مكالمة هاتفية تهدد بنسف العراق ومصالح أميركا في المنطقة
وصف دبلوماسي رفيع، الوضع الراهن بالعراق بأنه “يشبه سفينة تايتانيك بعد اصطدامها بالجليد لتبدأ المياه بالتدفق إلى جوفها، ونرى الزعماء العراقيين يتنافسون في إعادة ترتيب الكراسي متناسين بأن السفينة كلها ستغرق”. جاء هذا الوصف لأن الدبلوماسي الرفيع لا يعتقد أن قادة العراق يعملون بشكل جدي لإنقاذ العراق من الأزمات الخانقة، وأحد هذه الأزمات هو ما جاء في المكالمة المفاجئة بين وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، ورئيس الجمهورية برهم صالح، حيث أبلغ الوزير رئيس الجمهورية بأن الإدارة الأميركية على وشك اتخاذ قرار بغلق سفارتها في بغداد وانسحاب قواتها من العراق بسبب ما تتعرض له مصالحها الدبلوماسية والعسكرية من عمليات استهداف بصواريخ كاتيوشا وقذائف الهاون، فضلاً عن استهداف قوافل إمدادات التحالف الدولي بعبوات ناسفة على مختلف طرق تنقلها.
هذه المكالمة عكست تغييراً دراماتيكياً في موقف الإدارة الأميركية، وأثارت القلق على أكثر من صعيد، ولدى معظم المراقبين والباحثين في السياسية الأميركية في المنطقة عموماً والعراق بشكل خاص. مرد هذا القلق يعود لتوقيتها غير المتوقع، إلى جانب كونها تأتي بعد أسابيع قليلة من عودة رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي من زيارة واشنطن والمباحثات الاستراتيجية التي وصفت من كلا الطرفين الأميركي والعراقي بالناجحة.
ما الذي تغير؟!
شهد شهر أيلول الجاري وقبل أن ينتهي تعرض المنطقة الخضراء التي تضم مقر السفارة الأميركية إلى نحو 19 هجوماً بصواريخ كاتيوشا وقذائف الهاون، وبعضها بلغ أهدافه داخل محيط السفارة، مما عرض أرواح العاملين إلى مخاطر جدية. بالإضافة إلى 25 هجوماً بالعبوات الناسفة تعرضت له قوافل الدعم اللوجستي لقوات التحالف الدولي، فضلاً عن تعرض موكب البعثة الدبلوماسية البريطانية في بغداد لهجوم مباشر من دون وقوع خسائر بشرية، والخبير في السياسة الأميركية يعلم أن أي رئيس لا يمكنه المجازفة بمقتل أو إصابة أي مواطن أميركي بنيران معادية وهو على أعتاب الانتخابات الرئاسية. كذلك فإن استمرار تعرض مصالح الولايات المتحدة الأميركية لهجمات متتالية من دون رد، يزعج الكثيرين في واشنطن باعتبارها تمتلك القوة العسكرية الأكبر بالعالم.
تفيد مصادر موثوقة، بأن الجانب الأميركي حصل على معلومات استخباراتية حول الجماعات المسلحة التي تستهدف المصالح الأميركية بشكل متكرر وباتت تمتلك أسلحة متطورة بإمكانها إصابة الهدف بدقة أكبر، متوقعين بذلك تصعيداً في الهجمات الصاروخية في غضون الأيام والأسابيع القليلة القادمة بالتزامن مع موعد الانتخابات الأميركية.
ويتهم المصدر إيران بأنها وراء تسليح تلك الجماعات، بالرغم من نفي الجانب الإيراني بشكل معلن لأي دور لها بهذا الصدد، مكرراً دعمه المطلق لحكومة الكاظمي وأنها أي إيران لن تعطي الجانب الأميركي فرصة ضرب المصالح الإيرانية تحت هذه الذريعة.
وليس معلوماً إذا كانت المعلومات الاستخباراتية أم تكرار الهجمات هي الدافع الأساسي في تغير الموقف الأميركي بهذا الشكل اللافت ولكن ما يتم التأكيد عليه أنه موقف خطير وله مردود سلبي على أميركا والعراق في آن واحد، فالطرفان سيخسران الكثير من جراء القرار المفاجئ بالانسحاب.
