أسرار الطريق الصوفي.. كتاب يسبر أغوار الصوفيين في الأردن
رغم ثراء المكتبة الأردنية بالكتب والأبحاث المتعلقة بالحركات الإسلامية في المملكة الهاشمية، لكنها لم تتطرق لبحث مفصل يسبر أغوار الطريقة الصوفية الأردنية، ويقف على أدبياتها في الزوايا والحضرات.
وجاء كتاب “أسرار الطريق الصوفي” ليقدم مساهمة في دراسة مجتمع التصوّف والزوايا والحضرات في الأردن، وقد ألف الكتاب الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية محمد أبو رمان سعياً لاستكشاف المشهد الصوفي وتأثيراته في المجالات الحياتية والدينية المختلفة.
وأقامت مؤسسة عبد الحميد شومان، الذراع الثقافي والاجتماعي للبنك العربي، حفل إشهار للكتاب أمس الثلاثاء، بمشاركة سارة عبابنة رئيسة وحدة الدراسات السياسية والاجتماعية بمركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، والكاتب الصحفي علي عبيدات، ويوسف إبراهيم مدير برامج مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية في الأردن، وأدار الحفل الباحث خليل الزيود.
وأشار المشاركون إلى أن المؤلف يقدم في كتابه الجديد رصدا وتتبعا لأهل “العشق” من المريدين والشيوخ الأردنيين وأقطاب الصوفية الذين جاؤوا إلى الأردن ومعهم طرقهم، ولو لم يجدوا في المملكة بيئة روحانية بوسعها استيعاب الحالة الصوفية لما وفدوا وأقاموا وبعد ذلك صدروا هذا المسلك الإنساني ورياضته الروحية.
وقدم المؤلف على هامش الكتاب تبويب وتفصيل الأسماء والطرق والزوايا، وجملة من مصادر التلقي واصطلاحات المعجم الصوفي مثل الفناء والمعراج والبدل، بما تشمله من مقامات وأحوال وغيرها، مما اعتبر أنه يحتاج لكتب مستقلة لتفصيله وإسقاطه على الطريق الصوفي بكل مراحله.
ويقول أبو رمان للجزيرة نت “إننا أمام مؤشرات لموجة صوفية صاعدة في العالم العربي والعالم الإسلامي، وإقبال فئات من المجتمع على الروحانيات، علما بأن الصوفية تمثل أحد المذاهب الروحانية”.
نقص الدراسات
ويسعى المؤلف في كتابه لتحقيق عدة أهداف، أهمها معالجة حالة النقص في الدراسات المتخصصة بالتراث الصوفي في الأردن، وتغيير الصورة الذهنية عن الصوفية في المملكة والمتمثلة بالزوايا والحضرات والأفكار الدينية البسيطة، حيث يتم تناولها بنوع من التسطيح.
وهذا مغاير لحقيقة الأمر -يتابع أبو رمان- لأن الصوفية في الأردن لها حضور وتأثير مباشر وغير مباشر في مختلف جوانب الحياة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والدينية. ورغم أن الصوفية ليس لها مشروع سياسي واقتصادي خاص في الأردن بالنسبة للتصوف، فإن للعديد من الزوايا استقلالية حيث لها مواردها ومصادرها المالية وأسلوبها في الاعتماد على الذات بشكل كبير جدا.
وأشار أبو رمان إلى ندرة المكتوب عن الحالة الصوفية في الأردن رغم أن هناك إقبالا على التيار الصوفي والمذاهب الروحانية بتوجهات مختلفة، مشيراً لدراسة سابقة للباحث حسن أبو هنية عن الموضوع ذاته
واعتبر -في كلمته بالحفل- أن الإغلاق المرتبط بالجائحة ساعده على القراءة بشكل مكثف في أدبيات التصوف بعيداً عن التسطيح، مشيراً لعمله في الكتاب بين البحث النظري والميداني الذي شمل مقابلات لقادة الطرق الصوفية في المملكة، ولفت لكون تراث الصوفية في الأردن يغلب عليه الشفاهة لا التدوين.
وقال أبو رمان إنه فوجئ بأن المجتمع الصوفي في الأردن أكبر مما كان يظن، وهو أكثر تنوعاً وتجذراً ولديه سرديات وطرق ومشايخ مختلفة.
نقطة إشعاع
واللافت في المشهد الصوفي بالأردن -أبو رمان- أن حقبة الخمسينيات والستينيات كانت المملكة تستلهم الطرق الصوفية من دول الجوار فلسطين وسوريا والعراق ومصر وغيرها، وبعد ذلك أصبح الأردن نقطة إشعاع لانطلاق للطرق الصوفية التي تقوم بعملية الإرشاد خاصة الشاذلية والدرقاوية والباعلاوية، والخلوتية الجامعة الرحمانية، واليشرطية. وأصبح عدد من شيوخ التصوف في المملكة يحظون بمكانة دينية إقليمية ودولية، ولديهم عشرات الآلاف من الأتباع في العالم.
