تاريخ مؤسسة البحرية الإسلامية.. سفينة وضعت أدق خرائط العالم الجديد
يقول المؤرخ الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في ’قصة الحضارة’- إنه كان للمسلمين بالأندلس “أسطول تجاري يزيد على ألف سفينة يحمل غلّات الأندلس ومصنوعاتها إلى إفريقية وآسية، وكانت السفائن القادمة من مئة ثغر وثغر تزدحم بها”!! وينقل مؤرخونا القدماء أنه كانت تعلو صفحة نهر النيل في مصر 36 ألف مركب تنقل الناس والبضائع، وكان في العراق 30 ألف سفينة بنهر دجلة وحده!!
تُرى ماذا حدث للمسلمين الذين اعتادوا ركوب سفن الصحراء -من جمال وغيرها- حتى يصحبوا أهم ربابنة وملاحي البحار في التاريخ؟! لا تبعد الإجابة عن تلك الاندفاعة الحضارية الكبرى للمسلمين نحو العالم من أجل الدعوة والتجارة، وتحدي الإمبراطوريات الكبرى وصولا إلى نيل السيادة العالمية قرونا عديدة.
إن تلك الاندفاعة الحضارية هي التي جعلت سفن جزيرة العرب ترسو على بحار بل ومحيطات عالمية أضحت عربية بالنفوذ السياسي والتأثير العِلمي والرواج الاقتصادي، وتُوَّجت مجدَها بفتح القسطنطينية بعد 29 محاولة تكسرت عزائم منفذيها مع أمواج مرافئ هذه المدينة التي أرّخ سقوطها لنظام عالمي جديد!
وهذا الموضوع الذي تقرأه هو جزء من سلسلة تاريخ مؤسسات الحضارة الإسلامية التي تنشر فصولها دوريا صفحة “تراث”، حيث نُطلّ معك على أفخمها نطاقا وأعظمها أثرا وهي مؤسسة البحرية الإسلامية، التي وصلت إلى الذروة في صناعة الأساطيل البحرية الكبرى علوم البحرية العسكرية، فكان البحارة المسلمون على دراية عميقة بأنواع السفن العسكرية، وتكتيكات المناورات الحربية، وعمليات القوات الخاصة في الإنقاذ والإنزال البحري.
كما بلغت هذه المؤسسة أوج عطائها في فنون الملاحة حين استطاع أحد ألمع ربابنتها رسم خرائط في غاية الدقة والإبهار لقارات العالم الجديد (الأميركتان الشمالية والجنوبية)، وما زالت براعة راسمها التركي المسلم تثير دهشة خبراء الخرائط الجغرافية في أبرز جامعات العالم بأميركا وأوروبا!
نقلة كبرى
عرف العربُ منذ أقدم العصور البحار لطبيعة الجزيرة العربية التي تُشرف من جهاتها الثلاثة على البحر الأبيض المتوسط في الشمال، والبحر الأحمر في الغرب، والبحر الهندي (بحر العرب) في الجنوب، والخليج العربي في الشرق.
ورغم ذلك كان أغلب العرب يتهيّبون البحار قبل الإسلام وبعده حتى إن الخليفة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/655م) “لما كتب إلى [واليه على مصر] عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م) يسأله عن البحر فقال: خلقٌ عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود، فكتب إليه عمر ألا يركبه أحد طول حياته، فلما كان بعد عمر لم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) فاتبع فيه رأي عمر وكان منع عمر لشدة شفقته على المسلمين” كما يذكر القسطلاني (ت 923هـ/1517م) في ‘إرشاد الساري‘.
على أن الخليفة عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) لم يكن أقل حذرًا من عمر في ركوب البحر؛ فحين أرسل إليه واليه على الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) يستأذنه في غزو قبرص سنة 27هـ/649م ويهوّن عليه أمرها -كما فعل مع الخليفة عمر الذي رفض طلبه- أجابه عثمان بشروط قائلا: “فإن ركبتَ البحرَ ومعكَ امرأتك فاركبه مأذونًا لك، وإلا فلا..؛ خيّرهم (= جنوده) فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنْه”؛ كما يروي البلاذري (ت 279هـ/892م) في ‘فتوح البلدان‘.
ومنذ غزو قبرص 27هـ/649م وما تلاه من أحداث تشجع المسلمون على ركوب البحر واحتاجوا لإنشاء الأساطيل، ويُعلل ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) هذا الأمر -في ‘المقدمة‘- بقوله: “والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه، والرّوم والإفرنجة لممارستهم أحواله.. مرنوا عليه وأحكموا الدّارية بثقافته، فلمّا استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أُمم العجم.. تحت أيديهم، وتقرّبَ كُلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النَّوَاتية (= الملّاحين) في حاجاتهم البحريّة أمماً، وتكرّرت ممارستهم للبحر وثقافته؛ استحدثوا بُصَراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه، وأنشؤوا السُّفن فيه.. وشحنوا الأساطيل بالرّجال والسّلاح”.
وكانت السيطرة الإسلامية على قبرص وهيمنتهم الناشئة في البحر المتوسط -على امتداد الساحل الشمالي لأفريقيا- سببًا في اتخاذ البيزنطيين قرارهم بدخول معركة بحرية فاصلة لتدمير الأسطول الإسلامي؛ فكانت معركة “ذات الصواري” 34هـ/656م التي انتصر فيها المسلمون، رغم أن البيزنطيين تجهزوا لها “في جمع لم يجتمع للروم مثله قط منذ كَانَ الإِسْلام، فخرجوا في خمسمئة مركب”؛ وفقا للطبري (ت 310هـ/922م) في تاريخه.
وعقب انكسار البيزنطيين في “ذات الصواري” انفتح الباب أمام المسلمين لبلوغ الهيمنة البحرية في البحر المتوسط؛ فبدؤوا محاولاتهم لفتح الأندلس بالسيطرة على جزر البَلْيار الأربع الواقعة قبالة ساحلها الشرقي، إذ يخبرنا خليفة بن خياط العُصْفُريّ (ت 240هـ/854م) -في تاريخه- بأنه في 89هـ/709م بعث والي المغرب الأموي موسى بن نُصير (ت 97هـ/716م) جيشا “فأتى مَيُورْقَة ومَنُورَقَة جزيرتين بين صقلية والأندلس وافتتحهما”.
طور جديد
ومع تولي أسرة الأغالبة (184-296هـ/800-909م) حكم أفريقية/تونس -بتفويض من الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)- حرصوا على تقوية أسطولهم العسكري فأكثروا من إنشاء السفن الحربية لفتح الجزر البيزنطية، وخاصة منذ ولاية أميرهم زيادة الله ابن الأغلب (ت 226هـ/841م) الذي يقول ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- إنه “جهّز جيشًا في أسطول البحر وكان مراكب كثيرة”.
وقد مثّل فتح جزيرة صقلية 212هـ/827م ذروة قوة البحرية الإسلامية في جنوبي المتوسط، وهو الفتح الذي قاده عسكريا القاضي المالكي أسد بن الفرات (الفارسي ت 213هـ/828م) حين اختاره الأمير زيادة الله “فولَّاه على الجيش وأقرَّه على القضاء مع القيادة”؛ طبقا لابن عذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) في ‘البيان المـُغـرب‘.
وحين أطاح الفاطميون بحكم الأغالبة نهاية القرن الثالث/التاسع الميلادي؛ استولوا على ميراثهم البحري وبنوا “دار الصناعة.. تسع أكثر من مئتيْ مركب، وفيها قبوان كبيران طويلان لآلات المراكب وعُدَدها لئلا ينالها شمس ولا مطر”! طبقا لرواية الجغرافي الأندلسي أبي عُبيد البكري (ت 487هـ/1094م) في ‘المسالك والممالك‘.
