صعود ليبرالي لافت على حساب الزعامات التقليدية
فرهاد علاءالدين
رئيس المجلس الإستشاري العراقي
شكلت تظاهرات تشرين الأول ٢٠١٩ نقطة تحول لافتة أفضت الى تغيير ملامح المشهد السياسي القائم منذ ٢٠٠٣ وحتى ماقبل إندلاع حركة الاحتجاج الشعبي في وسط وجنوب العراق. لذلك يكاد الجميع يتفق على أن عراق مابعد تشرين لن يكون عراق ما قبله، بالإشارة الى الاحداث الدامية والعنف المستخدم وسقوط مئات الضحايا وجرح الآلاف وإختفاء العشرات من الناشطين المدنيين، وما رافقها من توقف عجلة الحياة وشلل العملية السياسية، وبالتالي دفعت بحكومة عادل عبد المهدي الى تقديم استقالتها، ومجيء حكومة مصطفى الكاظمي.
يتفق المراقبون على ان الاحداث التي رافقت استقالة عبد المهدي وإختيار الكاظمي ساهمت بشكل كبير في إحداث تغييرات في الخارطة السياسية العراقية، عبر تفكك تحالفات قديمة وتشكل تحالفات جديدة، واتجاه الأنظار الى الانتخابات المرتقبة والتي سميت بالمبكرة في حين ان المؤشرات اللوجستية والسياسية تدل بأن الانتخابات القادمة ستكون محصورة بين شهر تشرين ٢٠٢١ ونيسان ٢٠٢٢ وعلى الأرجح في ٢٠٢٢ بحسب المدلولات القائمة. الساحة السياسية ستشهد بروز حركات وقوى جديدة في إطار تحالفات متوقعة، أغلبها تمثل التيارات المدنية والليبرالية بشكل عام، وقد ينقسم المشهد الى مجاميع مؤتلفة تجمع بين الجديد والقديم، لكنها ستتسم بتنافس شرس على الأغلب.
التيار الليبرالي والمعتدل
ثمة حراك يجري اليوم داخل مجلس النواب لتشكيل تحالف جديد يدعم حكومة الكاظمي ويدير هذا الحراك تيار الحكمة وقد بدأ الحوار مع الشخصيات والكتل السياسية داخل وخارج البرلمان على حد سواء. استقطب فكرة انشاء هذا التحالف المؤقت كتلة النصر و بعض النواب المستقلين الشيعة وبعض النواب السنة وقد يدخل معهم بعض النواب الكرد. هدف التحالف هو إيجاد كتلة برلمانية داعمة للحكومة تساندها برلمانيا.
وقد تتحول فكرة تشكيل هذه الكتلة الى تحالف اكبر مع اقتراب موعد الانتخابات القادمة يصاحب هذا التحول حراك سياسي خارج البرلمان للتحضير للانتخابات، وقد ينضم اليها رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس الجمهورية برهم صالح وبعض الشخصيات السنية البارزة، ليصبح تيار عابر للطائفية والعرقية والإثنية. وقد يستقطب هذا الحراك بعض الأحزاب والكتل السياسية المنبثقة او تلك التي ستنبثق من رحم التظاهرات والحراك الشعبي. بالإمكان ان نسمي هذه الكتلة التي ستتحول الى تحالف بتحالف التيار الليبرالي المعتدل، حيث ان التوجه العام لدى هؤلاء هو ليبرالي اكثر من كونه إسلامي بالرغم من وجود تيار الحكمة ذات الطابع الإسلامي، الا أن المعروف عن تيار الحكمة هو اعتداله ضمن دائرة الإسلام السياسي القائم.
هذا التيار قد يكون جاذبا لأوساط المواطنين وفي مقدمتهم شريحة مهمة، وعلى وجه الخصوص الرافضين للواقع السياسي الممتد من عام ٢٠٠٣. ذلك بأنهم يجدون في هذا التيار تحول في الحراك السياسي، وسيكون اكثر انفتاحا في الحكم والعلاقات الخارجية والإقليمية.
