ثقافة وفن

هكذا عاشت بغداد عصرها الذهبي.. يوم تولى هارون الرشيد الخلافة العباسية

 

يعد من أشهر الخلفاء العباسيين، وبتوليه الحكم بدأ عصر ازدهارهم، الخليفة هارون الرشيد الذي تسلّم الخلافة في بغداد يوم 14 سبتمبر/أيلول 786م.

في ذلك اليوم دخلت الدولة العباسية عصرا جديدا شهد الكثير من الإنجازات. وازدهرت المنطقة الممتدة من وسط آسيا وحتى المحيط الأطلسي، ولمع نجمها في زمن خلافة الرشيد، حيث عرف باهتمامه بالعلماء والتزامه الديني، فضلا عن إنجازاته التي أسهمت في نماء المنطقة بأكملها، وازدهرت النشاطات الثقافية والإسلامية، ليطلق على ذلك “العصر الإسلامي الذهبي”.

النشأة والشخصية

هو هارون الرشيد الخليفة العباسي الخامس، ابن الخليفة المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي.

وتباينت المصادر التاريخية في ذكر عام ولادته، فقيل عام 146هـ، وقيل 147هـ، وقيل 148هـ -وهو الأرجح-، وقيل إنه ولد عام 150هـ، بحسب المؤرخ والأكاديمي العراقي بديع محمد إبراهيم.

ويضيف إبراهيم في حديثه للجزيرة نت أن الخليفة الرشيد نشأ في كنف والده الخليفة المهدي، فاهتم بتعليمه وتثقيفه، إذ تلقى تعليمه على يد كبار العلماء والأئمة الثقات.

ويعتقد أستاذ التاريخ بجامعة الأنبار أن تلقي الرشيد أصول التربية والنشأة على يد أولئك العلماء هو الذي أسهم في تكوين شخصيته وتكوينه العلمي والثقافي، مشيرا إلى أن هذه النشأة جعلت منه عالما بالأدب وأخبار العرب والفقه والحديث.

ويعتبر المؤرخ العراقي أن الخليفة المهدي عمد إلى تهيئة الرشيد ليكون خليفة بعد أخيه الهادي، إذ غرس فيه حب الجهاد، وأرسله إلى الفتوحات ومعه أكفأ قادة عصره، فعهد إليه بأعمال حربية جليلة ليتقوى وتتشكل شخصيته بالكيفية التي يستطيع بها تحمل أعباء الخلافة وإدارة أمورها.

ويقول الأكاديمي المتخصص في تاريخ المشرق الإسلامي خلال العصر العباسي عبد الستار مطلك إن هارون الرشيد نهل العلم في بداية شبابه على يد الكسائي، الذي عيّنه والده المهدي مدرسا يلازمه طيلة وقته وبقي معه طيلة حياته.

اعلان

ويضيف مطلك، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأنبار، في حديثه للجزيرة نت أن الرشيد تعلّم الأدب والنحو والفقه وغيرها من العلوم من الكسائي، وكان للمفضل الضبي -صاحب كتاب أمثال العرب- الأثر الكبير على شخصية الرشيد، فحفظ الكثير من الشعر والأدب والحكم والخطب، وصار عارفا بأيام العرب وأمثالهم.

حبه للعلماء

كان الخليفة الرشيد يحب العلماء والفقهاء لدرجة أنه إذا ذهب للحج يأخذ معه من الفقهاء 100 فقيه مع أبنائهم، بحسب الأكاديمي والباحث في التاريخ الإسلامي عمار مرضي.

ويضيف مرضي في حديثه للجزيرة نت أن الرشيد عند وفاة الإمام عبد الله بن المبارك جلس للعزاء وأمر الأعيان أن يعزّوه، كما كان يذهب إلى الفضيل بن عياض بنفسه ويسمع منه وعظه.