ثم ذكر البكري اتساع وتحصين ميناء المهدية العجيب؛ فقال إن “مرساها منقور في حجر صلد يسع ثلاثين مركبا، على طرفيْ المرسى برجان بينهما سلسلة من حديد، فإذا أريد إدخال سفينة فيه أرسل حراس البرجين أحد طرفيْ السلسلة حتى تدخل السفينة ثم مدُّوها كما كانت بعد ذلك؛ تحصينا لئلا تطرقها مراكب الروم”!!
ولذلك كانت أساطيل الفاطميين القوية تسبب فزعًا لنظيرتها الأوروبية؛ فالذهبي (ت 748هـ/1348م) يقول -في ‘تاريخ الإسلام‘- إنه في 323هـ/935م أمر خليفة الفاطميين المنصورُ (ت 341هـ/953م) قائدَه العسكري يعقوبَ بن إسحق (ت بعد 323هـ/935م) بالخروج “في أُسطول من المهديّة (= مدينة تونس) عدّته ثلاثون [مركبا] حربيًّا إلى ناحية إفرنجة (= إيطاليا)، ففتح مدينة جَنَوَة”.
وبحلول القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي؛ كان المسلمون قد سيطروا على كبريات جزر المتوسط وأماكن مهمة من البر بجنوبي إيطاليا، وأصبحوا على مقربة من روما ذاتها. وفي وصفه مبلغ هذه الهيمنة البحرية الإسلامية؛ يقول ابن خلدون إن المسلمين “تغلّبوا على كثير من لُجّة هذا البحر..، والعساكر الإسلاميّة تُجيز (= تقطع) البحر في الأساطيل من صقلّيّة إلى البرّ الكبير المقابل لها من العُدْوة (= الضفة) الشّماليّة، فتُوقِع بملوك الإفرنج وتُثْخِنُ في ممالكهم..، وأساطيل المسلمين قد.. ملأت الأكثرَ من بسيط هذا البحر عُدّةً وعَدداً، واختلفت في طرقه سِلْماً وحربا فلم تظهر للنّصرانيّة فيه ألواح”ّ!!
بحلول مطلع القرن الخامس/العاشر الميلادي؛ كانت البحار الرئيسية في العالم القديم تخضع للهيمنة الإسلامية، إلا أن هذه السيطرة بدأ يعتريها التخلخل -وخاصة في المتوسط- حين استعاد المسيحيون أجزاء واسعة من جزيرة صقلية مع منتصف هذا القرن، ثم باندلاع شرارة الحروب الصليبية في نهايته. لكن اللافت أن جهود الدفاع البحري للأساطيل الإسلامية لم تكن بأقل مستوى -أغلب الأحيان- من عهود الهجوم والفتوح، بل إنها فاقتها أحيانا في براعة التخطيط ومهارات المناورة وصلابة الصمود.
عمليات خاصة
وهنا يحدثنا ابن القلانسي عن تفاصيل إحدى العمليات البحرية التي أشرف عليها قائد الأسطول المصري الفاطمي -منتصف القرن السادس/الـ12 الميلادي- بعد أن سبقتها عمليات استطلاعية ومخابراتية بحرية معقدة؛ فيقول: “فاختار [قائد الأسطول] جماعةً من رجال البحر يتكلّمون بلسان الإفرنج، وألبسهم لباس الإفرنج، وأنهضهم في عدة من المراكب الأسطولية، وأقلع في البحر لكشف الأماكن والمكامن والمسالك المعروفة بمراكب الروم..، وعاد منكفئًا إلى مصر بالغنائم والأسرى”.
ومن عمليات الإسعاف البحرية البالغة التعقيد الأمني لفك الحصار الصليبي عن مدن المسلمين؛ ما يذكره ابن شداد الموصلي (ت 632هـ/1234م) -في ’النوادر السلطانية’- ضمن أحداث 585هـ/1189م، من أن “الإفرنج.. أداروا مراكبهم حول عكا حراسةً لها من أن يدخلها مراكب المسلمين، وكانت قد اشتدت حاجة مَنْ فيها إلى الطعام والميرة فركب في بطْسة (= سفينة شحن حربية ذات طوابق) بيروت جماعة من المسلمين وتزيَّوْا بزِيّ الإفرنج حتى [إنهم] حلقوا لحاهم، ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث تُرى من بُعد وعلّقوا الصلبان، وجاءوا قاصدين البلد.. حتى دخلت ميناء البلد..، وكان فرحاً عظيماً فإن الحاجة كانت قد أخذت من أهل البلد”!
وبعد سقوط الفاطميين ومجيء الأيوبيين وتجدد اهتمام صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) بأساطيل مصر والشام؛ لعبت هذه الأساطيل أدوارًا مهمة في التصدي لهجمات الصليبيين البحرية، رغم الضعف العام الذي وصفها به ابن خلدون حين تحدث عن “ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا (= الأيوبيون) بشيء من أمره (= الأسطول) لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العُبيدية (= الفاطمية) عناية تجاوزت الحد؛ كما هو معروف في أخبارهم”.
ويمدنا العماد الأصفهاني (ت 597هـ/1200م) -في ‘البرق الشامي‘- بتفاصيل مهمة عن انتصارات أساطيل الأيوبيين على الصليبيين؛ ففي حوادث 573هـ/1177م يقول: “إن الأسطول المنصور المصري غزا.. وتوغّل في الجزائر..، وظفر ببطْسة كبيرة فلقيها بالبطشة الكبرى، واستولى عليها وعلى أخرى”، ويقدر الأصفهاني عدد الأسرى الصليبيين في الواقعة بألف أسير.
ولما تولى الظاهر بيبرس البُنْدُقْدَاري (ت 676هـ/1277م) عرش الدولة المملوكية 659هـ/1261م؛ وضع خطة لإعادة تنظيم كافة قطاعاتها فشمل ذلك صناعة الأسطول البحري. وعن ذلك يحدثنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- فيقول: “ونظر [بيبرس] في أمر الشّواني (= جمع ‘شَوْنَةُ/شيني‘: سفينة قتالية) الحربية وكان قد أُهمِل أمر الأسطول بمصر..، وأنشأ عدّة شواني بثغريْ دمياط والإسكندرية، ونزل بنفسه إلى ‘دار الصناعة‘ ورتَّبَ ما يجبُ ترتيبه، وتكامل عنده ببرّ مصر ما ينيف على أربعين قطعة، وعدة كثيرة من الحراريق (= جمع حَرَّاقة: سفينة قاذفة للنيران) والطرائد (= جمع طريدة: سفينة حربية هجومية)”.
ويبدو أن جهود بيبرس آتت أكُلها باستعادة الأسطول المملوكي لزمام المبادرة العسكرية؛ ففي عصر السلطان الناصر قلاوون (ت 741هـ/1341م) كانت جزيرة أرواد -الواقعة اليوم ضمن سوريا- قد “اجتمع فيها (= سنة 702هـ/1302م) جمعٌ كثير مِن الفرنج..، وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين..، فعُمِّرت الشواني وسارت إليها من الديار المصرية في بحر الروم (= البحر المتوسط)..، وجرى بينهم قتال شديد ونصر الله المسلمين وملكوا الجزيرة المذكورة”؛ وفقا لأبي الفداء الأيوبي (ت 732هـ/1332م) في ‘المختصر في أخبار البشر‘.
توسع تاريخي
وبسبب الهجمات القبرصية البحرية على سواحل مصر والشام؛ زاد اعتناء المماليك بصناعة أساطيلهم حتى بلغت ذروة قوتها بسيطرتهم على قبرص التي كانت حينها آخر معقل صليبي شرقي المتوسط. ففي أواخر 829هـ/1426م أمر السلطان المملوكي برسباي ت 841هـ/1438م) “بعمارة الأغربة (= جمع غُراب: السفينة الحربية الكبيرة) والحمّالات (= السفن الحربية المعدة لحمل المعدات والخيول)، وجدَّ في ذلك وبذل الأموال..، ويُقال إنه بلغت عدة العمارة (= الأسطول) -أغربةً وحمالاتٍ وزوارقَ- مئتيْ قطعة وزيادة”؛ حسب الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في ‘إنباء الغُمر‘.