ومن المتوقع ايضا ان يكون البرنامج الانتخابي مبني على الانفتاح ومحاربة الفساد ونبذ الطائفية والقومية، ورفض الواقع السياسي والإداري الحالي، والتوجه نحو تقوية الجناح الليبرالي بالاعتماد على نوع ومستوى أداء الحكومة الحالية في تنفيذ برنامجها المعلن وعلى نحو خاص محاربتها للفساد المستشري ومعالجة الأزمات المالية والصحية والإقتصادية والخدمية وبسط سيادة القانون وفرض سلطة الدولة.
التيار المحافظ
يقابل التيار الليبرالي تيار اخر يمكن تعريفه بالتيار المحافظ والمتمثل بدولة القانون والقوى المنضوية في تحالف الفتح وتشمل منظمة بدر وعصائب اهل الحق وكتلة سند وغيرها، وتشغل هذه القوى الان ما يقرب من ٩٠ مقعدا داخل مجلس النواب. الا ان هذا التيار بات يواجه مشاكل داخلية كبيرة بعد استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، وشهد تصدعات على خلفية اختيار رئيس الوزراء الجديد، وبالذات خلال مرحلة إيجاد البديل والمفاوضات التي جرت بين الكتل السياسية لاختيار شخصية مقبولة لدى الجميع. وقد ساهمت هذه العملية في نشوب خلافات داخلية وخارجية حادة، رافقت رفض مكلفين اثنين هما محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي قبل القبول بالمكلف الثالث مصطفى الكاظمي والذي اصبح رئيسا لمجلس الوزراء بالرغم من معارضة الأغلبية في داخل هذا التيار المحافظ. إئتلاف دولة القانون أعلن رفضه لدعم مصطفى الكاظمي في بيان رسمي، فيما قبل تحالف الفتح بالتصويت للكابينة الجديدة وسط امتعاض شديد داخلي ولم يتبنى الحكومة الجديدة منذ اليوم الأول، ومازال معارضا الآن اكثر من كونه مؤيدا، ولعل التعيينات التي ستطال الكثير من المناصب التي حصلوا عليها منذ عام ٢٠١٨ سوف تزيد من حجم معارضتهم. وحظوظ الفوز بالانتخابات القادمة لهذه الكتل سوف تقل بشكل عام، وهنالك أحزاب قد تحافظ على ما حصلت عليه ولكن التوقعات النهائية تشير الى تضاؤل فرص هذه الكتل، على سبيل المثال، كانت كتلة دولة القانون هي صاحبة السلطة وتأسست برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي عندما كان في الحكم، وحصلت الكتلة على ٩٥ مقعدا في انتخابات ٢٠١٤ ولكن تراجعت حظوظها في انتخابات ٢٠١٨ لتحصل على ٢٥ مقعدا ولا تلوح بالأفق أية بادرة على إمكانية حصولها على ذات العدد من المقاعد، بسبب فقدانها المشاركة في الحكومة القائمة، كما لم تعيد تنظيم نفسها كقوة معارضة.
منظمة بدر بقيادة هادي العامري تعاني هي الأخرى من خلاف داخلي عميق يتمثل ببروز قيادات جديدة تسعى لتصدر المشهد، وهذه الخلافات بلغت أوجها خلال عملية التكليف واختيار المكلفين لرئاسة الوزراء. وفي نفس الوقت، لدى المنظمة منافسين أقوياء في الشارع الشيعي مثل العصائب والتيار الصدري الذين يتفوقون على المنظمة بالتنظيم والانضباط والشعبية، بالرغم من كون زعيم المنظمة يمتلك تأريخا سياسيا وجهاديا مقبولا في الوسط الشعبي، الا انه يواجه ضغوطات داخلية كبيرة على الزعامة وهذا قد ينعكس سلبا في الانتخابات القادمة.
