“تاريخنا ليس للبيع”.. سكان الأحياء التراثية في بيروت يريدون الترميم لا السماسرة
اشتهرت العاصمة اللبنانية بيروت بتمازج الطرز المعمارية، حيث تتجاور المباني العثمانية والعربية والعمارة الأوروبية الحديثة، وعرفت قديما المباني الرومانية والبيزنطية التي بقيت منها أعمدة تم اكتشافها تحت الأرض في قلب المدينة في مطلع ستينيات القرن الماضي.
لكن هذا التنوع المعماري والثقافي مهدد بالخطر بعد الانفجار الأخير، إذ حذرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) من أن 640 من الأبنية التراثية تضررت جراء الانفجار الذي ضرب بيروت يوم 4 أغسطس/آب الجاري، 60 منها معرضة للانهيار، مؤكدة أنها ستقود التحرك الدولي لإعادة إعمار تراث العاصمة اللبنانية.
المباني الأثرية
قدرت مديرية الآثار اللبنانية التكلفة الإجمالية الأولية لأعمال الإصلاح والترميم لهذه الأبنية، بما لا يقل عن 300 مليون دولار أميركي، لكن نقيب المهندسين في بيروت جاد ثابت، في حديث سابق للجزيرة نت، قدّر القيمة المالية الحقيقية لتكلفتها بثلاثة أضعاف المبلغ المُعلن “أيّ ما لا يقلّ عن 900 مليون دولار أميركي”.
وخلال زيارتها إلى بيروت بعد الانفجار، نبّهت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم “يونسكو” أودري أزولاي إلى أنّ عملية الترميم تتطلب وقتا طويلا ومئات ملايين الدولارات.
وقالت “من دون أحيائها التاريخية ومن دون مبتكريها، لن تكون بيروت (هي) بيروت”، محذرة من أنّ “روح” المدينة “على المحك”.
وبعد تداول أنباء عن عروض دولارية مغرية في ظل انهيار اقتصادي وتبخّر العملة الأميركية من الأسواق منذ أشهر، حذّرت مرجعيات سياسية ودينية من “سماسرة غربان” ينعقون فوق أحياء بيروت المنكوبة.
وأصدرت وزارة الثقافة اللبنانية قرارا بمنع بيع العقارات المتضررة إلا بعد الانتهاء من الترميم. كما منعت وزارة المالية بيع العقارات ذات الطابع التراثي والتاريخي إلا بعد أخذ موافقة وزارة الثقافة “منعا لاستغلال الحالة الراهنة للمناطق المنكوبة”، وعلقت على جدران عدد من المنازل، أوراق كتب عليها “بيتي ليس للبيع”، بحسب الوكالة الفرنسية.
ومنذ وقوع الانفجار، ينهمك أعضاء جمعية “أنقذوا تراث بيروت” في تقييم حالة الأبنية، وكذلك يفعل عشرات المهندسين المتطوعين من نقابة المهندسين أو من كبرى شركات الهندسة وجمعيات عدة.
“لن نبيع”
في منزله الذي دمّر انفجار بيروت واجهته ذات القناطر التقليدية وألحق ضررا بسقفه المرتفع، يقاوم بسام باسيلا ضغوطا يقول إنه يتعرّض لها من مالك برج مجاور لشراء عقاره الذي ورثه من عائلته.
ويتحدّث سكان ومهندسون ومسؤولون محليون عن سماسرة ومستثمرين يجولون في أحياء دمر الانفجار أبنيتها أو صدّعها، ويعرضون مبالغ مالية على أصحابها العاجزين -في معظمهم- عن ترميمها.
ويقول باسيلا “68 عاما” القاطن في الطابق الأول من مبنى تراثي عريق في محلة مونو شرق بيروت لوكالة الصحافة الفرنسية، “يحاول مالك عقار قربنا يملك برجا كبيرا.. أن يضغط عليّ لأبيعه البيت الذي أملكه حتى يهدمه” بهدف “بناء برج عال” مكانه.
ويروي باسيلا كيف رفض في وقت سابق عرضا مغريا قدّمه المستثمر لقاء بيع منزله الذي تبلغ مساحته 450 مترا. وكان هذا المستثمر نجح في شراء الطابق الأرضي من العقار ذاته. وقال له حينها “في النهاية.. ستغادر” المبنى.
ويمتنع الرجل اليوم، وفق باسيلا، عن “تدعيم الطابق السفلي”. ويضيف “إذا لم يفعل ذلك، قد يسقط منزلي… يُفترض به أن يدعّم المبنى”.
ثم يتابع بغضب “بعد الانفجار لم يسأل أحد عنا وكأننا غير موجودين”.
وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع على الانفجار المروّع، تفقدت منزل باسيلا مجموعة مهندسين متطوعين طمأنوه إلى أن بإمكانه البقاء في المنزل لكن ترميمه يتطلب وقتا، ولم يأت أحد من جانب السلطات.
وأطاح الانفجار بقناطر جميلة أصبحت أكواما من الحجارة، وتسبب بسقوط جزء من أرضية الشرفة، وبتصدّع سقف المنزل الذي يتجاوز ارتفاعه ستة أمتار.