وبالتزامن مع تلك الانتصارات البحرية المملوكية كانت الدولة العثمانية تتوسع في الأناضول والبلقان ببطء، وقد أوْلى سلاطينُها اهتمامَهم للأساطيل البحرية، لاسيما بعد فتح مدينة برصة/بروسة واتخاذها عاصمة لهم 717هـ/1317م؛ فتجددت بقوتهم البحرية عهود فتوح الإسلام في أول دولتهم المترامية، وجهود الدفاع البحري عن سواحل المسلمين في أواخرها.
وبعد فتحهم مدينة أدرنة 762هـ/1361م في الطرف الأوروبي واتخاذها عاصمة للسلطنة العثمانية “أصبح الأسطول البحري ضروريًا للربط بين شطريْ السلطنة الممتدة من آسيا إلى أوروبا حيث فُتحت بلغاريا وصربيا..، ووصل الأسطول العثماني إلى البحر الأبيض المتوسط، واستولى السلطان مراد الثاني (ت 855هـ/1451م) على جميع القلاع والحصون الرومية على شواطئ البحر الأسود وسواحل الرومللي (= المنطقة الأوروبية العثمانية)”؛ حسب محمود الدغيم في ‘أضواء على تاريخ البحرية الإسلامية العثمانية‘.
ويعدّ فتح العثمانيين للقسطنطينية/إسطنبول إحدى المعجزات العسكرية والبحرية؛ فقد حُوصرت المدينة 29 مرة منذ عصر الدولة الأموية وحتى منتصف القرن التاسع/الـ15 الميلادي فاستطاعت الصمود فيها كلها! ويلخص لنا إسماعيل سرهنك (ت 1343هـ/1924م) -في ‘حقائق الأخبار عن دول البحار‘- أغرب أحداث فتح إسطنبول يوم 21 جمادى الأولى 857هـ/29 مايو-أيار 1453م، بفضل خطة عسكرية عبقرية وضعها السلطان محمد الفاتح (ت 886هـ/1481م).
ويذكر سرهنك من تلك الغرائب “تسيير السفن الحربية على اليَبَس مسافة فرسخ (= 5 كم تقريبا).. بتغطية الأرض -التي يُراد سحب السفن الحربية عليها- بألواح خشب الصنوبر المدهون بالشحم حتى صارت كالمزلقان، ثم سحبوها عليها -وكانت عبارة عن ثمانين غُرابًا وسبعين سفينة خفيفة- بقوة الأيدي والآلات المستعملة إذ ذاك؛ لأنه رأى تعذّر إدخال السفن إلى ميناء المدينة لأنها مقفلة بأضخم السلاسل الحديدية..، فتمّت جميع هذه الأعمال في ليلة واحدة، وعند الصباح اندهش [البزنطيون] المحصورون تمام الاندهاش حينما شاهدوا أسطولا حربيًا تامّ المعدّات انحدر من الشاطئ إلى مينائهم” على حين غفلة منهم!!
وإذا كانت البحرية العثمانية قد لعبت الدور الأبرز في فتح القسطنطينية؛ فإن هذه الأساطيل -كما يذكر ضيا باشا (ت 1296هـ/1880م) في ‘تاريخ الأندلس‘- كان لها شأن كبير في الدفاع عن مسلمي الأندلس ونقلهم، ومحاربة أساطيل فرنسا وإسبانيا في المتوسط. أما أعظم الأدوار البحرية للعثمانيين -في غربي المتوسط- فتجلّت في نجدة الأندلسيين وهزيمة الإسبان وتحرير كثير من مناطق المغرب الإسلامي على يد القائد البحري العثماني خير الدين بربروسا (ت 953هـ/1546م)؛ كما يذكر مولاي بلحميسي (ت 1430هـ/2009م) في ‘الجزائر والغزو البحري في القرن السادس عشر‘.
إعداد مؤسسي
لم تأت من فراغ تلك المسيرة المظفرة -في أغلب الأحيان- لأساطيل المسلمين والتي حققوها خلال القرون الأولى من اندفاعتهم الحضارية، وألمحنا لبعضها تمثيلا لا حصرا؛ بل إنها كانت وليدة للعقلية الإستراتيجية للمسلمين التي دفعتهم للعناية العظيمة بصناعة السفن وتشكيل الأساطيل لفتح الأقطار الرومية في شمال البحر المتوسط والأندلس، وللهيمنة المستدامة على بحار العالم الرئيسية حينها وعلى رأسها المتوسط والأحمر والهندي.
ولتحقيق تلك الأهداف الكبرى؛ عمل المسلمون على تعزيز أساطيلهم الحربية التي أطلقوا على أحواض تصنيع سفنها -بمختلف أنواعها- مصطلحا خاصا بها هو “دار الصناعة” أو “الصناعة” اختصارا، فانتشرت منشآتها في أهم مدن ساحل البحر المتوسط مثل عكا وصور بالشام، والإسكندرية وجزيرة الروضة بمصر، وتونس وبجاية بأفريقية/تونس، وألمرية والجزيرة الخضراء بالأندلس.
كانت مصر مقرًّا لدار الصناعة الكبرى لإنشاء السفن الحربية مطلع الخلافة الأموية، لكن حدثًا وقع 49هـ/670م أجبر الخليفة معاوية على إنشاء دُور صناعة جديدة على الساحل الشامي مثل عكّا. وعن ذلك يقول البلاذري: “لما كانت سنة تسع وأربعين خرجت الروم إِلى [غزو] السواحل، وكانت [دار] الصناعة بمصر فقط؛ فأمر معاوية.. بجمع الصُّناع والنجارين فجُمعوا ورتَّبهم في السواحل، وكانت [دار] الصناعة في الأردن بعكا”.
ويفيدنا هذا النص بأن أول “دار صناعة” أنشئت في مصر وُجدت قبل 49هـ/670م، ولعلها هي التي كانت تُعرف باسم “صناعة الجزيرة” لوقوعها في جزيرة الروضة بنهر النيل، وذكرها ابن عبد الحكم (ت 257هـ/871م) -في ‘فتوح مصر والمغرب‘- عند حكايته لحادثة وقعت في خلافة عمر بن عبد العزيز “احتيج [فيها] إلى خشبٍ لـ‘صناعة الجزيرة‘”.
ومع توسُّع الفتوح الإسلامية بمنطقة الغرب الإسلامي؛ أصبحت الحاجة ماسّة لإنشاء دُور الصناعة في هذه الأقاليم لكثرة الأساطيل البيزنطية والأوروبية المجاورة والتي كانت تهدد المسلمين على الدوام. ولذلك يقول ابن خلدون في تاريخه: “أوعز الخليفة عبد الملك (بن مروان ت 86هـ/706م) إلى حسّان بن النّعمان (ت بعد 80هـ/700م) عامل إفريقية باتّخاذ ‘دار صناعة‘ بتونس لإنشاء الآلات البحريّة حرصا على مراسم الجهاد، ومنها كان فتح صقلّيّة”.
ويبدو أن الأمويين والعباسيين توسّعوا في إنشاء دُور الصناعة البحرية بمدن وموانئ الساحل الشامي في أوقات مبكرة؛ إذ يقول الجغرافي اليعقوبي (ت بعد 292هـ/905م) -في كتابه ‘البلدان‘- متحدثا عن مدينة صُور: “وهي مدينة السواحل وبها دار الصناعة، ومنها تخرج مراكب السلطان لغزو الروم”.
عناية فائقة
بيد أن تطورًا مهمًا طرأ على “دار الصناعة” في مصر منتصف القرن الثالث/التاسع الميلادي؛ وخاصة إثر مجيء القائد التركي أحمد بن طولون (ت 270هـ/883م) واليًا عليها للعباسيين، إذ سرعان ما انفصل بحكم البلاد مؤسسا الدولة الطولونية، ثم تبعه في الاهتمام بالأساطيل محمد بن طُغْج الإخشيد (ت 334هـ/948م) مؤسس الدولة الإخشيدية.
