ثقافة وفن

حدث في الذاكرة.. القاص والمسرحي السوري مصطفى تاج الدين الموسى وغرفة الأشباح والخذلان

في هذه الزاوية تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتّاب ليتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا أو مسرحيين أو مترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.

وفي الوقت ذاته، تعد هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع، لكي يتعرّف على جزء حميمي وربما سري لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.

ضيفنا اليوم القاص والمسرحي السوري -المقيم في تركيا- مصطفى تاج الدين الموسى، الذي ولد في إدلب عام 1981، ودرس في مدارسها، قبل أن ينتقل إلى دمشق العاصمة ليتخرج من قسم الإعلام في جامعتها.

قبل خروجه من سوريا إلى تركيا في 20 أبريل/نيسان 2014، كان الموسى مسؤول المكتب الثقافي والإعلامي، ومدير النادي السينمائي في فرع اتحاد الشباب الديمقراطي (إشدس) التابع للحزب الشيوعي السوري الموحد (2007). وخلال تواجده في تركيا صار عضوا في رابطة الكتاب السوريين المناهضة لنظام الأسد، وعمل محررًا في مجلة حنطة، ومحررًا للأخبار ومعدًّا لفقرات ثقافية وفنية تلفزيونية.

بعد مجموعته القصصية “قبو رطب لثلاثة رسامين”، صدرت عن دار بيت المواطن مجموعته الثانية “مزهرية من مجزرة” عام 2014، في حين أصدرت دار المتوسط مجموعته القصصية الثالثة عام 2015 بعنوان “الخوف في منتصف حقل واسع”، التي تجري ترجمتها حاليا إلى اللغة اليونانية.

في عام 2016، صدرت مجموعته القصصية “نصف ساعة احتضار” عن دار روايات، ثم صدرت مجموعته القصصية “آخر الأصدقاء لامرأة جميلة” عام 2017.

في حين صدرت مجموعته القصصية السادسة “ساعدونا على التخلص من الشعراء” عن دار نون العام الماضي، في الوقت الذي أصدرت فيه دار خطوط وظلال هذا العام مختارات من مجموعاته القصصية بعنوان “أغاني أخينا الكبير”. وفي هذا العام أيضا صدرت مختارات قصصية له باللغة الفرنسية عن دار “أكت سود” في باريس، وستصدر قريبًا مختارات من قصصه باللغات الإنجليزية والإيطالية واليابانية واليونانية.

بدأ الموسى إصداراته المسرحيّة كذلك مع فوز مسرحيته “صديقة النافذة” بجائزة الشارقة (2017)، لتتوالى إصداراته المسرحية “عندما توقف الزمن في القبو” (2016 – طبعة ثانية 2020)، و”رسائل إلى عامل المنجم”، و”الخادمة وعائلة الشعراء” اللتان صدرتا هذا العام عن دار نون في تركيا.

مصطفى تاج الدين الموسى، الذي كتب عن عمله القصصي وعرضت قصص له على خشبة المسرح، يعمل حاليا معدًّا للبرامج في راديو “الأورينت”. وهنا شهادته عن الأسئلة التي طرحتها عليه الجزيرة نت.

متأخر 10 سنوات

أشعر دائما، في كل ما فعلته، بأنني متأخر 10 سنوات، حتى عندما استطعتُ التحدث بشكل جيد وسليم، حدث هذا بعد 10 سنوات تقريبًا من العمر المناسب لأي طفل.

في طفولتي، وبسبب الأغاني المفضلة لدى أبي، كنتُ أظن أننا فلسطينيون أو عراقيون، وأن وديع حداد وجورج حبش وإيميل حبيبي وفرقة العاشقين وياس الخضر جيراننا. وبسبب أغاني أمي كنتُ أظن أننا لبنانيون؛ بسبب عازار حبيب ودورا البندلي، ثم اكتشفتُ عندما كبرتُ أننا سوريون؛ فما أصعب أن تكتشف -على كبر- أنك سوري.

