حول مقتل هشام الهاشمي
في 6 تمّوز/يوليو عام 2020، اغتيل أحد أبرز الخبراء الأمنيّين العراقيّين في حيّ زيونة في شرق بغداد، الذي يجمع بين طبقات اجتماعيّة مختلفة. وعند الساعة 8:19 مساءً، وصل الهاشمي إلى خارج منزله في سيّارته البيضاء من نوع SUV غير المحصّنة. وقبل ذلك بثوانٍ، رُكنت درّاجتان ناريّتان تحمل كلّ واحدة منهما رجلَين. وعلم الرجال بأنّ الهاشمي آتٍ وبأنّه سوف يركن سيّارتَه.
وقبل أن يقود الهاشمي سيّارتَه نحو مكانها المخصّص، كان أحد الرجال قد بدأ بإطلاق النار صوب الزجاج من جهة السائق، ثمّ اقترب من المركبة لينهي مهمّته بإطلاق طلقات نارية عدّة عبر الزجاج المحطّم. ثمّ وضع مطلق النار مسدّسه في مخزن مقعد الدرّاجة، وركب خلف السائق الذي كان ينتظره، وبعد ثوانٍ قليلة، بدأ سائقا الدرّاجة الثانية اللذان كانا يصوّران المشهد أو ربّما كانا بمثابة فريق أمني احتياطي، يقودان الدرّاجة للابتعاد عن موقع الجريمة. وشاهد أبناء الهاشمي الثلاثة أباهم يُجَر من السيّارة مضرّجًا بالدماء وشبه ميت. وفارق الهاشمي الحياة في أحد المستشفيات بعد وقت وجيز.
وترك هشام زوجةً وأربعة أطفال وراءه، إلى جانب الأصدقاء العديدين من مختلف الانتماءات السياسيّة وفي مختلف أنحاء العالم. لقد عرفته لمدّة 6 سنوات تقريبًا. وفي البداية، كان هشام لغزًا إلى حدٍّ ما بالنسبة إلي: فهو محلّل أمني عراقي له معارف كثيرة، ويتميّز بأخلاقيات مهنية متينة وغرائز تحليلية جيّدة – وهو مزيج قوي ونادر جدًّا.
وكان هشام سجين سابق في معسكر بوكا، وهو مركز اعتقال أمريكي في العراق. ورأى هشام بعضًا من التمرّد العراقي من الداخل، لكن مدى عمق تورّطه لم يكن يومًا واضحًا. لقد درس هشام تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وكانت تحليلاته محطّ اهتمام لدى مراكز الأبحاث والمشاريع البحثية المموَّلَة مِن المنح لأنّه أضاف رأيًا عراقيًّا على موضوع كان ولا يزال يسيطر عليه باحثون غير عراقيّين.
ومن أكثر الجوانب المثيرة للفضول في أعماله تعاطيه مع “قوات الحشد الشعبي”. فبعد سقوط الموصل، كان هشام فخورًا بـ”قوات الحشد الشعبي” واعتبرها جزءًا من الجهود العراقية والدولية المنسَّقَة بشكلٍ يفتقر إلى الدقّة والموجَّهَة نحو دحر “الدولة الإسلامية”. وقد حصل على مقابلات مع كبار قادة “قوات الحشد الشعبي”، بمَن فيهم أبو مهدي المهندس المدرَج على قائمة الإرهاب الأمريكية.
وبصفتي أمريكيًّا، لم تكن لدي أي رغبة في إجراء مقابلة مع المهندس (ولكان الهامش القانوني لذلك موضع شكّ)، لذا كنتُ مفتونًا بقراءة كتابات هشام حول مستوى التفكير الرفيع داخل “قوات الحشد الشعبي”. وكان من الصعب عدم الشعور بالغيرة حيال قدرته على الوصول إلى الأفراد، لكنّه كان من المستحيل أيضًا مقاومة سحره الفائض وطبيعته الكريمة.
وبعد هزيمة الخلافة الإقليمية لـ”الدولة الإسلاميّة” في العراق في عام 2017، شعرتُ بتغيّر تدريجي في نظرة هشام إلى المهندس والمجموعات المدعومة من إيران داخل “قوات الحشد الشعبي”. فلطالما علم بعلاقاتها مع إيران، وبتصرّفها مثل العصابات، وبهجماتها على المدنيّين من الطائفة السنيّة (كان هشام من خلفية سنيّة، لكن هذا لا يتّسم بالأهمية). وبعد استعادة جميع مدن العراق، بدأ هشام يشعر – كما فعل الكثير من العراقيّين – بأنّ سمعة “الحشد الشعبي” تضرّرت بسبب ميليشيات المهندس المدعومة من إيران. وكان هشام مدافعًا عن “تطبيع” “قوات الحشد الشعبي” تحت سيطرة الدولة، وساعدت طريقة التفكير التي اعتمدها العراقَ وشركاءَه من مقدمي المساعدات على تصوّر كيف يمكن أن تساعد الإصلاحات في القطاع الأمني على وضع الأسلحة تحت سيطرة الدولة.