وعن اهتمام هذين الرجلين بالقوة البحرية؛ يقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘: “اعتنى الأمير.. أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه ‘الصناعة‘ (= دار الصناعة)..، ولم تزل هذه ‘الصناعة‘ إلى أيام الملك.. محمد بن طُغْج الإخشيد، فأنشأ [دار] صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع هذه ‘الصناعة‘ البستان المختار”. ويصف يحيى الأنطاكي (ت 458هـ/1067م) -في تاريخه- وقائع تدشين رسمي بمصر يُظهر عناية الأمراء الإخشيديين بصناعة الأساطيل، فيقول إنه “ركب كافور الإخشيد (ت 356هـ/967م) إلى دار الصناعة ووقف ليطرح مركبا حربيا عظيما كان بها إلى البحر”.
وإذا نظرنا إلى المعلومات المهمة التي جمعها المقريزي من المؤرخين السابقين الذين فُقدتْ تواريخهم؛ فسنرى أن صناعة الأساطيل البحرية بمصر بلغت أوْجها زمن الفاطميين، فهو يقول إن خليفتهم المعزّ لدين الله (ت 365هـ/976م) “أنشأ دار الصناعة التي بالمقس (= قرب ميدان رمسيس بالقاهرة)، وأنشأ بها ستمئة مركب لم يُرَ مثلها في البحر على ميناء.. فيما تقدَّم كبرا ووثاقة وحُسنا”!!
وفي منطقة الشام احتضنت بيروت إحدى أهم دور صناعة السفن بدولة المماليك بعد أن حشدت لها الإمكانيات والطاقات البشرية المتخصصة؛ فصالح بن يحيى (ت 840هـ/1436م) يفيدنا -في ‘تاريخ بيروت‘- بأنه بعد الهجوم القبرصي اللاتيني على مدينة الإسكندرية 767هـ/1365م قرر المماليك أن ينشئوا من غابة بيروت مراكبَ كثيرة “حمّالاتٍ وشوانيَ للدخول إلى قبرس (= قبرص)، فأحضروا الصُّناع من جميع الممالك، وعمّروا مصطبة في ظاهر بيروت، وكانت المراكب تُعمَل بها على بُعد من البحر”.
أما في الغرب الإسلامي؛ فقد اهتم سلاطين الأندلس الأمويون ومن تلاهم بإقامة دور صناعة السفن الحربية والتجارية؛ حتى إن مؤرخ الحضارات الأميركي وِيلْ ديورانت يقول -في ’قصة الحضارة’- إنه كان للأندلس “أسطول تجاري يزيد على ألف سفينة يحمل غلّات الأندلس ومصنوعاتها إلى إفريقية وآسية، وكانت السفائن القادمة من مئة ثغر وثغر تزدحم بها”.
وكانت أهم دُور صناعة سفن الأساطيل الأندلسية تلك التي أقيمت بمدينة ألمرية؛ فابن سعيد المغربي (ت 685هـ/1286م) يقول -في ‘المـُغْرِب‘- إن ألمرية “سُورها على ضفّة البحر (= المتوسط) وبها دار الصناعة”. كما كانت بمدينة دانية دارُ صناعة بحرية كبيرة، فقال الحميري (ت 900هـ/1495م) -في ‘الروض المعطار‘- إن “السفن واردة عليها صادرة عنها، ومنها كان يخرج الأسطول إلى الغزو، وبها ينشأ أكثره لأنها دار إنشائه”.
واللافت أن الأمويين في الأندلس لم يهتموا بتقوية أساطيلهم الحربية قبل كارثة هجوم الفايكنغ -الذين يسميهم مؤرخو الأندلس “المجوس” أو “الأردمانين” (النورمانيين)- على شواطئ البلاد الجنوبية سنة 229هـ/844م، ومنها توغلوا شمالا إلى إشبيلية التي عاثوا فيها قتلا ونهبا. وهي الحادثة التي يذكرها المغربي -في ‘المُـغرب‘- قائلا: “ظهرت مراكب الأردمانين المجوس بسواحل غرب الأندلس..، وفي سنة ثلاثين ومئتين (230هـ/845م) حلّت على إشبيلة وهي عورة (= بلا حامية) فدخولها واستباحوها سبعة أيام”!!
قوة متعاظمة
دقّت تلك الواقعة ناقوس الخطر منذرةً بمخاطر خُلوّ البلاد من قوة بحرية قادرة على الدفاع عنها أمام هجمات غزاة البحر المتمرّسين، ودفعت بجهود نشطة لتأسيس أساطيل بحرية حربية سرعان ما أصبحت لها سمعة ومهابة؛ حتى إنه بعد خمس سنوات فقط كان الأمير الأموي عبد الرحمن الثاني (ت 238هـ/852م) قادرا على إصدار أمره 234هـ/849م بتجهيز أسطول “من ثَلَاثمئة مركب الى جزيرتيْ مَيُورْقَة ومَنُورَقَة (= قبالة الساحل الشرقي للأندلس) لإضرار أهلهما بِمن يمرّ بهما من مراكب الإسلام، ففتحوهما”، وأصبحت بهما جزر البليار جزءًا فاعلا في حضارة الأندلس الإسلامية طوال أربعة قرون.
والحق أن أسطول الأمويين بالأندلس بلغ درجة عظيمة للغاية من القوة في زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/961م)، وفي ذلك يقول ابن خلدون: “انتهى أسطول الأندلس أيّام عبد الرّحمن النّاصر إلى مئتي مركب أو نحوها.. ومرفؤُها للحطّ والإقلاع.. ألمريةُ”.
وفي عهد وزير الأمويين الأشهر بالأندلس المنصور بن أبي عامر (ت 392هـ/1003م) تكاثرت حملات الغزو لمعاقل الممالك المسيحية شمالي البلاد وغربيها، حتى إنه كانت “عدَّة غزواته سبعًا وخمسين غزوة، باشرها كلَّها بنفسه”؛ طبقا لابن عذاري الذي يخبرنا أن المنصور قرر 387هـ/989م توسيع سيطرته البحرية غربي الأندلس (البرتغال اليوم)، فأمر بـ”إنشاء أسطول كبير.. وجهزه برجاله البحريين..، وحُملت الأقوات والأطعمة والعُدَد والأسلحة، استظهارا على نفوذ العزيمة”.
وقد وظّفت دولة الموحدين -حين بسطت سيادتها على الأندلس منتصف القرن السادس/الـ12 الميلادي- براعة الأندلسيين في العلوم البحرية وصناعة الأساطيل؛ فأنشأت “دار صناعة” جديدة بمدينة سلا المغربية بإشراف المهندس محمـد بن علي الإشبيلي (من رجال القرن السادس/الـ12 الميلادي)، الذي يصفه الناصري السلاوي (ت 1315هـ/1898م) -في ‘الاستقصا‘- بأنه كان “من العارفين بالحيل الهندسية، ومن أهل المهارة في نقل الأجرام (= الأجسام) ورفع الأثقال، بصيرًا باتخاذ الآلات الحربية”.
وقد تحدث السلاوي عن أهمية هذه المنشأة فقال: “دار الصناعة.. هي الدار التي كانت تُصنع بها الأساطيل البحرية والمراكب الجهادية، يُجلب إليها العود (= الأخشاب) من ‘غابة المعمورة‘ (تقع اليوم شمال العاصمة الرباط)، فتُصنَع هنالك ثم تُرسل في الوادي، وكان ذلك من الأمر المهم في دولة الموحّدين”.
وبفضل تلك الجهود الحثيثة المدفوعة بتصاعد قوة المسيحيين داخل الأندلس وعلى سواحل الشام شرقي المتوسط؛ تعاظمت قوة الأسطول الموحدي بقيادة الأميرال أحمد الصقلي (ت بعد 581هـ/1185م)، ولاسيما أيام السلطان يوسف بن عبد المؤمن (ت 580هـ/1184م) الذي “انتهت أساطيل المسلمين على عهده -في الكثرة والاستجادة- إلى ما لم تبلغه من قبلُ ولا بعدُ”؛ وفقا لابن خلدون الذي يفيدنا باستنجاد صلاح الدين الأيوبي بالمنصور الموحدي (ت 595هـ/1199م) “ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتَحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من إمداد [الممالك] النصرانية بثغور الشام”.