وفي مداخلاته، قال الباحث أبو هنية إن حركة التصوف في الأردن كانت محدودة، ولم تكن الزوايا الصوفية تضم سوى قرابة 15 شخصا على الأكثر حتى في الطرق واسعة الانتشار، لكن هذا المشهد تغير كثيراً مع تحول السياسات الدينية والظروف العالمية والحرب على الإرهاب وما بعد الربيع العربي الذي شهد التخلي عن السلفيات ومحاولة استعادة الحضور الصوفي.
وشدد على أن التصوف الليبرالي مرتبط بالسياسات الدولية، وقال إنه في سياسات واشنطن بالحرب الباردة تمكنت الخارجية الأميركية من إنشاء شبكة واسعة من المتصوفين الذين حاولوا تبني تصوف هندي وآسيوي يتوافق مع الليبرالية ومع السياسات الغربية، معتبراً أن ترجمة جلال الدين الرومي مرتبطة بهذا الاتجاه الإستراتيجي والسياسي، واعتبر أبو هنية -في المقابل- أن التصوف سابقاً لعب دوراً في مقاومة الاستعمار والسياسات الغربية.
وقال الباحث إن المهيمن على الدراسات الإسلاموية في الغرب هو اتجاهات ثقافوية استشراقية تقول إن الدين الإسلامي مرتبط بالعنف، وإنه جوهراني بلا فوارق، مؤكداً بالمقابل على جهود التعدد والتنوع داخل الحالة الإسلامية. وفي هذا السياق يأتي كتاب أبو رمان مسلطا الضوء على تحول السياسات الدينية بعيداً عن السلفية التي صارت مرفوضة حتى بموطنها السعودي.
بين الصوفية والسلفية
ويتضمن الكتاب 4 فصول، تناول الأول الدولة والمجتمع بين التصوف والسلفية، مقدما نبذة عن البيئة الأردنية الحاضنة للطرق الصوفية، ومعرجا على حالة الاستقطاب والتنافس بين المدرسة الصوفية صاحبة الطبيعة الأشعرية والمذهبية، وبين المدرسة الحديثة في ثمانينيات القرن الماضي والمتمثلة بالسلفية.
ويوضح أبو رمان في كتابه عوامل حولت السياسات الرسمية من حالة الحياد الديني -الذي التزمت به لعقود خلت، ثم انتقلت لتبني صيغة دينية وفقهية وفكرية معينة الفترة الأخيرة، تمثلت وبشكل غير مباشر باحتضان التصوف بمنظومته الأشعرية المذهبية، وذلك لأن العائلة الهاشمية تاريخيا وحاضرا أقرب للمدرسة الصوفية الأشعرية، ورافق ذلك إبعاد للتيار السلفي التقليدي الذي حظي بمنزلة مريحة لدى الدولة خلال مراحل سابقة.
خارطة طريق للصوفية
في الكتاب يعمل المؤلف على بناء خارطة طريق تدل القارئ على التسلسل التاريخي للصوفية في الأردن على مدى أكثر من 70 عاما، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ويقدم سردا لأجيال الرواد السابقين المؤسسين للطرق الصوفية، وصولا الى العمل المؤسسي الذي يقوم عليه الجيل الجديد من الشباب الصوفي، حيث نقل التصوف من الزوايا والحضرات إلى المعاهد والمدارس والجمعيات والعمل المؤسسي المشتبك مع المجتمع والمنفتح عليه.
وفي الفصل الثالث يسترسل في شرح ما يحتويه البيت الصوفي من الطريقة والزاوية والشيخ والحضرة وغيرها، ويقدم صورة عمّا يجري في جلسات الذكر، إلى جانب التعريف الموسع بالطريقة الشاذلية الأوسع انتشارا بالمملكة.
ويمنح المؤلف حصة كبيرة من كتابه لمدرسة العالم الأردني الشيخ الراحل نوح القضاة، ومن تبعه من أمثال الشيخ علي الفقير وعبد الله العزب وداود عبادي، ويعتبر ابو رمان مدرسة الشيخ نوح نموذجا للتصوف الأردني، خاصة وأن القوات المسلحة لعبت دورا رئيسيا وكبيرا في عملية التصوف، مستشهدا بمدرسة الشيخ نوح القضاة وغيره ممن لعبوا دورا كبيرا في عملية بناء الهوية الدينية للقوات المسلحة في مرحلة معينة.
ولم تغب المرأة عن فكر مشايخ الصوفية، فكان، لهن الحضرات وجلسات الذكر، ثم تطورت لجمعيات ومؤسسات الخاصة بهن مثل جمعية الطباعيات، وفق ابو رمان، الذي قدم في كتابه مبحثا خاصا بعنوان “الشيخات في الظل” رصد فيه حجم التصوف النسوي غير المرئي.