كل الأغاني التي أحبها، والتي ورثتها عن عجوزين حاولتُ أن أقلدهما، أغان لعجوزين لا يشبهان جغرافيا “سايكس بيكو”؛ أحدهما مات، والآخر يموت الآن ببطء.

اختراع المآسي

عشتُ في عائلة ميسورة الحال حياة لطيفة وهادئة وجميلة نوعًا ما، في فيلا كبيرة بناها جدي منذ نصف قرن في حيّ راق. وفي المرحلة الثانوية تعرفت على الكثير من المراهقين الذين كانوا يكتبون، وكانت لكل مراهق منهم مأساة حياتية كبيرة: مشكلة مع الأهل، مشكلة دراسية، فقر، يتم، طلاق، تشرد…

وآنذاك كان يبدو لنا أن من لديه مآسي حياتية أكثر يكون نصّه أهم، ويصل للآخرين بشكل أفضل، واضطررتُ وقتها إلى اختراع مآسٍ عائلية فظيعة خاصة بي دعمًا لنصوصي التي كنتُ أكتبها آنذاك، ونشرت هذه الاختراعات بين أقراني، وعندما وصلت بعض هذه الاختراعات لأهلي تحجّجت بأن السبب هو “ضرورات الإبداع”.

أتساءل الآن، رغم أن حياتي آنذاك كانت أفضل بكثير من حياة أقراني من المراهقين الذين كانوا يكتبون: لماذا نصّي كان أكثر تعاسة من نصوصهم؟

اللعب مع الجدار

في طفولتي كنتُ أميل بشكل كبير للانعزال والانطواء، وكنت أعاني من الخجل بشكل غير طبيعي، ولا أجيد التكلم، وحاول أبي حل هذه المشكلة، لكنه فشل.

وكنت أترك أولاد الحارة وألعب وحيدًا بالكرة مع الجدار؛ أركل له الكرة فيركلها لي. وفي نهاية المرحلة الابتدائية استطعت نطق جملتين مفيدتين وواضحتين.

تأخرتُ سنوات حتى تعلمتُ التحدث بشكلٍ جيد مقارنة مع أبناء جيلي، لكن الأمر سوف يتحول للنقيض؛ لأنني في المرحلة الثانوية كنت أكثر الطلاب شغبًا، وكنت أحرضهم دائمًا على الأساتذة، وأحرضهم حتى على أهاليهم.

مرة قال لي والدي منزعجا: “يبدو أن ابن أبو محمود هو الولد الوحيد في الحارة الذي لم تعلمه بعد التدخين والمشروب والهرب من المدرسة”. كانت أمي أيضًا آنذاك تكافح ميولي للقراءة خوفًا على دراستي.

العتمة وشخصياتها

بنى جدي فيلا كبيرة بغرف كثيرة، وأنفق عليها كل ماله، فأفلس قبل الانتهاء من تجهيز الغرفة الأخيرة. بقيت الغرفة من دون بلاط ودهان وكهرباء، وبعد موت جدي حوّلت أمي الغرفة المهجورة والشاحبة في آخر البيت إلى مستودع مؤونة وكراكيب.

كنتُ في طفولتي -بعد نوم أفراد العائلة- أدخل بصمت وبشكلٍ سري هذه الغرفة المعتمة والكبيرة كل ليلة على ضوء شمعة أحملها بيدي، وأسافر فيها. أكتشف أشياءً وأشاهد أشخاصًا ونتحدث معًا. مرة عثرت على صرصار ميت فحفرتُ له قبرًا صغيرًا ودفنته بحزن.

كانت غرفة كبيرة تشبه المتاهة، مليئة بالأساطير، وعندما كبرت اكتشفتُ أن سبب كل تلك الأساطير هو عدم وجود لمبة فيها.