تنظيم وتمويل
استتبع اعتناءُ الدول الإسلامية بإنشاء دُور صناعة السفن الحربية اهتماما موازيا بتنظيم العمل فيها إدارة وإشرافا، وتخصيص الموارد البشرية والمواد الصناعية الكفيلة بأدائها لرسالتها وتحقيق أهدافها المرسومة. ويعطينا البكري الأندلسي -في ‘المسالك والممالك‘- تفاصيلَ مهمة عن الكيفية التي أُنشئت بها “دار صناعة” السفن الحربية بتونس أيام الأمويين، وعن مصدر القوى البشرية التي عملت فيها.
ففي ذلك يقول البكري إن عبد الملك بن مروان كتب إلى “أخيه عبد العزيز (بن مروان ت 85هـ/700م) -وهو والي مصر- أن يوجّه إلى معسكر تونس ألف قبطي بأهله وولده، وأن يحملهم من مصر ويُحْسِن عَوْنَهم حتّى يصلوا إلى ترشيش وهي تونس. وكتب إلى [حسان] ابن النعمان أن يبني لهم دار صناعة تكون قوّة وعُدّة للمسلمين إلى آخر الدهر..؛ فوصل القبط إلى حسّان وهو مقيم بتونس”.
وفي العصر العباسي؛ أوْلى الخليفة المتوكل (ت 247هـ/861م) عنايتَه للأساطيل؛ ففي 239هـ/853م “جُعلت الأرزاق (= الرواتب) لغُزاة البحر كما هي لغُزاة البَرّ، وانتَدب الأمراءُ له الرماةَ؛ فاجتهد الناسُ بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة، وانتُخِب له القوّادُ العارفون بمحاربة العدو، وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب، وللناس إذْ ذاك رغبةٌ في جهاد أعداء الله وإقامة دينه؛ [فـ]ـلا جَرَمَ (= لا شكّ) أنه كان لخدّام الأسطول حرمة ومكانة”؛ كما يقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.
ويفيدنا أبو الحسن الصابي (ت 448هـ/1057م) -في ‘تحفة الأمراء‘- بأنه في الثلث الأول من القرن الرابع/العاشر الميلادي كانت “أرزاق الملاحين في [مختلف أنواع السفن من] الطيارات والشذاءات (= جمع شَذاة: سفينة حربية) والسُّميريات (= جمع سُمَيرية: سفينة حربية صغيرة) والحَرَّاقات والزلالات (= زوارق سريعة) وزواريق المَعابر..: خمسمئة دينار (= اليوم 85 ألف دولار أميركي تقريبا) في كل شهر”.
ويروي ابن الأثير -في ‘الكامل‘- أنه في 269هـ/882م عبّأ قائدُ الجيش الأميرُ العباسي طلحةُ الموفَّقُ (ت 278هـ/891م) قواتِه البحريةَ لمقاتلة أصحاب ثورة الزنج جنوبي العراق، و”أحصِي ما في.. أنواع السفن فكانوا زهاء عشرة آلاف ملّاح ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة (= رواتب شهرية)، سوى سفن أهل العسكر التي يُحمل فيها الميرة ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد من السُّمَيْريات والحربيات والزواريق”.
ونجد أن العباسيين رتّبوا وظيفة خاصة اسمها “ولاية ثغر البحر” وبالغوا في العناية بأمرها، كما يتضح من نصّ قرار تعيين أحد الخلفاء العباسيين لأحد متولي هذا المنصب؛ فقد أورد قدامة بن جعفر (ت 337هـ/948م) هذا القرار في ‘الخراج وصناعة الكتابة‘، وجاء فيه: “وأمرَه أن يتفقَّد أمر المراكب المنشأة حتى يُحْكمها ويجوّد آلاتها، ويتخيّر الصُّناع لها، ويُشرف على ما كان منها في الموانئ..، وأمره ألّا يُدخل في.. ذوي الصناعات والمهن في المراكب إلا مَن كان طِبًّا (= خبيرا) ماهرًا، حاذقا صبورا مُعالجا، وأن يكون مَن يحمله معه في المراكب أفاضل الجند.. أصدق نية واحتسابا وجرأة على العدوّ”.
وبحلول نهايات القرن السادس/الـ12 الميلادي؛ وصف كاتب المالية والحربية الأسعد ابن مَـمّاتي (ت 606هـ/1209م) -في ‘قوانين الدواوين‘- أحوال الشؤون البحرية بمصر الأيوبية وأهم أحواض صناعة سفنها؛ فقال إن “صناعة العمائر (= جمع عمارة: الأسطول) فيها تنشأ المراكب المذكورة، ولها مستخدَمون يستدعون ما يُحتاج إليه، ويُطلقُ لهم المال والأصناف، ويُسترفعُ منهم الحُسبانات (= تقارير الحسابات) وفيها ما يُباع من حُطام وغيره وتُردّ حسباناتهم، والصناعات (= دور صناعة السفن) الآن ثلاثة: بمصر (= القاهرة) والإسكندرية ودمياط”.
وفي العصر المملوكي نرى القلقشندي (ت 821هـ/1418م) يتحدث -في ‘صبح الأعشى‘- عن إداراة حكومية تسمى “ديوان الجهاد”؛ فيقول إنها “ديوان العمائر (= الأساطيل) وكان محله بـ‘الصناعة‘ بمصر، وفيه إنشاء المراكب للأسطول وحمل الغلال السلطانية والأحطاب (= الأخشاب) وغيرها، ومنه يُنفق على رؤساء المراكب ورجالها، وإذا لم يفِ ارتفاقه (= مدخوله) بما يحتاج إليه استُدعي له من بيت المال (= الخزانة العامة) بما يكفيه”.
تنوّع وتخصص
أدّت أساطيل البحرية الإسلامية ببلاد الشام ومصر دَوْرًا محوريًا ومؤثرًا في مقاومة العدوان خلال عصر الحروب الصليبية (492-690هـ/1099-1291م)؛ ففي سنة 550هـ/1160م كان قائد الأسطول المصري الفاطمي أميرًا خبيرًا ضنّت علينا المصادر باسمه، إذ يذكر ابن القلانسي (ت 555هـ/1160م) -في ‘تاريخ دمشق‘- أن وزير الفاطميين طلائع بن رُزِّيك الأرمني (ت 556هـ/1161م) “ارتضَى لتولية (= قيادة) الأسطول المصري مُقدَّمًا مِن البحرية شديد البأس بصيراً بأشغال البحر”!
وقد تنوعت فئات السفن التي استخدمها المسلمون في أساطيلهم الحربية والتجارية وحتى في مجالات السياحة والمواصلات، فخصصوا لكل طبقة من الناس ما يلائمها من المراكب البحرية، وأفردوا لكل ميدان ما يناسبه من السفن المتعددة الأشكال والأحجام، والمختلفة الأهداف والوظائف، والمتفاوتة السرعات والقدرات والتجهيزات.
وكما كان لعامة الناس سفنٌ لأسفارهم وتنقلاتهم؛ فقد خُصّص لعلية القوم من الأمراء والوزراء والولاة وكبار التجار سفنهم المجهزة بما يناسب مراتبهم من الأبهة ومرافق الراحة، ولذلك يحدثنا ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) -في رحلته- عن وجود أنواع من السفن مخصصة “للسلطان والرعية”، ويذكر أنه انتقى لنفسه في إحدى رحلاته الدبلوماسية “مركبا حسنا من المراكب المعدة لركوب الأمراء”.