ويقول باسيلا -وهو مصوّر فوتوغرافي سابق يعتاش اليوم من سيارة أجرة- “ولدت في هذا المنزل وولد أبي فيه من قبلي.. لا أستطيع العيش في بيت آخر”. ويضيف “إذا توفّرت المساعدات نستطيع الترميم، ومن دونها لا يمكننا ذلك”.
وتضمّ أحياء الجميزة ومار مخايل ومونو عشرات الأبنية التراثية التي تتميز إجمالا بمساحاتها الكبيرة وجدرانها المزخرفة وقناطرها الداخلية وسُقفها المرتفعة.
محاولات الترميم
وقال نقيب المهندسين جاد ثابت للجزيرة نت إن عمليات المسح الشاملة تظهر أنّ أبنية تراثية تضررت في هيكلها، وبدءًا من يوم الثلاثاء 18 أغسطس/آب، بدأت بلدية بيروت تقديم أرقام عقارات حول المباني الأثرية، من أجل إجراء دارسة أولية لتدعيمها، لأن ترميم المباني الأثرية قد يستغرق وقتًا طويلًا، وفي المرحلة الأولى تحتاج لتدعيم سريع، قبل حلول فصل الشتاء، كي لا تصبح في مرحلة أكثر خطورة”.
والترميم لا يمكن أن يحدث عشوائيا وسريعا، لأنه يحتاج لدراسة فنية متأنية ولدعم مالي ضخم، وفق ثابت الذي أضاف “بحسب قيمة التمويل الخارجي المخصص للترميم والبناء، يمكن الرهان على عودة بيروت إلى سابق عهدها، ولا سيما أنّ الناس في حالة اقتصادية صعبة والدولة مفلسة، وإن لم يحصل لبنان على تمويل خارجي، فلن يستطيع فعل شيء لإنقاذ أبنيته التراثية”.
هول كارثة الانفجار الذي لحق بأبنية بيروت التراثية، يتجلى في شوارع الجميزة ومحيطها، التي كانت تشبه في سحرها الأحياء الأوروبية القديمة.
وفي جولة على طول امتدادها المستطيل، تتكشّف آثار الضرر والدمار التي لحقت أبنيتها الحجرية العتيقة، على السقوف وزجاجها البلوري الملون والقناطر والشبابيك الخشبية وحدائد الشرفات المزخرفة.
إعادة الإعمار
بعد الحرب الأهلية (1975 – 1990)، تولّت شركة “سوليدير” الخاصة التي أنشاها رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري إعادة إعمار وسط بيروت الذي كان مدمرا.
وأثار ذلك انتقادات واسعة تناولت عملية شراء العقارات الجماعية بأسعار متدنية بالمقارنة مع ما صارت تساويه العقارات بعد الإعمار، واعتبار كثيرين أن عملية إعادة الإعمار لم تأخذ بالاعتبار روحية الأحياء القديمة، إنما تم تصميمها لجذب الاستثمارات والسياح والأغنياء.
وتم تصميم المنطقة الحديثة في وسط بيروت لتكون محايدة وتعبر عن الحنين إلى ماضي بيروت في الستينيات، وهي الحقبة التي وصفت فيها المدينة بأنها “باريس الشرق الأوسط”، وجرى ترميم مبان قديمة بكفاءة وعناية بأدق التفاصيل، وهو ما جلب التأييد لهذا المشروع الذي يمزج الأصالة التراثية بالحداثة الفنية.
ومع ذلك فإن الأسواق الجديدة وعلاماتها التجارية الشهيرة باتت “تشبه المراكز التجارية الأميركية بدلا من الأسواق العربية الشعبية”، بحسب وصف الأكاديمية في جامعة روسكيلد الدانماركية سون هاوغبول.
وفي دراسة له بعنوان “إعادة إحياء الذاكرة والحنين في لبنان ما بعد الحرب.. لماذا فشلت عملية إعادة إعمار سوليدير في وسط بيروت في بناء التوافق وإعادة دمج المجتمع اللبناني”، اعتبر الأكاديمي هادي مكارم أن السياسات النيوليبرالية التي جسدتها منطقة “سوليدير” أدت إلى تفويض المهام والمسؤوليات العامة للجهات الخاصة، في حين تراجعت الدولة والمؤسسات العامة إلى دور تيسير عمل الجهات الخاصة، وهو ما سبّب عواقب سلبية اقتصادية واجتماعية وسياسية على حد سواء.
في آخر شارع الجميزة، يقف آلان شاوول أمام مبنى يملكه وقد تضرّر بشدة قائلاً “جلّ ما أريده أن يعود منزلي كما كان”.
ثم يسأل بانفعال “ثمن بيتي 3 ملايين دولار.. كلفة ترميمه 200 ألف دولار وليس بحوزتي ليرة لإصلاحه، ماذا أفعل؟”.
وإذا ما كان البيع هو الحل؟ يجيب شاوول “هذا تاريخنا.. لا أبيعه”.
المصدر : الفرنسية