ويشير أستاذ التاريخ بالجامعة العراقية إلى أن الرشيد كانت له مجالس مع الكسائي والأصمعي، وليس أدل على ذلك عندما جعل أبا يوسف قاضيا للقضاة وطلب منه أن يؤلف كتابا في الخراج والعشور والصدقات والجوالي، فجاء كتاب الخراج على أحسن وجه.

خلافته وسياسته

بويع الرشيد للخلافة بعد وفاة أخيه الأكبر الخليفة موسى الهادي في ربيع الأول عام 170هـ (14 سبتمبر/أيلول 786م) بعهد من أبيه المهدي، وكان عمره 22 عاما. ويرى المؤرخون والباحثون أن مدة خلافته كانت من أعظم وأزهى ما مرت به الدولة الإسلامية في العصر العباسي.

وقد اتسمت سياسة الخليفة هارون الرشيد بفرض هيبة الخلافة وسلطانها على جميع أراضي الدولة، وواجه حركات عدة داخلية وخارجية كانت تعمل على تقويض أركان الخلافة، كان أبرزها ثورة الخوارج التي قادها الوليد بن طريف الشاري، وثورة يحيى بن عبد الله العلوي، وثورة خراسان، والنزاع بين القيسية واليمانية، بالإضافة إلى المعارضة العلوية، بحسب المؤرخ بديع محمد إبراهيم.

لماذا لقب بالرشيد؟

يقول مرضي إن الخليفة هارون سمي بالرشيد نتيجة لفتوحاته الكثيرة وبراعته القتالية وحكمته ورشده، وقيل إن أباه أطلق عليه اللقب في إحدى الغزوات مع الروم.

ويذكر الشيخ الطبري أن الخليفة هارون قاد حملة عسكرية ضد الروم يوم كان شابا، فعاد منتصرا فعيّنه وليا للعهد ولقبه بـ”الرشيد”.

ويضيف مرضي أن الرشيد غزا الروم وهو ابن 15 عاما في خلافة أبيه، فغزا القسطنطينية وصالحته الملكة إيريني وافتدت منه مملكتها بـ70 ألف دينار تبعث في كل عام إلى بغداد.

ويتابع الباحث في التاريخ الإسلامي أن من مآثره العسكرية أنه فصل الثغور الشامية عن الجزرية إلى منطقتين عسكريتين، وسمى الشامية بالعواصم، أي القلاع والمدن التي يعتصم بها الجند، وكانت العاصمة منبج، وكان غالبا ما يقود المعارك بنفسه.

من جانبه يؤكد مطلك أن الرشيد عرف بأنه كان يحج عاما ويغزو عاما، وقد استفتح عهده بغزوة سريعة على بلاد الروم ثم عاد منها إلى الحج.

بيت الحكمة

للخليفة هارون الرشيد إنجازات عظيمة ذكرها المؤرخون والباحثون، لعل أبرزها “بيت الحكمة”، إذ يؤكد مرضي أن هذه الدار تعد من مآثره العلمية، وأنها أول دار كتب عامة ظهرت في الإسلام، مشيرا إلى أن تلك الدار تطورت أكثر في خلافة ابنه المأمون.

ويضيف مرضي أن الرشيد أمر بجمع الكتب القديمة المختلفة والمخطوطات بمختلف اللغات على نطاق واسع، وجعل عليها مشرفين من العلماء، فقد كان يوحنا بن ماسويه مترجما للكتب القديمة التي وضعت في تلك الدار.

ويلفت إلى أن دار الحكمة قد أصبحت مركزا للبحث العلمي، وتنوعت أقسامها بين الترجمة والنسخ والتأليف والتجليد، وكان لها أثر كبير في نقل العلوم والحضارة.

ويؤكد ذلك مطلك، ويقول إن هارون الرشيد اهتم اهتماما بالغا بالعلم والثقافة، لافتا إلى أنه أسس بيت الحكمة ونقل إليه الكتب التي خزنها الخليفة المنصور في قصره.

عصر بغداد الذهبي

شهدت بغداد في عهد هارون الرشيد تطورا كبيرا في الجانب الحضاري وبناء المؤسسات، كما أصبحت قبلة طلاب العلم من مختلف بلدان العالم.