وكان نشاط النقل بالسفن -تجارةً وسياحةً- ذا أرباح طائلة؛ فقد كان الناس يستخدمونها في التحرك خلال مناشطهم اليومية وفي متنزهاتهم الخاصة، فحين تعرض أبو الحسن الشابُشْتي (ت 388هـ/999م) -في كتابه ‘الديارات‘- للحديث عن “عيد دَيْرِ أشموني” المسيحي بالعراق وصفه بأنه “من الأيام العظيمة ببغداد، [إذ] يجتمع أهلها إليه كاجتماعهم إلى بعض أعيادهم، ولا يبقى أحد من أهل التطرب واللعب إلا خرج إليه، فمنهم في [سفن] الطيارات ومنهم في الزبازب والسُّميريات، كل إنسان بحسب قدرته”!
ويورد الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- معطيات عن مداخيل خدمات النقل البحري بالعراق؛ فيقول إنه “أحصِيت السُّميريات المعبرانيات (= المُعَدِّيات) بدجلة في أيام.. [الأمير العباسي] طلحة الموفَّق (ت 278هـ/891م) فكانت ثلاثين ألفا، قُدِّر مِن كسب ملّاحيها في كل يوم تسعون ألف درهم (= اليوم 110 آلاف دولار أميركي تقريبا)”! وحين سجّل الرحالة ابن بطوطة مشاهداته بمصر قال “إن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفا للسلطان والرعية، تمرُّ صاعدةً إلى الصعيد ومنحدِرةً إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق”!!
وبالنسبة لأصناف السفن؛ فإن من أهمها المراكب الحربية التي تعددت مهامُّها وأحجامُها كما نجده في نص للنويري الإسكندراني (ت بعد 775هـ/1372م) في ‘كتاب الإلمام‘، الذي تحدث فيه عن وقعة هجوم القبارصة على الإسكندرية سنة 767هـ/1366م، فذكر من صنوف السفن التي كانت تُستخدم في البحر المتوسط: “القراقير (= جمع قُرْقُور: السفينة العظيمة أَو الطويلة)، والزوارق، والطرايد، والغربان، والشواني، والشياطي (= جمع شيطي)، والسلالير (= جمع سلورة: سفينة صغيرة للرُّماة)، والعُشاريات (= جمع عُشاري)”.
ثم فصّل النويري الاستخدامات المتنوعة لتلك السفن؛ فقال إن “لكل منها مكانته في الحرب ونقل الجيوش والخيول ووَسْق (= حمْل) البضائع ومُستلزمات الجند: والقراقير لحمل البضائع، ومنها ما هو بثلاثة ظهور (= طوابق) ولها ثلاثة قلاع (= جمع قَلْع: الشراع) تسير بها في الريح العاصف؛ وأما الطريدة فإنها مفتوحة المواخير (= الأبواب الخلفية) بأبواب تُفتح وتُغلق معدّة لحمل الخيل بسبب الحرب؛ وأما الغربان فتحمل الغُزاة (= الجنود) وسيْرها بالقَلْع والمجاذيف، ومنها ما له مئة وثمانون مجذافًا وأقل من ذلك”.
ويضيف النويري أن مركب “الشيطي يُجَرّ بثمانين مجذافًا ووظيفتُه المَيْنُ (= نقل المؤن)، ويَـرِدُ بالخبرِ (= سفينة استطلاع أمني) للقراقير والغربان وغيرها [من السفن]. وأما العُشاري فيُجَرّ بعشرين مجذافًا وهو الذي يُعدِّي بالبضائع والرجال من الساحل (إلى سفن العمق)؛ لأن القراقير لا تقف إلا في المكان الغزير الماء؛ والسلورة [حجمُها] بين الشيطي والعشاري. والقوارب نافعة لغُزاة المسلمين وقت الحرب في البحر، يكون في كل قارب أربعة أو خمسة من الرماة يعينون غربان المسلمين على القتال لغربان الفرنج وقراقيرها، وذلك بسرعة دَورانها وخفّتها على مراكب الفرنج”.
ثراء معجمي
وقد عرف المسلمون قبل ذلك “البوارج” البحرية المستخدمة في الحروب والتي أخذوا صناعتها من الهنود؛ فقد ذكر الطبري -في تاريخه- أنه في 251هـ/865م “دخل من البصرة [إلى بغداد] عشر سفائن بحرية تُسمّى ‘البوارج‘، في كل سفينة اشْتيام/اسْتيام (= رئيس الملّاحين)، وثلاثة نفّاطين، ونجّار، وخبّاز، وتسعة وثلاثون رجلا من الجذّافين والمقاتلة؛ فذلك في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا”.
كما عرف عصرهم السفن الحربية العملاقة كالتي ذكرها ابن الأثير حين سجّل واقعة استيلاء الأسطول الأيوبي على غريمه الفرنجي التابع لمملكة صقلية سنة 570هـ/1174م، رغم أن القوة البحرية الصقلية كانت “أسطولا كثيرا عدته مئتا ‘شيني‘ (= ‘شَوْنَةُ‘: السفينة الحربية) تحمل الرجالة، وست وثلاثون ‘طريدة‘ تحمل الخيل، وستة مراكب كبار تحمل آلة الحرب، وأربعون مركبا تحمل الأزواد، وفيها من الراجل خمسون ألفا، ومن الفرسان ألف وخمسمئة، منها خمسمئة تركُبُلي (= فرقة عسكرية بيزنطية من أصول تركية)”!!
وقد أدرك البحارة المسلمون طبيعة تضاريس كل بحر فاختاروا لها ما يناسبها من أنواع السفن؛ ولذلك كانت مراكب البحر الأحمر تختلف كلية عن سفن البحر المتوسط لكثرة الشعاب المرجانية والصخور في البحر الأحمر، ولبعده عن حركة سفن الأعداء الصليبيين.
وكانت أكثر مراكب هذا البحر تُسمّى “الجُلّاب” لنقل الحجّاج، وقد سافر فيها الرحالة الأندلسي ابن جبير (ت 614هـ/1217م) فوصف طريقة صناعتها قائلا: “والجُلّاب التي يُصرّفونها في هذا البحر الفرعوني مُلفَّقة الإنشاء، لا يُستعمل فيها مسمار ألبتة، إنما هي مُخيَّطة بأمراس (= حبال) من القَنبار (= فتائل تصنع من جوز الهند)”.
وإلى جانب ثراء معجم أسماء السفن بالمفردات؛ نجد طيفا واسعا من المسميات والمصطلحات المتعلقة بالسفينة ومتعلقات صناعتها والحياة داخلها في أعالي البحار؛ فابن منظور (ت 711هـ/1311م) -في ‘لسان العرب‘- يورد مصطلح “الجَلْفَطَةُ” باعتباره وصفا لعملية تركيب ألواح السفينة، فيقول إن “الجِلْفاط.. هو الذي يُجَلْفِطُ السفنَ فيُدخل بين مَسامِير الأَلواح وخُروزها مُشاقةَ الكَتّانِ ويمسَحُه بالزِّفْت والقارِ، وفعْلُه: الجَلْفَطةُ”.
كما يذكر مصطلح شحن السفينة قائلا: “الشَّحْنُ: مَلْؤُكَ السفينة وإِتْمامُك جِهازَها كله”، ويقول إن “المِيناء هو الموضع الذي تُرْفَأُ فيه السفنُ أَي تُجْمع وتُرْبَطُ”. ومن مصطلحات السفن الشائعة “الربّان” الذي يقول عنه مرتضى الزَّبيدي (ت 1205هـ/1790م) -في ‘تاج العروس‘- إنه “من يُجري السفينة”، أي قائد السفينة أو الرائس أو الريّس.
والربان يختلف عن النُّوخِذَة -أو الناخودة- الذي يُطلق غالبا على من يملك السفن لغرض التجارة أو النقل أو الصيد، وربما يكون ربّانًا أيضًا. وقد تعرّف ابن بطوطة في رحلته إلى الهند على أحد هؤلاء النواخذة كان يملك سفنا عديدة، فيقول عنه: “ومنهم الناخودة إبراهيم [بن خواجة بهرة] له ستة من المراكب مختصّة له”، كما التقى مع “الناخودة مثقال الشهير الاسم صاحب الأموال الطائلة والمراكب الكثيرة لتجارته بالهند والصين واليمن وفارس”!