عصائب اهل الحق بزعامة قيس الخزعلي ستبقى تشكل الحلقة المبهمة في العملية الانتخابية، يعمل هذا التنظيم في الوسط الشعبي كثيرا ولديه تواصل وحضور مكثف في الأوساط الشعبية وقريبين الى الناخب والمواطن، كما ان خطابهم الثوري الذي يتسم بروح المقاومة يستقطب الكثير من الشباب والناخبين، ولديهم ماكنة انتخابية جيدة وخبرة واسعة حصلوا عليها عندما كانوا ضمن التيار الصدري وعملوا على صقلها بشكل كبير في انتخابات ٢٠١٨. دخلت العصائب في إنتخابات ٢٠١٤ وحصلت على مقعد واحد، فيما حصلت على ١٥ مقعدا في انتخابات ٢٠١٨. وتطمح بطبيعة الحال الى زيادة مقاعدها، ولكن هذه الزيادة ستكون بالتأكيد على حساب حلفائها داخل التيار المحافظ، لأن الخطاب الثوري والشعبي الذي تعتمده العصائب هو ذات الخطاب الموجه من الاخرين في هذا التيار ولن يؤثر بشكل كبير على الناخبين للتيار الصدري او الليبراليين.
التيار الصدري
أن المراقب للتيار الصدري يلاحظ تزايد نفوذه في الانتخابات المتتالية ولعبه للدور الأكبر في تشكيل الحكومات السابقة منذ ٢٠١٠، وتصاعد مستوى الإداء الانتخابي، وهو التيار الوحيد الذي يتمتع بإتساع النفوذ بشكل تصاعدي، حيث حصل على ٦٥٠ الف صوت في انتخابات ٢٠١٠. ومليون ومئة الف صوت في انتخابات ٢٠١٤، ومليون وخمسمئة الف صوت في انتخابات ٢٠١٨ ليقطف بها ٥٤ مقعدا، وبذلك شكل اكبر كتلة برلمانية. ويتوقع الكثيرون بان التيار سيعمل على زيادة مقاعده البرلمانية في الانتخابات القادمة وذلك لامتلاكه خبرات متكاملة ومتراكمة في العملية الانتخابية، كما أن ماكنته الانتخابية تعتبر من افضل الماكنات الانتخابية على الاطلاق.
وسيلعب التيار وزعيمه مقتدى الصدر دورا مهما في توازن القوى وترجيح كفة الكتلة التي ستحكم مستقبلا، ولهذا السبب ليس غريبا ان نرى جميع القوى السياسية تريد كسب ود التيار والتحالف معه، الا ان التيار لديه مشروع حكم مستقبلي وقد يقوم على عكس ما قاموا به في السابق في أن يرشح من بين صفوفه شخصية لتسنم منصب رئيس مجلس الوزراء اذا ما حصل على عدد المقاعد التي تؤهله لامتلاك حرية الاختيار والترشيح، وليس خافيا ان نرى بعض الشخصيات من التيار يعد العدة ليصبح رئيس لمجلس الوزراء القادم.
الكورد والسنة
المعادلة الانتخابية في العراق ساهمت بتجميد نفوذ الكورد والسنة الى حد كبير، فالمقاعد السنية تتراوح بين ( ٧٠ – ٧٥ ) مقعدا فيما المقاعد الكوردية لن تتجاوز ( ٥٥ – ٦٠ ) مقعدا وذلك حسب أداء السنة في بغداد ونينوى وأداء الكورد في كركوك ونينوى وديالى. ولهذا السبب، فان الجمود هو الحاكم في المشهد العراقي العام بما يتعلق بالتمثيل الكوردي والسني.
المعادلة الانتخابية في إقليم كوردستان لن تشهد الكثير من التغيرات الجذرية، لان الناخب الكوردي استسلم للواقع السياسي بفشل الأحزاب المتعددة المعارضة في استقطاب أصوات الناخبين وخصوصا في أربيل ودهوك، ستبقى هيمنة الحزبين الرئيسيين كما هي مع تفاوت أداء الأحزاب المتبقية.