ويشير مطلك إلى أن سكان بغداد عاشوا خلال عهد الرشيد في مستوى اقتصادي واجتماعي مميز، وأصبحت بغداد واحدة من أبرز المدن المتحضرة.

ويتابع أن الرشيد أسس أكبر مكتبة عامة فتحت أبوابها أمام الدارسين والعلماء، وجلب إليها العديد من الكتب المؤلفة باللغة العربية، فضلا عن الكتب المؤلفة باللغات الأخرى، وقد أوكل إلى المترجمين ترجمتها إلى اللغة العربية.

ويستطرد مطلك قائلا “إن من أهم المؤلفات التي حوتها هي كتب الطب والفلسفة والفلك وكتب العلوم الإنسانية”، لافتا إلى أن الخليفة الرشيد أجزل على العاملين فيها بالهبات والعطايا.

ويضيف أن بغداد شهدت في عهده عددا كبيرا من الكتاتيب التي كان يتعلم فيها الصبيان، فضلا عن انتشار حلقات الوعظ والإرشاد ومجالس العلم، حتى جعل بغداد قبلة للعلماء وطلاب العلم.

وعن دعمه للمجال الطبي والعاملين فيه، يؤكد المختص بالتاريخ الإسلامي أن هارون الرشيد كان داعما للطب، وخصص رواتب شهرية للأطباء من أجل متابعة صحة مواطنيه.

ويلفت مطلك إلى أنه على الرغم من أن بغداد بناها الخليفة أبو جعفر المنصور، فإنها ارتبطت باسم الخليفة هارون الرشيد، وهذا عائد إلى أن مرحلة التطور والاتجاه نحو المدنية والرقي الحضاري والرفاه الذي عاش فيه الناس كان على عهد الرشيد حتى عرف عهده بالعصر الذهبي لمدينة بغداد.

ويؤكد المؤرخ إبراهيم أنه خلال حكم الرشيد بلغت الخلافة الإسلامية بوجه عام وعاصمتها بغداد بوجه خاص أوج مكانتها السياسية والحضارية، مبينا أنه قد هابها الأعداء وازدهر فيها الأدب والفن والعلوم المختلفة.

ويضيف أن أكابر الفقهاء والمحدثين والقراء توافدوا على بغداد، وكان يأتيها الأطباء والمهندسون من كل مكان، كما وفد إليها الشعراء والمترجمون والأدباء والمغنيون والموسيقيون.

ويشير إبراهيم إلى أن العلم ازدهر في تلك الفترة حتى أصبحت بغداد وجهة كل عالم وطالب علم، لافتا إلى أن إنشاء الخليفة هارون الرشيد لبيت الحكمة أسهم في تنشيط الحركة العلمية على أوسع نطاق.

من جانبه يؤكد الباحث مرضي أن بغداد اقترن اسمها باسم هارون الرشيد لأنها بلغت عصرها الذهبي في خلافته، فازدهرت المدينة وكملت الخلافة بعدله وتواضعه واهتمامه بالعلم والعلماء.

وقد ذكر ذلك الخطيب البغدادي بقوله “وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، إذ الدنيا قارة المضاجع دارة المراضع خصيبة المراتع، مورودة المشارع”، بحسب مرضي.

وفاته

لم يكمل الرشيد عقده الخامس من العمر حتى وافته المنية، ويذكر المؤرخون أن سبب وفاته علة في بطنه كان يخفيها عن الجميع حتى أقرب الناس إليه، وهم ولداه المأمون والأمين، وقد اضطر للخروج إلى خراسان للقضاء على تمرد رافع بن الليث، وفي طريقه شعر بقرب أجله واشتد به المرض، فكشف الأمر لأحد أصدقائه المقربين، فتوفي بمدينة طوس في بلاد فارس عام 193هـ/ 808م عن عمر 45 عاما.

 

المصدر: الجزيرة نت

مقالات ذات صلة