مجتمع بحري
ونظرًا لطول زمن الأسفار والرحلات في البحار حتى إنها كانت تبلغ أسابيع بل أشهرًا أحيانا؛ فقد صمم المسلمون سفنًا عملاقة للتجارة والنقل زوّدوها بكل ما يضمن راحة ركابها وحاجياتهم التموينية، فكانت تحتوي على مرافق للنوم وأخرى للطبخ والاستحمام، وكان يخُصّص فيها قسم كبير لتخزين الطعام بما يكفي مئات الركاب، بل إن بعض السفن يكون متعدد الطبقات والأدوار فتصبح إحداها أشبه بمدينة عائمة، كما تتعدد البضائع والسلع المعروضة فيها للبيع للركاب فأنها سوق جامعة متنقلة!
ويحدثنا الرحالة ابن جبير الأندلسي عن مشاهداته لسير الحياة في هذه السفن العملاقة؛ فيقول إنه أثناء عودته من المشرق إلى الأندلس 581هـ/1185م على ظهر سفينة كبيرة “قلَّ الزادُ بأيدي الناس، لكنهم [كانوا] مِن هذا المركب -بمنة الله- في مدينة جامعة للمرافق، فكلُّ ما يُحتاج شراؤه يوجد: من خبز وماء ومن جميع الفواكه والأُدْم (= جمع إدامٍ)، كالرمان والسفرجل والبطيخ السندي والكمثرى..، والحمص والباقلاء -نَــيْئاً ومطبوخا- والبصل والثوم والتين والجبن والحوت، وغير ذلك مما يطول ذكره؛ عاينّا جميع ذلك يُباع” داخل السفينة!!
ويصف ابن بطوطة -في رحلته- سعة السفن في بحار الهند الإسلامية والصين فيقول إن بعضها يتكون من “أربعة ظهور (= طوابق)، ويكون فيه البيوت والمصاري (= جمع مصرية: جناح مفرد بمرافقه) والغرف للتجار، والمصرية منها يكون فيها البيوت والسنداس (= الحمّام)، وعليها المفتاح يسدها صاحبها ويحمل معه الجواري والنساء، وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف به غيره ممن يكون بالمركب..، و[رجال] البحرية يُسْكِنون فيها أولادهم ويزدرعون (= يزرعون) الخُضَر والبقول والزنجبيل في أحواض خشب”!!
وخوفا من ضياع الأموال والأمتعة؛ كان التجار والبحارة يوزعون أموالهم وتجارتهم على أكثر من سفينة عند الضرورة، فقد جاء عند الجاحظ (ت 255هـ/869م) في ‘البخلاء‘: “قال ابن سيرين (ت 110هـ/729م) لبعض البحريين: كيف تصنعون بأموالكم؟ قال: نُفرّقها في السفن فإن عُطِب بعضٌ سَلِم بعضٌ! ولولا أنّ السلامة أكثر لما حملنا خزائننا في البحر”.
وعلى ما تضمنته الأساطيل البحرية -مدنيةً وعسكريةً- من أسباب الراحة ووسائل الأمان؛ فإن حياة البحر اشتُهرت بالمغامرات والمنغصات وما يلاقيه أهله من أهوال طبيعية تتصل بظروف البحر وتقلبات الطقس، أو مخاطر بشرية كظاهرة الخطف والقرصنة. وقد دُوِّن حوادث ذلك في قصص رحلات البحار وأساطيرها، ونشأ عنه في الثقافة العربية لون من “الأدب البحري” كانت بدايته من شواطئ مدينة سيراف على الساحل الغربي لإيران؛ إذْ كانت مركزًا لتلاقي البحارة والتجار من مختلف الأجناس والأقطار.
ونجد أقدم هذه القصص في كتاب بعنوان ‘رحلة السيرافي‘ التي يرجع تاريخ جمعها إلى النصف الثاني من القرن الثالث/التاسع الميلادي، ويصف فيها التاجر سليمان السيرافي البصري (ت بعد 330هـ/942م) رحلته إلى الصين والحكايات التي سمعها من الربابنة العرب المسافرين بين البصرة والصين.
ويحدثنا السيرافي عن الأعاصير والزوابع التي كان يشاهدها الربابنة والنواخذة آنذاك في بحر الهند؛ فيقول: “ذكر لي جماعة من النواخذة أنهم ربما رأوا في هذا البحر سحابا أبيض قِطعاً صغارا، يخرج منه لسان أبيض طويل حتى يتّصلَ بماء البحر، فإذا اتصل به غلا البحر لذلك وارتفعت منه زوابع عظيمة لا تمرّ زوبعة منها بشيء إلا أتلفته”!
إرث معرفي
كانت حصيلةُ قرونٍ من ملاحة أساطيل المسلمين -في مياه مختلف البحار سِلْماً وحَرْباً وسياحةً وتجارةً- كافيةً ليراكموا تجارب ثرية، ويتركوا تراثًا ضخما في ميدان علوم البحار وفنون الملاحة؛ ولذا نجد الحسن بن عبد الله العباسي (ت 710هـ/1310م) يُفْرِدُ -في ‘آثار الأُوَّل‘- البابَ العاشر للكلام “في حروب البحر”، فيصف هذه الحروب ويعطي النصائح للقادة فيقول: “يجب على والي حرب البحر أن يستجيد المراكب ويستجدّها (= يصونها)، ويُكثر تقويتها وادّخار آلاتها، حتّى إذا تلف شيء من ذلك وجدَ ما يخلفه، ويحتاط في تقييرها (= طلاؤها بالقار: الزِّفت)..، ويستنخب (= يختار) القوّاد والرؤساء العارفين بمسالك البحر ومراسيه، وعلامات الرياح وتغيرات الأنواء والحركات البحرية من المدّ والجزر وغيره”.
ويكشف العباسي عن الأدوات والتكتيكات التي يجب استخدامها أثناء الصدام البحري مع العدو؛ فيوصي المحارب البحري بأن “يرمي في المراكب جِرار (= عُلَب) النُّورة (= مادة كيميائية) المدقوقة غير المطفأة؛ فإنها تعميهم بغبارها وتُلهب عليهم إذا تبدّدت (مثل الغاز المسيل للدموع)، ويرمي عليهم النفط، وقُدور الحيَّات والعقارب، وقدور الصابون اللين فإنّه يُزلّق أقدامهم، ويُعلّق حول المراكب الجلود واللُّبود المبلولة بالخَلّ أو الماءِ لدفع [نار] النفط، ويحترسُ من هجوم العدوّ عليه في الليل، فلا يتخذ في المراكب نارًا ولا يُشعل مصباحًا”.
ومن المصادر المهمة في حياة ومعارك البحر أيضًا كتاب ‘الأحكام الملوكية والضوابط الناموسية في فن القتال في البحر‘ لمحمـد بن منكلي الناصري (ت بعد 770هـ/1368م)، الذي كان أحد قادة الجيش المملوكي في عصر السلطان الأشرف شعبان (ت 778هـ/1376م)؛ فقد أفرد أبوابا لبيان الأزمنة المناسبة لصناعة السفن وأوقات إقلاعها ورسوّها، والأطعمة والأشربة التي يجب أن يتناولها راكب البحر قبل الرحيل وأثناء السفر حتى لا تُضار صحته؛ فيقول: “ينبغي أن يكون [الإنسان] عند ركوب البحر ممتلئًا من الطعام، فإذا حصل له القيء كان في معدته ما يستفرغه..، ثم يُقلل الغذاء بعد ذلك”!
وفي تاريخ الجغرافيا البحرية العربية نجد أخبارًا ومعارف متفرقة عن البحار وعلومها والملاحة وقواعدها، لاسيما ما يتعلق فيها بعلوم الفلك التي كان الربابنةُ يعرِفون بها المنازلَ والأبراج والتغيرات السماوية المتعلقة بمطالع ومغارب النجوم، والمواعيد المناسبة -من حيث حالة الطقس وجهات هبوب الرياح- للأسفار إقلاعاً ورُسُوًّا، وكانوا يعرفون ذلك بواسطة ما كان يُسمى بـ”علم الأنواء” وببعض آلات الرصد الجوي والفلكي.