بعكس هيمنة الأحزاب في إقليم كوردستان، فان الحراك السني مبني على الأشخاص ونرى ان الكتل السنية لا تعتمد على الحزب ولا على استمرار صموده سياسيا، وانما تعتمد على الشخص الجاذب للناخبين. والشخصيات المنافسة في المحافظات السنية هم ذات الشخصيات التي نراها الان بالإضافة الى دخول اخرين جدد ممن يمتلكون نفوذا في مناطقهم، لكن زعامة المشهد تبقى بيد الشخصيات السنية الحالية والسبب بذلك هو صعوبة استقطاب الناخب من قبل الأحزاب لان القوى السنية تستخدم النفوذ المالي والحكومي بشكل كبير في حملاتها الانتخابية ولن ينجح احد ما اذا لم يكن يشغل منصبا في الحكومة او البرلمان او المحافظة. قد ينقسم الصراع الانتخابي السني بين رئيس مجلس النواب الحالي محمد الحلبوسي ورجل الاعمال ورئيس المشروع العربي خميس الخنجر، تنافسها شخصيات سنية ستنضوي تحت مظلة التيار الليبرالي، في نفس الوقت ليس من المستبعد أن ينضم احدهما الى التيار الليبرالي، وستكون صلاح الدين والموصل ساحة للمنافسة الحقيقية، فيما يكون صعبا على الاخرين منافسة رئيس مجلس النواب في الانبار وذلك لنفوذه الواسع وعمله المستمر في جذب الناخبين له خلال السنوات الماضية كمحافظ وكرئيس مجلس النواب.
الانتخابات المصيرية
جرت العادة في كل دورة انتخابية، ان يتم وصفها بالانتخابات المصيرية، وانها سترسم ملامح العراق القادم، ولن يتغير هذا الوصف للانتخابات القادمة، لعل المتغير الوحيد والأساسي يتمثل في ماخلفته تظاهرات تشرين ٢٠١٩، وتغير نمط الإداء السياسي نوعا ما بعد ٢٠٠٣ جراء موجة التظاهرات العارمة التي اجتاحت وسط وجنوب العراق، الى جانب التحديات القاسية التي تواجه العراق من أزمة مالية خانقة وفساد مستشري وبنية تحتية منهارة ونقص الخدمات وسيادة منقوصة بسبب الانتهاكات المتعددة لأرض وسماء العراق من قبل دول الجوار الاقليمي وغيرها.
المتغير المحتمل الاخر سيتمثل بعكس العزوف الذي حصل في انتخابات ٢٠١٨، أي الاقبال الواسع على المشاركة أملا في التغيير وإصلاح مايمكن إصلاحه، وستسعى جميع التيارات التي اشرنا اليها آنفا الى تشجيع الناخبين للتوجه الى مراكز الاقتراع، لأنها تدرك جيدا بأن مصيرها بيد الناخب لاغير وأن عزوفه عن المشاركة سيطيح بوجودها ويقضي على مصالحها ومشاريعها السياسية.
والمتغير الأساسي هو انهاء العمل بالقوائم الانتخابية ليحل محلها الشخصيات الانتخابية، وانتهاء دور الزعامات التقليدية التي تحصل على مئات الالاف من الأصوات لتضمن فوز من يترشح بظلها من الذين يحصلون على مئات الأصوات. المرشح يترشح في دائرة واحدة وكل دائرة انتخابية مستقلة عن الاخرى والفائز يصعد لوحده، ولهذا السبب سنرى بروز شخصيات محلية في مجلس النواب تمثل ناخبيها من الاهل والعشيرة والمنطقة والمدينة، وتكون عرضة للمحاسبة من قبل الناخبين في السنوات القادمة، وبذلك سيعمل البرلماني على تمثيل ناخبيه خير تمثيل، ويحرص على تحسين اداءه وخدمة اهله أولا قبل خدمة الزعيم وحزبه. كما ان النظام الحالي قد يساهم في تقليص عدد القوائم والأحزاب في المستقبل ليتجه البلد نحو الاستقرار السياسي من خلال بروز عدد قليل من الأحزاب بدل المئات من القوائم الانتخابية الهشة التي كانت سيدة الموقف الإنتخابي.