مخاطر وتداعيات الانسحاب المحتملة على العراق
لا يمكننا التقليل من خطورة إقدام الإدارة الأميركية على تنفيذ تهديداتها بغلق السفارة وسحب القوات الأميركية، ومن ثم استهداف الجماعات المسلحة وقادتها، كون تداعياتها أخطر وأعمق من كل ما يجول في الأذهان، والتي يمكن تخمين أو توقع بعضها على النحو الآتي:
– غلق السفارة سيعني بشكل مباشر قطع العلاقة الدبلوماسية ولو من جانب واحد، بكل ما يترتب عليه من وقف كل أوجه التعاون السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي مع العراق.
– سحب القوات العسكرية يعني انسحاب كافة قوات التحالف الدولي، ووقف برامج الدعم والتسليح والتدريب والاستشارة، والأخطر من كل ذلك وقف الحرب على بقايا تنظيم داعش. علماً أن الموازنة الأميركية المخصصة في المجال العسكري والأمني تبلغ ما يقارب خمسة مليارات دولار.
– انسحاب المنظمات الخيرية المرتبطة بأميركا بشكل مباشر أو غير مباشر وهذا يعني إيقاف المساعدات الإنسانية والمالية بما يتعلق بمشاريع حملات إعادة البناء والإعمار وإعادة النازحين إلى ديارهم وإيقاف برامج عودة الإستقرار إلى المناطق المحررة.
– وقف التعاون الاقتصادي سيعني وقف تعاون كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع العراق، لأن للولايات المتحدة الأميركية اليد الطولى في توجيه سياساتهما في مختلف دول العالم.
– وقف الاستثمارات الأجنبية في العراق سيفضي إلى إحداث شلل كبير في معظم القطاعات الحيوية وفي مقدمتها قطاعات الطاقة، وكذلك إيقاف الدعم المالي البالغ نحو خمسة مليارات دولار من قبل بنك الصادرات الأميركي.
– إلغاء استثناء العراق من العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، لشراء واستيراد الغاز والكهرباء، مما يعني وضع العراق تحت طائلة تلك العقوبات، علماً بأن الأموال العراقية من مبيعات النفط والاحتياط المصرفي مودعة في حساب البنك الفيدرالي الأميركي.
– لجوء واشنطن إلى تقليل تدفق السيولة النقدية من الدولار للعراق، والذي سيفاقم الأزمة الاقتصادية الراهنة، كما أنه قد يدفع إلى تعويم الدينار وبالتالي فقدانه قوته الشرائية كما حصل خلال سنوات فرض الحصار الاقتصادي على العراق في تسعينيات القرن الماضي.
– تزايد الأطماع والتدخلات الإقليمية في العراق، كونه غير قادر على حماية حدوده ولا يملك غطاء دولياً يدرأ عنه مثل هذه الأطماع والتدخلات.
– تراجع الدعم الأممي للعراق، ممثلاً بتواجد ونشاط بعثة الأمم المتحدة العاملة في العراق، يونامي ويونيتاد، والدعم السنوي الكبير الذي تتلقاه الأمم المتحدة من الإدارة الأميركية لتنفيذ برامجها في العراق.
– الانسحاب الأميركي سيشجع دولاً أوربية وعالمية على الانسحاب خشية فقدانها لغطاء الحماية والدعم اللوجستي على الصعيد الأمني لبعثاتها العاملة في بغداد، والذي يوفره عادة التواجد الأميركي.
– مغادرة شركات الدعم اللوجستي المتواجدة لإسناد قوات التحالف الدولي والتي تقدر تعاقداتها سنوياً بمليارات الدولارات.
– إلغاء البرنامج الأميركي لمساعدة العراق والذي تبلغ ميزانيته خمسة مليارات دولار، ويشمل عدة قطاعات من بينها المساعدات العسكرية وعقود توريد الأسلحة والمعدات.
– توقف برنامج إدامة وصيانة طائرات إف-16 والدبابات الأميركية مما يفقد العراق قدرته الجوية ويشل من حركة سلاحه المدرع.
– وقف برامج التدريب والدعم الفني لقوات حلف شمالي الأطلسي (الناتو) بمختلف صنوفه وأسلحته وانسحاب البعثة الممثلة لهم.
مخاطر وتداعيات الانسحاب المحتملة على أميركا
إذا قررت أميركا الانسحاب من العراق دبلوماسياً وعسكرياً كما هدد وزير الخارجية الأميركي، فإن تداعيات مثل هذا القرار لن تكون سهلة على أميركا في المدى القريب والبعيد وفيما يلي بعض الخسائر المحتملة لها:
– الخروج من العراق معناه الاعتراف المباشر بفشل السياسة الأميركية في العراق بعد 17 عاماً من التواجد.
