ثقافة وفن

رحلة الشاعر والناقد العراقي حاتم الصكر مع العنوان

 

هل يستلهم الأدباء والكتاب عناوين أعمالهم من بين ثنايا السطور والنصوص التي ينجزونها، أم أنه ليس بالضرورة أن تأتي حرفيا من داخل النص الإبداعي؟ وهل يبدؤون بالعنوان أم يختمون به؟ وهل يقبل الأديب والكاتب أن يضع الناشر عنوانا لكتابه؟

وبما أن العنوان هو عتبة النص، فهل يمكن أن يوجد نص بلا عتبة، وكتاب بلا عنوان، أم أن ذلك متعذر؟ وما العناوين الأولى التي أثارت دهشة الكتاب العرب ولامست وترا في أرواحهم؟ وهل فكرة التناص في العنوان مقبولة، أم أن العنوان إذا وُضع يصير ملكية فكرية لكاتبه؟

الجزيرة نت تفتح هذه الزاوية الجديدة “رحلتي مع العنوان” التي يتحدث فيها أدباء وكتّاب عرب عن حكاياتهم مع “العنوان”، ورحلتهم معه كتابة وتلقيا، وهي محاولة لإفادة القارئ ببعض أسرار الكتابة.

ضيف حلقتنا لهذا اليوم هو الشاعر والناقد والأكاديمي العراقي المقيم في الولايات المتحدة حاتم الصكَر، الذي أثرى المكتبة العربية بأربع مجموعات شعرية و20 كتابا نقديا، في وقت يتواصل فيه مشروعه النقدي لا سيما ما يتعلق بنقد قصيدة النثر العربية والتنظير لها، وله أيضا مقاربات في السيرة الذاتية وتنويعاتها ونصوصها العربية، فإلى شهادته مباشرة.

ثريا تسطع على النص

في الأمثولة الشعبية المتداولة “الجواب أو المكتوب يبين من عنوانه”، أي بما خُطّ على غلاف الرسالة. ذلك درس متقدم في أهمية العنونة بوصفها جزءًا من موجّهات القراءة، وإعلانًا عن هوية الخطاب المتحكم فيها. فالمثل ينبه إلى الهيئة الخطيّة التي كُتب بها العنوان، وما تعكس من حالة مرسل الرسالة وما تخبّئ في داخلها من دلالات.

الرسالة والحالة هذه ممكنة القراءة بإجمال، أو باستباق النظر إلى عنوانها وهو غلاف هنا، لكنه يخبئ سرّ الرسالة ذاتها.

ليس لمولد العنوان موعد أو زمن. إنه الثريا التي تسطع على النص فتضيء مسالكه، وترشد إلى دلالاته ومراميه ومزاياه الفنية. أحيانا يولد أثناء ولادة العمل، وأحيانًا يسبقه كما يهيئ الأزواج المتعجلون ذريتهم بالتسمية. لكن تلك العملية تخضع حتما لعمل آليات لاشعورية تتحسس ما سيكون عليه العمل. لا أتحدث هنا عن حذلقات مصطنعة للإبهار -وهو من وظائف العنوان في دراسة موجهات القراءة وعتبات النص- فهي إلصاقية تستعير دون تدقيق في جماليات العنوان الممكنة.

وقد يكون تقليدًا لعمل أو تضمينًا لاسم قصد التثاقف والإعلان عن صلة متوهمة أو مفترضة بذلك المصدر الاسمي. في البال الآن عناوين فاقعة تضاف فيها الأشياء إلى مشاهير أجانب غالبًا.

لا أظن أن التسمية في الدراسات النقدية خاصة تسبق الكتابة، إلا إذا أراد الكاتب استخدام تسمية مباشرة تُفصح عن “موضوع” الكتاب. وإذ يطول التفكير بالعمل -أيًا كان جنسه- قبل الإنجاز، ويصبح للتسمية نصيب في خطة العمل وخطواتها وبنائها.

وقد يمارس الناشرون دور القابلة فيسمحون لأنفسهم بتغيير العناوين، يحدث هذا غالبًا في الصحافة الثقافية لا في الكتب. ويرى بعض ناشري الكتب أن من حقهم التدخل في العناوين لأغراض تجارية تسويقية أو تهربًا من سياط الرقابة وأعين الرقباء، وهم مجهضو النصوص إذا رضينا بوالدة للنص وقابلة له.