“قبو الفيلا” بيت مستقل، أخرجت أمي منه طالبات المعهد المستأجرات، وأعطتني إياه لتتخلص من مشاكلي. في هذا القبو، وخلال دراستي الإعدادية والثانوية، سيتطور تفكيري وشخصيتي قياسًا بمن هم في مثل عمري.

الخذلان

لم أقصد أن أتعب أمي في مراهقتي، ولكنني أتعبتها كثيرًا، والآن أخاف أن أتزوج فأُرزق بطفل يشبهني، أنا أفظع كارثة حدثت لي.

أيضًا في صغري تمنت أمي لو أصبح طبيبا، في حين تمنى أبي لو أكون كاتبا مثل حسيب كيالي، أما خالي فتمنى أن أصبح مثل “تشي جيفارا”. للأسف خذلتهم جميعًا، أنا عنوان كبير للخذلان بالنسبة للآخرين.

عندما كبرتُ صرتُ مصطفى، مجرد مصطفى.

في مراهقتي، وبسبب قراءتي، كانت لغتي جيدة قياسًا بالطلاب الذين في عمري. أصبحت أكتب لهم رسائل الحب للمراهقات في حارتنا مقابل السجائر. كتبت عشرات رسائل الحب للآخرين بأسماء الآخرين، ولم أكتب رسالة حب واحدة خاصة بي. كبرت وكتبت القصص.

المجموعة القصصية الثالثة للكاتب بعنوان “الخوف في منتصف حقل واسع” تحتوي على 99 قصة

لعبت مكتبة أبي دورًا مهمًّا أيضًا في تغيير حياتي؛ مكتبة هائلة ولدت قبلي بقليل وكبرنا معا، مكتبة فيها آلاف وآلاف الكتب، وحولها عشرات الصور لشخصيات مشهورة من العالم، باستثناء صورة لشخص واحد، عرفت من أبي أنه صديقه الذي ذهب في الثمانينيات إلى بيروت ليقاتل مع الفلسطينيين، ولم يعد حتى الآن.

الحكواتي

مرة، وعلى درج مدرستنا الإعدادية، بدأت أروي حكاية خيالية من بطولتي لبعض الطلاب من حولي، تشبه تقريبًا ألعاب “الأتاري” التي كانت منتشرة آنذاك، والتي تتألف من عدة مراحل. بدأ الطلاب الجلوس والإصغاء لي، وانضم لنا بعد ذلك عدد كبير من الطلاب، رنّ الجرس ولم ننتبه، خرج الأساتذة والمدير ليفهموا سبب عدم رجوع الطلاب للصفوف، وكانوا غاضبين. وعندما عثروا على الطلاب جالسين حولي يستمعون بإصغاء وشغف اقتربوا، واستمعوا لبقية الحكاية مبتسمين.

عملت ممثلا مسرحيا مع مخرج مسرحي كان صديقا لأبي، ولولا أنه صديق أبي لطردني من أول يوم. وعندما تأكدت من أنني ممثل فاشل قررت أن أكتب المسرح بدل التمثيل.

كل ما سبق هو مقتطفات قد تكون سخيفة، نقلتها على عجل من دفتر يحتوي على ملخص حياتي، كتبته منذ 7 سنوات تقريبًا، أظن أنني سأطبعه بعد 3 سنوات في رواية متواضعة، فكما قلت سابقا إنني متأخر 10 سنوات في كل شيء.

دائمًا أصل متأخرًا. في كل شيء أنا متأخر. كل ما أفعله كان يجب أن أفعله قبل 10 سنوات، حتى القميص الذي اشتريته اليوم كان مناسبًا أكثر لو اشتريته قبل 10 سنوات. لدي مشكلة في حياتي مساحتها 10 سنوات؛ ليس فقط في النطق، حتى أن كل كتاب طُبع لي كان يجب أن يطبع قبل عشر سنوات!

مقالات ذات صلة