وأصبح هذا الموقف القومي العراقي موقفًا يزداد حدّةً بعد أن بدأت العناصر المدعومة من إيران داخل “قوات الحشد الشعبي” بقتل عشرات الشباب من المتظاهرين العراقيّين في تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2019. ولقد صُعقتُ بالتغيير الذي حلّ بنبرة هشام، على الصعيد الشخصي وفي تغريداته الكثيرة على موقع تويتر. وكونه صحفيًّا وأبًا لأربعة أطفال تقلّ أعمارهم بـ 10 سنوات عن أعمار المتظاهرين الذين يُقتَلون، ذهب هشام “إلى أقصى الحدود” في كتاباته عن المظاهرات. ولقد تخلّى عن الحيطة والحذر عندما أدارت الميليشيات حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.
وفي تلك الفترة، تساءلتُ عن مدّة استمراره. فقد بدتْ دعواته الصريحة بتقديم الميليشيات إلى العدالة جريئة وبارزة للغاية بحيث لا يمكن الردّ عليها إلّا بعنف. وحتّى اللحظة الأخيرة، بقي هشام شجاعًا إلى حدّ التهوّر، على مستويَي أمنه الشخصي وكتاباته. وإذا كان يمكن التكلّم عن شهيد حيّ في العراق، يشعر مَن يراه بأنّه رجل ميت قادر على المشي منذ بداية المظاهرات، فهو هشام.
ولم يكن هشام عنصرًا من الحلقة المقرّبة لرئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي، لكنّهما كانا كاتبَين كلاهما حريصَين على مراقبة الساحة الأمنية العراقية، وكلاهما قوميّين عراقيّين أرادا وضع الأسلحة تحت سيطرة الدولة. وتعرّضا أيضًا للمضايقات والتهديدات الشديدة من قبل الميليشيات مثل “كتائب حزب الله”. وفي 26 حزيران/يونيو، ردّت “كتائب حزب الله” على اعتقال بعض من عناصرها عبر قيادة طابور مسلّح يتكوّن من 30 مركبة عبر المنطقة الخضراء، وهي الحيّ الحكومي والدبلوماسي في بغداد، في استعراض للقوّة يهدف إلى تخويف الكاظمي.
وأفادت التقارير إلى أنّ هشام تلقّى هو أيضًا تهديدًا من المتحدّث باسم “كتائب حزب الله” حسين مؤنس (أبو علي العسكري) في 3 تمّوز/يوليو، وذلك بحسب رسائل هاتفيّة رآها زميل هشام. في 5 تمّوز/يوليو، شجب هشام الميليشيات التي أطلقت صاروخًا على المنطقة الخضراء، أدّى إلى إصابة فتاة عراقية صغيرة. لقد رصدتُ طيلة 17 عامًا الميليشيات الشيعيّة التي تستهدف الأكاديميّين والدكاترة والصحفيّين والجنود العراقيّين في عمليّات قتل، وبرأيي، من الواضح أنّ “كتائب حزب الله” قتلت هشام لترسل رسالةً إلى حكومة الكاظمي وإلى المحلّلين السياسيّين العراقيّين الآخرين، ألا وهو: تراجعوا، وتوقّفوا عن محاولة وضع الأسلحة تحت سيطرة الدولة.
وأشادت “قريش”، وهي آلة إعلامية إسلامية تابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، بعمليّة قتل هشام لكنّها لم تتبنّاها. وهذه هي المرحلة التي وصلت إليها الأحداث في عراق اليوم: كلّ من “الدولة الإسلامية” وأعدائها المفترضين في “كتائب حزب الله” لديهم القوميّون العراقيّون نفسهم على قوائم المستهدفين. وأعجزُ عن التفكير في تأبين أفضل من لعنات “كتائب حزب الله” و”الدولة الإسلامية”. فإذا كان لا بدّ من النظر إلى سمعة أعداء أحدهم للحكم عليه، فكان هشام يسدي خدمة كبيرة إلى العراق وقت موته.
وكان المحتجّون والصحفيّون العراقيّون والوكالات الأمنيّة على معرفة جيّدة بهشام، مثل كلّ حكومات التحالف الدولي تقريبًا.
وإذا كان قتل هشام ممكنا، فإنه يمكن أن يُقتل أي شخص أخر في العراق اليوم. ومن ثم، فإن الرد الضعيف على تلك الحادثة قد يقنع المليشيات بأنها آمنة للذهاب أبعد من ذلك. وعلى الجميع، من كلّ الجوانب، أن يرفعوا أصواتهم ويبذلوا جهودًا للعثور على قتلة هشام وأولئك الذين قتلوا المتظاهرين والصحفيّين ولمحاكمتهم قبل أن يقتلوا المزيد من العراقيّين.
مايكل نايتس متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج.