ثقافة وفن

مقاهي القدس القديمة.. حلقات اجتماعية وثقافية ووطنية اندثرت وعاشت حكاياتها

اندثرت مقاهي القدس القديمة لكن حكايات روادها وذكرياتهم بها تُحييها دائما، فكانت ملاذ الرجال ومكانا معتمدا لعقد جلسات الصلح العشائرية، ومقرا للمثقفين ومنطلقا للحراك السياسي وتوزيع المنشورات.

ولعلّ مقهى زعترة -الذي يقع على يسار الزائر وهو يهبط سلالم باب العامود من الداخل- واحدا من أهم المقاهي التي انتهت مسيرتها بإغلاقها، وإبعاد صاحبه خليل زعترة الذي أكمل مسيرة والده في إدارة المقهى بعد رحيله.

بحثت الجزيرة نت عمّن كان هذا المقهى جزءا أصيلا من حياته اليومية، فتوجهت للممثل المسرحي حسام أبو عيشة الذي عمل والده صالح 39 عاما في مقهى زعترة قبل رحيله، وكانت وظيفته الأساسية إعداد “شيشة التمباك العجمي” لرواد المقهى.

حسام تحدث بإسهاب عن ذكرياته في المقهى التي عاشها من خلال مرافقة والده يوميا، والعمل مكانه في حال إصابته بوعكة صحية.

“كانت المقاهي تفتح أبوابها في البلدة القديمة بعد صلاة الفجر مباشرة، يستقبل والدي الزبائن بكأس من الشاي يضع داخله عشبة حصا البان التي يقطفها يوميا من باحات الأقصى فيجد كل زبون كوبه وبجواره القرشلة، يتناولون فطورهم ويمضون إلى أعمالهم وكنا نطلق لقب (مجانين القدس) على 8 رجال كانوا ينتظرون المقهى قبل فتح أبوابه كل يوم”.

تجارب يومية

39 عاما كان يتوجه بها والد حسام يوميا من منزله في حارة السعدية بالبلدة القديمة إلى المسجد الأقصى، ومن هناك إلى مقهى زعترة لممارسة عمله الذي تخلله الكثير من التجارب الحلوة والمرة حسب نجله.

عن الدور الوطني الذي كانت تلعبه المقاهي مما جعلها عرضة للتفتيش والتخريب والملاحقة التي وصلت حد إغلاق أبوابها نهائيا، قال حسام إن المنشورات كانت تصل المقهى فيحملها والده تحت الصينية ويضع للزبون فنجان القهوة وكأس الماء وأسفلهما المنشور بطريقة سلسة، حتى يقرأه الجميع.

مقهى زعترة في باب العامود من الداخل

الصحف والكتب أيضا كانت تُقرأ في المقاهي وتنتقل من زبون إلى آخر، وكان يُحرم على الشبان الذين لم يبلغوا من العمر 30 عاما دخول هذا المقهى الذي دخله حسام استثنائيا لوجود والده، وخزّن في ذاكرته على مدار عقود الكثير من القصص والذكريات.

لمشروبي الليمونادة والتمر الهندي اللذين يشتهر المقدسيون بإعدادهما نكهة خاصة في المقهى -حسب حسام- فكان يدخله جريا ليجرف بوعاء بلاستيكي كبير مربوط بسلسلة حديدية من المشروبين، ليروي عطشه وهو عائد من مدرسته الواقعة خارج سور القدس التاريخي.

ويذكر أن هذين المشروبين كان يوزعهما صاحب المقهى مجانا على نحو 400 رجل بعد إتمام صلح عشائري بين عائلتين متنازعتين “كان مخاتير قرى رام الله وبيت لحم يقصدون البلدة القديمة ويرتادون المقاهي ويعقدون فيها جلسات الصلح العشائري، وكان لكلمة هؤلاء وزن وهيبة كبيرة”.

اعلان

ختم أبو عيشة حديثه للجزيرة نت بالتطرق لطقوس المقاهي في شهر رمضان، إذ كان يتجمع المئات فيها للإنصات للحكواتي بعد صلاة التراويح والذي كان يتنقل من مقهى إلى آخر ليسرد قصته.

الممثل المسرحي المقدسي حسام أبو عيشة

“بعد الحكواتي كنا ننتظر الشيخ عبد الحميد حمود الذي يبدأ الأمسية بتهاليل للنقشبندي يتبعها بمدائح نبوية، ثم ينطلق بالعزف على العود وتصدح حنجرته بأغاني أم كلثوم، وعندما يأتي صوت القرآن الكريم الذي يسبق صلاة الفجر من المسجد الأقصى يدعو الجميع للتوجه لمنازلهم لتناول وجبة السحور والتهيؤ لأداء صلاة الفجر”.

تُغلق أبواب المقاهي لكنها تفتح شهية روادها وتبقيهم متحمسين لسماع بقية هذه الحكاية أو تلك في الأمسية التالية، وعلى رأسها حكاية “عنتر” و”أبو زيد” حسب المقدسي السبعيني يحيى شبانة الذي ما زال يبيع الصحف بالكشك الواقع بين مقهيي صيام وزعترة.

وقال شبانة إن الحكواتي كان جزءا لا يتجزأ من أجواء المقاهي في القدس قديما، وكان أحدهم من حارة السعدية والآخر مصري يعيش في القدس.

“كان رواد المقهيين يشترون الصحف اليومية مني، وكنت أبيع آلاف النسخ. لكنني لا أبيع اليوم سوى 80 نسخة مع اندثار المقاهي وروادها”.

المقاهي الثقافية

إضافة إلى المقاهي التي كان تحييها الروايات الشعبية و”الكراكوز” اشتهرت مقاه أخرى بالحلقات الثقافية، وأبرزها مقهى “الصعاليك” الواقع قرب باب الخليل أحد أبواب البلدة القديمة والذي افتتح عام 1918.

نجح هذا المقهى -وفقا لكتاب المشهد الحضاري في مدينة القدس- في جذب العشرات من مثقفي القدس من مشاهير الأدب والساسة، وأبرزهم خليل السكاكيني وخليل الخالدي وسعيد جار الله ونجيب نصار وبندلي الجوزي.

وواظب المقهى على عقد ندوة أدبية أسبوعية حملت اسم “حلقة الأربعاء” كان يحضرها العديد من الشخصيات الأدبية الفلسطينية والعربية.

اللافتة ما تزال صامدة رغم إغلاق المقهى في سبعينيات القرن الماضي (الجزيرة)

وشكل رواد هذا المقهى ما عرف قديما بحزب الصعاليك عام 1921، وأطلق السكاكيني هذا الاسم على المقهى الذي كان يعود حينها لمختار طائفة الروم الأرثوذكس “عيسى ميشيل الطبّة”.

وفي الكتاب ذاته للمؤلفين إسحق البديري وقاسم أبو حرب، ورد أن بداية ظهور المقاهي في مدينة القدس يعود إلى القرن 16 الميلادي حسب ما ورد في سجلات المحكمة الشرعية بالقدس.

وكان أول صانعي القهوة في المدينة المقدسة أحمد القهوجي، وكانت لهم نقابة حيث انتخب صلاح الدين درويش القهوجي شيخا على طائفة القهوجية عام 1590.

وأغلقت كافة مقاهي القدس القديمة أبوابها بشكل نهائي، وتحولت لتخصصات أخرى. لكن بقي مقهى صيام الواقع على مدخل سوق العطارين صامدا حتى اليوم، ويقصده الرواد يوميا من داخل البلدة القديمة وخارجها للاستمتاع بشيشة التمباك العجمي، لكنهم محرومون منها مؤقتا لإغلاق المقهى حاليا بسبب جائحة كورونا.

مقالات ذات صلة