– احتمال عودة داعش وبقوة مرة أخرى وهذا يعني فشل الحرب الدولية على داعش بالرغم من الانتصارات التي حصلت في الماضي القريب.
– إيران ستملأ الفراغ الأمني بسرعة كبيرة وتصبح مهيمنة بقوة في جميع مناطق العراق من الشمال إلى الجنوب وسيكون بإمكانها تهديد المصالح الأميركية بشكل أقوى من ذي قبل في المنطقة.
– ستفقد أميركا سمعتها كدولة عظمى لأنها ستخرج مهزومة من العراق وسيعمل الجانب الإيراني على إعلان الفوز الساحق.
– يجب على أميركا إعادة تخطيط تواجدها في الشرق الأوسط برمته لأن انسحابهم سوف يؤثر على الخطط العسكرية والاستراتيجية التي رسموها للسنوات القادمة وكانت تضم تواجدهم في العراق.
– انسحاب القوات الأميركية من سوريا تماماً، حيث لن يكون بإمكان أميركا إبقاء هذه القوات من دون تواجدهم في قاعدة عين الأسد العراقية، وعليه يجب أن تختار أميركا بين البقاء في عين الأسد بعد انسحابهم الرسمي، وبالتالي خرق القانون الدولي، وبين الانسحاب من سوريا وهذا يعني الاعتراف بفشل السياسة الأميركية في سوريا أيضاً.
– ترك دولتين حيويتين مثل العراق وسوريا سيخلق شرخاً كبيراً في التواجد الجيوسياسي الأميركي في المنطقة والذي سيطول سنين عديدة لاستعادة الهيمنة فيها إذا فكروا في المستقبل الدخول مرة ثانية لهذه المناطق في حين أن دولاً أخرى مثل تركيا وروسيا وإيران سوف تعمل على ملء الفراغ.
– سيلجأ العراق إلى الصين وغيرها من الدول لإعادة ترتيب اقتصاده وطلب الدعم من تلك الدول المنافسة لأميركا وهذا بحد ذاته سيضعف الموقف الأميركي في المنطقة وفي صراعها القادم مع الصين.
– ستكون البوابة الشرقية السعودية والخليجية تحت التأثير الإيراني المباشر ولن يكون بإمكان أميركا إيقاف هذ التأثير إلا إذا كانت متواجدة في المنطقة، وعليه فإن السعودية والخليج ستكون محاصرة من اليمن والعراق.
تصدي الفاعل السياسي العراقي للمخاطر
ما أن أوصل رئيس الجمهورية رسالة وزير الخارجية إلى القيادات السياسية بشكل واضح، منبهاً إلى خطورة الوضع واحتمال تفاقمه، داعياً اياهم إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية العراق ومصالحه، حتى انهالت بيانات الاستنكار من معظم القادة، وحيث نالت هذه البيانات ترحاب الحكومة العراقية، فإنها بالنسبة للإدارة الأميركية لا تعدو عن كونها مجرد حبر على ورق ما لم تتبعها أفعال على الأرض تقلل من الهجمات التي يتعرضون لها، ويرجح المراقبون أن معالجة الخروقات الأمنية ليست بالأمر الصعب على الجهات المعنية إذا ما رافقها تعاضد سياسي من أهل الحل والعقد، أي قادة وزعماء القوى السياسية على مختلف اتجاهاتهم وتوجهاتهم، لدعم وإسناد الرئاسات العراقية.
ويجب على الحكومة ورئيس مجلس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة اتباع سياسة جادة وفعالة تتضمن معالجة المشاكل الأمنية والاقتصادية والمالية بشكل عاجل ومدروس، وقد نطرح بعض الحلول التي يمكن إيجازها بما يلي:
– إعتماد خطة عمل استراتيجية سريعة لتدارك الأخطار وطرح الخطة على القوى السياسية الرئيسة الممثلة لجميع المكونات وعدم حصرها بمكون واحد.
