ثقافة وفن

ماذا تعرف عن أَدب الرِّحلة؟

كان أدبُ الرِّحلة ومازال مَثَارَ اهتمامٍ لدى كثيرٍ من الدَّارسين والباحثين على مرِّ العصور، ومن مختلف المُنطلقات؛ الجغرافية والأنثروبولوجية والأدبيّة، وقارَبُوه بأساليبَ نقديّةٍ مُتَنوّعة، وفنُّ الرِّحلة فنٌّ مُوغِلٌ في الزَّمنِ والقِدَم، عرفته الشعوب قديمًا، وقد اشتُهِر به رجالٌ كثیرون أمثال ابنُ جُبَیر وابن بطّوطة وابن فضلان وغیرهم.

وعاءٌ معرفيّ وبساطٌ ثقافيّ

يُعدُّ أدب الرِّحلةِ وعاءً معرفيًا يضم مختلف أنواع الثقافة الإنسانية، وهو الوصفُ الأكثر تعبيرًا والأنسبُ معنى حين يتحدّثُ أحدٌ عن ترابطِ المجتمعات وتأثُّرها ببعضها، وتَلاقُحِ الحضارات واشتباك ثقافاتها. ففي أدبِ الرِّحلةِ مادّةٌ خصبةٌ لكلِّ المُهتمين بالتَّاريخِ، والنُّظم السِّياسيّة، وأنماط الحياة الاجتماعيّة، وقد رُصِدَت من خلاله آثارُ التَّمايُزِ والتَّأثّرِ والتَّأثيرِ بين الحَضاراتِ والشُّعوبِ، وما كُتبَ فيها يُعَدُّ وثائقَ إنسانيّةً مُهِمَّةً لِتبيانِ الحَقائِقِ والاطِّلاعِ على رَوافِدِ المَعْرِفةِ ومُخْرَجاتِها.

وأَدَبُ الرِّحلةِ من الفنونِ النَّثريَّةِ القَديمةِ التي عُنِي بها الباحثونَ والدَّارسون، فقد كانت وَسيلَةَ طَلَبِ العِلمِ من صُدورِ أهلِه، ومِعيارَ الحُكمِ على أهْليَّةِ العالِمِ وكفاءَتِه، وكانت وسيلةَ التَّعرُّف إلى مَواطِنِ البَشَرِ واختِلافِ ثقافاتِهم وأساليب حياتهم، والحَضاراتِ التي يَنحدِرون منها ويَنتمون إليها.

 

الرّحّالة؛ خلفيّاتهم واهتماماتهم

كان مُعْظمُ الرَّحالةِ من رِجالِ العِلمِ والدِّين، وكان منهم هُواةٌ طَوَّافون يدفعهم حبُّ المُغامرةِ إلى إزاحةِ النِّقابِ عمَّا خَفِي من مَجاهيلِ الأرضِ والنَّاس. كما اهتمَّ بعضُ الرَّحالَةِ بقضايا التَّوثيقِ التَّاريخيِّ واهتمَّ بعضُهم بالتَّقييدِ الجُغرافيِّ، فكانت رحلاتهم منطلقة من هذه الأهداف، وكان بعضُهم مَعْنِيًا بالتَّوثيق البَشَريِّ أو ما يُعرَفُ الآن بِـ (الأنثروبولوجيا) ويُعرَّبُ بقولِنا علم الإنسان، ويهتمُّ بنقلِ عادات السّكّانِ وأحوالهم النّفسية ونُظُمهم الاجتماعيّة، ومنهم مَن كان غَرَضُه التَّلاقحُ الحضاريّ ونقله للأجيالِ اللَّاحقةِ بالوصف والتّحرير.

 

وأيًّا ما كان الغَرَضُ فإنَّنا أمامَ فنٍّ نثريٍّ ثَريٍّ وحافلٍ بمُختلفِ الألوانِ والأَحوالِ الإنسانيّةِ وَصفًا وتَقْييدًا وتعبيرًا و بلاغةً، فقد قدَّمَ أدبُ الرَحلةِ مادَّةً غنيةً بالمَعلوماتِ المستندة إلى المُلاحظةِ الشَّخصيّة، وسَبَر كثيرًا من الأغوارِ السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، وانتهى إلينا هذا الفنُّ النَّثريُّ برحَّالةٍ أُدباءَ، نقلوا إلينا مشاهداتِهم وانعكاساتِها ورُؤاهُم وتحليلاتِهم لها بأسلوبٍ أدبيٍّ شائقٍ معتمدين فيه على القَصِّ والسَّرْدِ السَّلِسِ الذي يشدُّ انتباه القارئِ ويُحلِّقُ به بعيدًا في رحلة ذهنيةٍ مُتخيّلةٍ يرفُدُها الرَّحالةُ بالتَّفاصيل الماتعة.

 

أغراض أدب الرّحلة وتحوّلاته

كانت رحلةُ الحجِّ أكثرَ الرّحلاتِ التي عُنيَ بسَرْدِ تفاصيلِها في فترات الحُكْمِ الإسلاميِّ على امتِداد الزَّمنِ. أضفْ إلى ذلك الرّحلات التَّكليفية التي كان يُجْمَعُ العَزمُ للقيامِ بها لأغراضٍ سياسيةٍ وأداءِ مهمَّاتٍ رسميِّةٍ كتَفقّد الأحوالِ المَعيشية أو الاطمئنان على حال الثُّغور الحُدوديّة، أو جمعِ المعلومات الاستخباراتيّة، أو تقدير حجمِ الثّروات والضّرائب، وغير ذلك.