وديًا قد يتدخل الناشر الصديق، وقد كان أسلافنا الرواة والمحققون أكثر أريحية. فهم يتركون كتبهم غالبًا لا سيما ما تعلق بتحقيق ديوان أو روايةَ أخبارٍ بلا عنوان سوى الإسناد للشاعر. وتغلَّب أبو العلاء المعري ببصيرته المضافة بالاهتداء إلى دلالات أعماله وما يعبر عن محتواها ببلاغة. كما في عنونة ديوانه “سِقط الزَّند” الذي يضم قصائده الأولى التي لم يكن قد ترسخت فيها تمامًا رؤيته التشاؤمية اللاحقة، فأراد من قارئه أن يعامل القصائد وكأنها الشرر المتطاير من الزند قبل أن تشتعل النار، في حين يقدم عنوان ديوانه اللاحق “لزوم ما لا يلزم” رؤية فنية مشاكسة تفصح عن مضمونها بوصف العمل بأنه قائم على لزوم أشياء لا تلزم الشعراء، لكن المعري تقَيد بها توافقًا مع محابسه وسجونه التي وجد نفسه فيها، فالتزم بما لا يلزم سواه من التقفية التي تعدّت الحرف الأخير إلى عدة حروف.

مفارقات

الكتب التي لا تُعَنون تدعو للتأمل، فهي غالبًا ما تركها مؤلفوها كمحاضرات -ومحاورات أو خطاطات غير مكتملة-. والمفارقة أن ثمة كتبًا بلا مؤلفين على عظمتها مثل “ألف ليلة وليلة” و”رسائل إخوان الصفا”. في حين هناك مؤلفون بلا كتب (سقراط أشهرهم). ولكن الكتاب بلا عنوان مفارقة نادرة. أذكر هنا أن أبا اللسانيات الحديثة كما يعرف في العالم وهو فرنان دي سوسير لم يؤلف كتابًا، بل هي محاضرات في علم اللغة جمعها طلابه ونشروها من بعد. لذا وافق عنوانها حقيقة تأليفها “علم اللغة العام”.

في كتاب “الثمرة المحرمة” لحاتم الصكر يتناول الناقد العراقي قصيدة النثر فنيا وجماليا وعناصرها البنائية من خلال دواوين وقصائد 45 شاعرا مختارا

في النصوص التي تنشر اليوم كقصائد قصيرة جدًا أو شذرات وومضات وما ينشر في وسائط التواصل، يستغني عن عنونتها بعض الشعراء لأن هيئتها كمرسلات عبر الوسيط تكفي للتعريف بها. وهو نادر الحدوث وفي طريقه ليصبح موضة أيضًا أو مقترحًا لتجديد البنى النصية.

ولا يكون الأمر تناصًا، بل اتباعًا وتقليدًا. ومن ذلك شيوع العناوين التي تبدأ بـ”كتاب” مضافًا إلى اسم أو موضوع. وسادت “الكتب” في الشعر خاصة.

انتقال عدوى

وقد حصلت عدوى في نقد الشعر، فعنون النقاد كتبهم بعناوين تم ترحيلها من الخطاب الشعري، وقد يحصل التباس في بعض الحالات. فلم أفهم حتى اليوم المقصود بعنوان كتاب نقدي ممتاز بعنوان مثل “شجر الغابة الحجري” إلا بتأويل عدوى الشعر المدروس في الكتاب.

يقوم المتلقون أحيانًا بدور الناشر والقابلة. فيضعون للكتاب اسمًا يطغى على مسماه كما أراده مؤلفه. حصل هذا في كتاب ابن خلدون في التاريخ بعنوانه المطول المسجوع “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”. لم يحظ الكتاب باهتمام كبير، بل اقتصر أمر شهرته وانتشاره على مقدمته حتى صارت تؤخذ منفصلة وتعرف بالمقدمة.

وقد أجريت تجربة مع طلابي في الجامعة لاختبار ذاكرتهم في العناوين. فكان أكثر من نصفهم لا يتذكر عنوان كتاب ابن خلدون الذي تحدثنا عنه في المحاضرات، وقرأنا نصًا منه وحللناه.

في المقابل تذكر أغلبهم عنوان السياب “أنشودة المطر” لخفته واختصاره ولما فيه من شاعرية تجمع الأنشودة والمطر بالإضافة.

مجازفة بلاغية

الباحثة زهراء خالد في كتابها “عنونة الكتب النقدية عند حاتم الصكر.. دراسة تحليلية” (عمّان 2017، وهو في الأصل رسالة ماجستير نوقشت في جامعة الموصل) تذهب إلى أن عناوين كتبي النقدية من النوع الفني، معللة ذلك بالخلفية الشعرية.

والحق أن العنونة عندي مجازفة بلاغية إلا أنها تابعة لاعتقادي بأن النقدَ أدبٌ أولًا، وأن جماليات العنوان التي نبحث عنها في النص الشعري أو السردي هي ذاتها التي تتشكل في النص النقدي بتوسيع معنى النص. شخصيا غالبًا ما أزاوج بين الإيحاء بالمقصود أو رؤية الدراسة، والاستباق الصياغي للمحتوى والاتجاه المضموني في المادة النقدية.

