِ الأول؛ تدل تلك التحولات -في معظمها الذي كانت دوافعه موضوعية- على ديناميكية الحراك العلمي، وديمومة الاجتهاد الفقهي عند المسلمين. فلو أنّ العالِم لم يجتهد ويقارن بين أصول ومناهج المذاهب ما كان له أن يتحول، لأنّ الانتقال والتحول وليد للاجتهاد وثمرته. وهذا يدلّ على أن أبواب الاجتهاد والاختيار المذهبي ظلت مفتوحة باستمرار أمام نمطين من الاجتهاد: اجتهاد داخل المذاهب واجتهاد من خارجها.
ومما يؤكد بُعد الحيوية الاجتهادية وموضوعيتها في تلك التحولات أن بعض أصحابها يعودون أحيانا إلى مذاهبهم الأولى؛ ومن ذلك ما ذكره السيوطي -في ‘حسن المحاضرة‘- من أن الإمام ابن عبد الحكم المصري (ت 268هـ/881م) “أخذ مذهب مالك [بن أنس]..، فلما قدم الشافعي مصر صحبه وتفقه به، فلما مات الشافعيّ رجع إلى مذهب مالك، وانتهت إليه الرياسة بمصر”.
2- نبذ التعصب المذهبيّ: تشير تلك التحولات إلى غلبة التهدئة المذهبية في البيئة العلمية الإسلامية، ومدّ لأواصر الصلة بين المذاهب الفقهية؛ فمن خلال التحولات عَرف الفقهاء وجهات نظر المذاهب المغايرة لهم، والتمسوا الأعذار لبعضهم بعضا. ويؤيد ذلك ما نراه من تلمذة متبادلة بين المنتمين للمذاهب؛ فأدى ذلك إلى انتقال بعضهم إلى مذهب الآخر، أو بقائه على مذهبه مع رحابة صدره وسعة مدركاته، وتسليم للغير بالفضل ووجاهة الرأي.
3- محورية البعد الجغرافي: فبقدر ما وُجدت عوامل جغرافية مسبِّبة للانتقال المذهبي ظهرت أخرى مانعة منه؛ فبعض الأقاليم والبلدان كانت مغلقة أمام التنقلات المذهبية داخلها لسيادة مذهب معيّن فيها حصرا. وهو ما أدى إلى تكيف بعض القادمين إليها مع بيئتها العلمية بتحولهم إلى المذهب الفقهي السائد فيها.
4- حضور العامل النفسي: لكلّ فقيه وعالِم بيئته التي نشأ فيه وثقافته التي تربّى عليها منذ أن كان طريّ العود، ولكلّ منهم أخلاقه وأمزجته النفسية التي تؤكد نوازعه البشرية وتشكّل معايير اختياراته المذهبية، وقد رأينا كيف ساهم ذلك كله في انتقال عالِم من مذهب إلى آخر، إما استجابةً لمؤثِّر عائلي، أو تأثرا بمنهج أستاذ، أو نزولا عند ضرورة مصلحة مادية اقتضتها ظروف الحياة.