 

كَثُرت الرّحلاتُ بعد الفتوحِ الإسلاميّة، وتَرامتْ الأطرافُ بها بِقدْرِ انتِشارِ الإسلامِ وامتدادِ رُقعته الجُغرافيّة باتّساعِ الدّولةِ الإسلاميّة، حتَّى بلغت أوجَها في القرن الثّالث عشر، ونَتَج عن ذلك اتّساعُ آفاقِ الرّحّالين الفكريّة، وتَعاظُم أحاسيسهم بسببِ انتمائهم إلى ثقافةِ الفاتِح الغالِب المنتَصِر، لكنّ معظمَهم وَقَع في فَخِّ النَّمطيّة بالقياسِ إلى الأقوى أو السَّائد، وذلك في أحكامهم الصّادرة عمّا نقلوه ووصفوه من سلوكيّات النّاسِ المختلفة وطبائعهم، لكن ذلك لم يستمرّ طويلًا وفقًا لِدَورة الحياة وتغيّر الظروف، ففي القرن التّاسعِ عشر تحوّل الرّحّالةُ العربُ باتّجاه الغربِ وتبدّلت أحوالهم –مع الأسف- من كونهم الطّرف الأقوى والسّائد إلى كونهم الأضعف والمغلوب على أمره.

 

ماهيّة أدب الرّحلة

يرى بعضُ الدّارسين أنّ أدب الرّحلة من الآداب الشَّعبيّةِ، وحقيقةُ الأمرِ أنّه وإن ضمَّ عناصر التّراث الأدبيّ الشعبيّ، إلّا أنّه يزيدُ على كونِه منها بما يضمُّه من معانٍ وأفكار، وبما يلبسه من ثوب أدبيٍّ قَشِيب، فالسَّردُ فيه أساسُ غايتِه النَّقلُ والتَّعليمُ والتَّرشيدُ الثّقافيّ، والزَّمنُ فيه بين الحَدَثِ والكتابة والقراءةِ لا يُنْظَرُ إليه إلا بِعَينِ التَّخمُّرِ في قارورةِ الحِكمَةِ التي يرتوي بها القُرّاء في كلِّ زمانٍ ومكان، فهو الشكل الأدبي الذي وعى التّجربة وأحاط بها فتشكّلت بِنسقٍ ذي رؤية وموقف خاصّ.

 

بين الحقيقة والخيال

وتُقسم الرّحلاتُ إلى حقيقيّة وخياليّة؛ الواقعيّة منها تكون رحلاتٍ فعلیّة قام بها الرّحَّالة لِغرض من الأغراض، وهي ذات قیمة عظیمة لما تُسجّله من حقائق في الجوانب التّاریخیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة والثّقافِیّة والجُغرافِیّة، أشهرها رحلة الحج.

 

ومن هذا النّوع رحلة لسان الدِّين بن الخطيب التي دَوَّن فيها مُشاهدَاتِه حين رافق سلطان غرناطة أبا الحَجَّاج يوسف الأوَّل في رحلتِه الرَّسميةِ التَّفتيشية إلى مَقاطَعاتِ غرناطةَ الشَّرقيّة عام 748هـ، وكان وزيره آنذاك، والغرضُ من الرِّحلةِ كان تَفَقُّدَ أحوالِ الرَّعيّةِ والثُغورِ الشَّرقية لِمَمْلكةِ غَرناطة، وقد عَنْون رحلته بـ خَطْرَة الطَّيف في رحلة الشِّتاء والصّيف، وفي هذا العنوان مُفارَقة معنويّة تتجلَّى بما يُوحِيهِ قوله ( خَطْرَة الطَّيف) من كَونِ الرِّحلة أقربَ إلى الخيال منها إلى الواقع، فالخَطْرَةُ في اللُّغة هي ما يخطر في القلبِ، والطَّيفُ هو الخَيال أو ما يُطِيفُ بالإِنسان في المنام أو في أيِّ حالٍ لا يكون فيها بوعيه التّامّ، حتى إنَّ بعض أهل اللُّغة عَدُّوا الطَّيف من الجُنون، ثمَّ يُفاجِئُنا بِمفارقة تمزج بين خياليّة التّوقّع وواقعية الحَدَث، وذلك بقولِه: (في رِحلةِ الشِّتاءِ والصَّيف)، الذي جاء به لتوشيةِ ما كتبه بحُلَّةٍ إسلاميَّة قَشيبةٍ تتّكئ على إحدى آيات الذِّكر الحكيم، وقد يُفهم منها أنَّها إنَّما سيقت في غِمار رِحلةٍ حقيقيةٍ إلى أرض المَقْصَدِ لأداء فريضة الحجّ.

 

أمّا الرّحلات الخياليّة الذّهنيّة فهي أقرب إلى تلك الرّحلات التي يقوم بها المُتَصوِّفة، فيصعدون في أثنائها إلى عالمٍ سماويٍّ ينشدون فيه القُرْبَ والوِصالَ والسَّلام.

 

وأَيًّا ما كانت الرِّحلات التي تُطالعنا في الكتبِ فإنَّها بقايا أرواحٍ نَوَتْ وهَمَّتْ وقامتْ وشاهدتْ ودوَّنتْ ونَقَلت، لكن ماذا عنَّا؟ هل بدأنا رحلاتنا؟ رحلاتنا إلى أغوارِ النَّفسِ لسبرِها وفهمِها وتوجيهها ودفعها ولَفّها بأمان الطّريقِ وصِراطِه القَويم..

 

وماذا عنك؟ هل بدأت رحلتك أم ليس بعد؟

مقالات ذات صلة