– إرسال وفد رفيع المستوى إلى إيران وإبلاغ قادتها بالتداعيات المترتبة على الانسحاب الأميركي من العراق وتأثيراته السلبية ليس على العراق فحسب بل على إيران بالدرجة الأساس، كون العراق يعد الشريك التجاري الأول لها، ومنفذها الوحيد لتدفق العملة الصعبة، وسوقها الذي تلتقط من خلاله أنفاسها الاقتصادية، ومطالبتهم بإيقاف دعم الفصائل والجماعات التي تستهدف المصالح الأجنبية داخل الأراضي العراقية.
– الإيعاز إلى الفصائل المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي لدعم جهد الحكومة في إيقاف الاعتداءات التي تحصل باسمهم وتحت راياتهم، والكشف عن هوية الضالعين بها وإعلان براءتهم منهم، كون الحشد الشعبي يتبع القيادة العامة للقوات المسلحة ويتقاضى منتسبوه رواتبهم من الحكومة.
– إعادة هيكلة الحشد الشعبي وضم جميع الفصائل إلى تشكيلاته، تمهيداً لوقف التعامل مع كل من يخرج عن سلطة الدولة تمهيداً لمحاسبته وفق القانون.
– إعادة النظر بالهيكل القتالي للقوات المسلحة وإخراج القوات القتالية بكل صنوفها ومسمياتها من داخل المدن كافة وفي مقدمتها العاصمة بغداد، وتسليم الملف الأمني لوزارة الداخلية.
– تشريع قانون صارم من مجلس النواب لتجريم ومعاقبة كل من يتعرض للبعثات الدبلوماسية في العراق، ويسيء لسمعة العراق ويعرض المصالح العليا للبلاد إلى الخطر.
– إعادة نشر القوات المسلحة بكافة تشكيلاتها وصنوفها عند الحدود الدولية مع الجوار الإقليمي وإقامة معسكرات الدعم الطارئ على مقربة منها، فضلاً على حماية حدود المحافظات ومحيط المدن الكبرى.
– تفعيل وتحديث جهاز حمايات مقار البعثات الدبلوماسية في وزارة الداخلية وتغذيته بخلايا الأمن والاستخبارات القادرة على توفير المعلومة والتحرك السريع عند الحاجة، ورفده بالأجهزة والمعدات اللازمة وتدريب ورفع كفاءة العاملين، لضمان توفير الحماية اللازمة لعمل هذه البعثات.
– حث الأجهزة الأمنية والاستخبارية على القيام بواجباتها على نحو كفوء وسريع ودقيق، وإعادة نشرها داخل العاصمة بغداد لرصد ومتابعة تحركات الجماعات العابثة بأمن العاصمة، والوصول لها قبل أي عميلة مسلحة تنوي القيام بها.
إن توفير الحماية الكافية للبعثات الدبلوماسية بشكل عام هو الضمان الوحيد لبقاء العراق ضمن محيطه الدولي، وإنقاذه من إلصاق تهمة الدولة المارقة بكيانه، وما يترتب عليه من عقوبات، حيث لم يعد الشعب قادراً على تحملها في ظل ما يعانيه على مختلف الأصعدة والمستويات.
ولا بد من التذكير بأننا قد نصبح ذات يوم وعلى نحو مفاجئ أمام خطوات غير متوقعة قد تقدم عليها بعض المحافظات وكذلك إقليم كوردستان إذا ما وجدت سلطاتها أن العاصمة بغداد أمست غير قادرة على الدفاع عن نفسها، أو نكون على حافة احتراب وتصادم القوى والفصائل المسلحة سواء فيما بينها أو مع الحكومة في ظل انتشار غير مسبوق لسلاح منفلت كان ومازال وسيبقى مهدداً كيان الدولة العراقية وسلمها الأهلي.
وعلينا أن لا ننسى أن الأزمة المالية الخانقة والتي تلتف حول عنق الاقتصاد العراقي، وهي تضيق الخناق في ظل غياب أي محاولة أو مبادرة للتصدي لها ومعالجة تداعياتها الخطيرة بالتزامن مع انتشار جائحة كورونا التي شلت أكبر الاقتصاديات العالمية.
إن صورة الوضع القائم تحيلنا فعلا إلى المشهد المأساوي لسفينة تايتانيك الأضخم والأشهر وهي تغرق بعد اصطدامها بجبل الجليد، فيما يلهث ركابها من الأثرياء للفوز بمقعد آمن لهم يدفع عنهم خطر الغرق من دون الالتفات إلى أن السفينة بكاملها تمضي نحو الغرق!