وذلك جعلني أضع عناوين ثانوية تحت العنوان الرئيسي، ربما لشعور مني بأن العنوان الملغز لا يخدم المقاربة النقدية بما أنها حوار مع النصوص المنقودة.

“الأصابع في موقد الشعر”

كان أول كتبي النقدية “الأصابع في موقد الشعر.. مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة” (بغداد 1984)، يلخص رؤيتي لعملية القراءة النقدية للشعر. فشبّهتها في استعارة بلاغية بمدِّ الأصابع في موقد نار، فالأصابع هي الرؤية النقدية، والموقد هو ما تخفي القصيدة في طيّاتها، حيث تكمن في متنها المعروض للقراءة. وكما أن الموقد ربما يحرق أصابع مستخدمه خلال توغله فيه، كذلك يمكن لقراءة القصيدة أن تجلب العناء لقارئها بما تكتنز في طياتها من دلالات.

في كتابه “نقد الحداثة” يقدم الناقد العراقي حاتم الصكر تجارب الشعر العربي في علاقاتها بالحقب النقدية منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن

ولشعوري بالحاجة لإيضاح المقصود أضفت العنوان الجانبي، واصفًا عملي بأنه “مقدمات مقترَحة لقراءة القصيدة” اعتقادًا بأن ما نقدم من قراءات لا تُلزم سوانا، وأنها مقترحات معروضة للتحقق والتصديق والجدل، وإعلان مبكر أن القراءة هي الوصف المناسب لعمل الناقد أثناء تحليل النص، واستخلاص مزاياه وصلته بالنوع الشعري، وإضافاته أو تعديلاته الممكنة عليه.

وفي كتاب لاحق اخترت “ترويض النص” عنوانًا رئيسيا، لأني كنت مفتونًا برأي الناقد البريطاني تيري إيجلتون حول مهمة الناقد التي تشبه عمل المروّض الذي يعلم أن ما يروضه أقوى منه، لكنه يجب ألّا يدعه يدرك ذلك، بل يبتكر طرقًا لاستيعاب قوته واحتوائها. واحتاج عقد القراءة أو ميثاقها أن أضع عنوانًا ثانويا هو “دراسة للتحليل النصي في النقد المعاصر- إجراءات ومنهجيات”.. فكأن العناوين الثانوية أثمانٌ ندفعها عن انصياعنا للرغبة في التمثيل المجازي البليغ، وتأكيد أدبية النقد.

وقد تضاعف استخدامي للدلالات الإيحائية في العنونة حين نشرت كتابي عن قصيدة النثر “حُلم الفراشة”، وهو بحاجة لتفسير لا يمسك بفحواه إلا من يقرأ مقدمة الكتاب، فأضفت العنوان الجانبي تحته “الإيقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدة النثر” ليزيل غموض العنوان الذي عنيت به أن قصيدة النثر لم تعد في وعي كتابها تتميز بين كونها نثرًا أصبح شعراً أم شعرًا غدا نثرًا، في تناص مع الأسطورة الصينية التي تتحدث عن فتاة حلمت بأنها فراشة، ثم تماهت مع حلمها، فلم تعد تعرف حين استيقظت إن كانت فتاة حلمت بأنها فراشة أم فراشة حلمت بأنها فتاة.

“الثمرة المحرّمة”

وخلال عملي في اليمن، وصلتني إصدارات من زملاء عراقيين تناولتها نقديًا، ثم جمعت الدراسات في كتيب وأسميتها “بريد بغداد”، لأفاجأ بعد صدوره بأن ثمة عملا مترجمًا إلى العربية بهذا العنوان لم أطّلِع عليه. كانت دلالة العنوان إيحائية تربطني بكتّاب بلدي، وتبين أن تلك الرابطة تحولت إلى بريد يشدني بمحتواه.

وقد يعلن عنواني عن قناعاتي الاجتماعية كتسميتي لواحد من أواخر إصداراتي “الثمرة المحرمة”، وهو عن قصيدة النثر أيضًا. عبّرت فيه بمجازفة استعارية عن اعتقادي بأن قصيدة النثر ظلت الثمرة المحرمة في شجرة الشعر. وكان لا بد من عنوان جانبي يوضح المحتوى لأن جماليات العنوان يجب ألا تتسلل إلى محو موضوعه الذي يعد الإعلان عنه حقًا من حقوق القارئ، بموجب عقد أو ميثاق القراءة بين المتلقي والمؤلف. لذا أضفت عنوانا جانبيا هو “مقدمات نظرية وتطبيقات في قصيدة النثر”.

وظل العنوان موجهًا في الكتابة، ووسيلة تحليل وتأويل وتذوق جمالي في القراءة، وسيلة لا يجدي في تبريرها القول: لكل مخلوق من اسمه نصيب. فقد تبعد الرمية عن المرمى وتتغرب المسميات.

مقالات ذات صلة