استعان الربابنة والنواخذة بهذه المعارف الفلكية والجغرافية العربية واشتُهر بعضهم لخبرتهم وعلومهم؛ فهذا المسعودي يذكر -في ‘مروج الذهب‘- أن “عبد الله بن وزير (ت بعد 332هـ/944م) صاحب مدينة جَبَلَة [الشامية].. لم يبقَ في هذا الوقت (= 332هـ/944م).. أبصرُ منه في البحر الرومي (= البحر المتوسط) ولا أسنُّ منه، وليس فيمَن يَركبه مِن أصحاب المراكب الحربية والعمالة إلا وهو مُنقادٌ إلى قوله ويُقرّ له بالبصر والحِذْق، مع ما هو عليه من الديانة والجهاد القديم فيها”.
وقد توارث الربابنةُ والبحّارةُ مؤلفاتٍ وأراجيز تتضمن قواعد الإبحار وطرائقه ومُرشداته، ونجد أقدم إشارة لهذه المرشدات البحرية عند الرحالة الجغرافي الفقيه المقدسي البشاري (ت 380هـ/991م) في ‘أحسن التقاسيم‘؛ إذ يقول: “وأما أنا فسِرْتُ نحو ألفيْ فرسخ (9000 كم تقريبا) ودرتُ على الجزيرة [العربية] كلها من القُلْزُم (= البحر الأحمر) إلى عَبّادان (مدينة إيرانية شمال شرقي الخليج العربي)، سوى ما توَّهتْ بنا المراكبُ إلى جزائره (= المحيط الهندي) ولُجَجِه، وصاحبتُ مشايخ فيه وُلدوا ونشؤوا من ربَّانيين (= ربابنة)… ووكلاء وتجار، ورأيتُهم مِنْ أبصر الناس به..، ورأيتُ معهم دفاتر في ذلك يتدارسونها ويُعوّلون عليها ويعملون بما فيها”!!
ومن هذا المنطلق، كانت مهام الربابنة أو النواخذة محددة لها تقاليد وقواعد راسخة تتناقلها الأجيال، لكنها بلغت ذروتها مع أحمد بن ماجد النجدي (ت 906هـ/1501م) الملقب “أسد البحر” وكبير ربابنة العرب وأشهرهم، ومخترع البوصلة البحرية التي يسميها “الحُقّ” أو “الإبرة”. ففي كتابه ‘الفوائد في أصول علم البحر والقواعد‘؛ نراه يؤكد على الربابنة في معاينة السفن قبل أن تمخر البحار؛ فيقول مخاطبا الملاح: “تأمّل في السفنية وهي فوق الأرض واكتب جميع خللها، وقليلٌ في زمننا من يفعل ذلك..، وإذا ركبتَ فيها انصب عودًا وفيه خِرْقة لتعْرف [مهبّ] الريح”.
إسهام مؤثر
ثم يوجّه ابنُ ماجدٍ الربانَ بضرورة المكان الذي توضع فيه البوصلة خشية أن يكون في قاعدة السفينة ما يُخِلُّ باتزانها؛ فيقول: “جَلِّسْ ‘الحُقّة‘ في مكانها وتفقّد كلّ التفقّد أولاً في نصب الحقّة؛ لأن من المراكب ما يكون في نجارته خلل فيعدّي بك عن مجراك، فاستدرك الأمر بأوله”. كما ينصح الربابنةَ بسماع الآراء الحصيفة المخلصة والتحلي بالأخلاق الفاضلة، فهو يقول: “تفقّد جميع الركاب والعسكر، وتأمل نهوضهم لتكون عارفًا بهم عند الشر..، واسمع جميع أقوالهم وخذ مليحها ودع قبيحها، وكُن حازمًا قويًا في قولك لينَ الطبيعة”.
وإلى جانب البوصلة التي كان الربابنة المسلمون يحددون بها وجهة مسيرهم الصحيحة في مجاهيل البحار؛ امتلكوا أيضا مناظير رؤية يراقبون بها ما في مياه البحار من صخور وشعاب قد تضر جسم السفينة، ومنها تلك التي أشار إليها الحميري -في ‘الروض المعطار‘- قائلا إن “نواتية.. المراكب لهم آلات مُحْكَمَة موضوعة في أعلى الصاري (= الشراع) الذي يكون في مقدَّم المركب، فيجلس النوتيّ يُبصر ما لاح أمامه من التروش (= صخور البحر) التي تحت الماء مخفيةً، فيقول للماسك (بالمقود): خُذْ إليك وادْفع عنك! ولولا ذلك ما عَبَره أحد وآفاته كثيرة في المراكب، والمسافرون يأوون كل ليلة إلى مواضع يلجؤون إليها خوفا من معاطبه”!!
ويخبرنا قطب الدين النَّهْرَوَالي المكي (ت 990هـ/1582م) -في ‘البرق اليماني في الفتح العثماني‘- أن أحمد بن ماجد هو من ساعد المستكشف البرتغالي فاسكو دي غاما (ت 918هـ/1524م) على الوصول إلى الهند بدايات القرن العاشر الهجري/الـ16 الميلادي.
وفي ذلك يقول النَّهْرَوَالي: “واستمروا [أي البرتغاليين] على ذلك (= محاولتهم بلوغ الهند) مدة وهم يهلكون في ذلك المكان (= رأس الرجاء الصالح).. إلى أن خلص منهم غُراب (= سفينة حربية كبيرة) إلى بحر الهند..، [فـ]ـدلّهم شخص ماهر من أهل البحر يُقال له أحمد بن ماجد، صاحبَه كبيرُ الفرنج وكان يُقال له الأملندي (= ألميرانتي/ Almirante أي الأميرال البرتغالية)..، وقال لهم لا تقربوا الساحل من ذلك المكان وتوغّلوا في البحر ثم عُودوا فلا تنالكم الأمواج، فلما فعلوا ذلك صار يَسْلَمُ من الكسر كثير من مراكبهم فكثروا في بحر الهند”.
وإذا كان البحارة المسلمون ساعدوا فاسكو دي غاما في معرفة الطريق إلى الهند وجنوب شرق آسيا؛ فإنهم كذلك كانوا أول من رسم خريطة للعالم الجديد -في القرن العاشر/الـ16 الميلادي- تُضاهي في دقتها صور الأقمار الصناعية اليوم، ونقصد بذلك الخرائط التي رسمها الخرائطي والقائد البحري العثماني محيي الدين بيري ريِّس (ت 961هـ/1553م)، وهو ابن أخي قائد البحرية العثمانية كمال ريِّس (ت 917هـ/1511م) أحد الذين ساهموا في إنقاذ مسلمي الأندلس ونقلهم إلى سواحل الشمال الأفريقي والدولة العثمانية.
فقد كان أبرز ما جاء في خرائط بيري ريِّس -ولاسيما الخريطة الثانية التي رسمها وأهداها للسلطان سليمان القانوني (ت 974هـ/1566م) سنة 935هـ/1529م- أنه رسم قارات العالم الجديد حينها (الأميركتان الشمالية والجنوبية) بصورة مثيرة للدهشة، حتى إنه في 26 أغسطس/آب 1956م (1379هـ) عقدت جامعة جورج تاون الأميركية ندوة لمناقشة خرائط بيري ريّس، فاتفق كل العلماء الحاضرين على أن هذه الخرائط تتمتع “بصحة تُدهش العقل، [فهي] فوق مستوى عصرهـ[ـا] في علم الجغرافيا، وتفوق بكثير مستوى علم الجغرافيا لدى الغربيين” حينها؛ حسبما نقله يلماز أوزتونا (ت 1434هـ/2012م) في ‘تاريخ الدولة العثمانية‘.