ثقافة وفن

قصص الاضطهاد المتبادل والحروب الدينية قبل الإسلام.. صراع الممالك المسيحية واليهودية في الجزيرة العربية

في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية القديمة، وبالتحديد في المنطقة الواقعة غرب اليمن المعاصر، برزت مملكة حِمْيَر في الفترة بين القرن الأول قبل الميلاد وبدايات القرن السادس الميلادي، وكان الحِمْيَريِّون وثنيين في البداية وبحلول عام 425 للميلاد كانت اليهودية هي ديانة المملكة لأكثر من قرن بقليل، بعد تحول سكانها المحليين إليها، ثم اعتنقوا الإسلام في القرن السابع الميلادي.

وفي زمن المملكة اليهودية، تعرض السكان المسيحيون للاضطهاد في دولة دينية تحابي السكان اليهود، وسجلت هذه الحقبة في العديد من الكتابات التاريخية العربية القديمة، وكذلك في الروايات اليونانية والسريانية التي سجلت سير “الشهداء المسيحيين” الذين قضوا في تلك الحقبة.

وخلال العقود الأخيرة، ظهر ما يكفي من الأحجار المنقوشة لإثبات صحة هذه الروايات المدهشة، بحسب المؤرخ الأميركي المعاصر جلين دبليو بوويرسوك المختص بدراسة اليونان والشرق الأوسط قديما، والذي روى قصة هذه المملكة الغريبة و”المتشددة” التي سقطت في نهاية المطاف بغزو قوات الحبشة “إثيوبيا” المسيحية، بعد أن عبرت البحر الأحمر من شرق أفريقيا لتضع نهاية لمملكة حمير اليهودية قرابة العام 531 للميلاد.

وانضمت تعزيزات من الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية للقوات الإثيوبية التي اشتبكت مع جيوش ملك حمير اليهودي. وساهمت مجموعة من الباحثين المختصين في الآثار -بينهم علماء فرنسيون وروس ويمنيون وأميركيون- في استكشاف الآثار التي تؤرخ لهذه الحقبة من تاريخ الشرق الأوسط والجزيرة العربية القديمة، بحسب مقال بوويرسوك لمعهد الدراسات المتقدمة (IAS) في برينستون.

مسيحيو الجزيرة العربية

وفي سفر “أطلس الحضارة الإسلامية” للأكاديمي الأميركي ذي الأصل الفلسطيني إسماعيل الفاروقي، يؤرخ الباحث الراحل المختص في الأديان المقارنة لوجود المسيحية في بلاد العرب، ويقول إن المسيحيين تزايدوا في بلاد العرب قديما بفعل الهجرات وهربا من اضطهاد البيزنطيين.

وروى الفاروقي قصة مسيحي عربي (عرف في المصادر الإسلامية باسم يعقوب السروج) من قبائل الأنباط في جنوب الأردن، حُمل أسيرا إلى اليمن حيث شجع من اتصلوا به على اعتناق المسيحية قبل بزوغ الإسلام في الجزيرة العربية.

ويقول الفاروقي إن اليهود والمسيحيين -على حد سواء- الذين هاجروا إلى صحراء الجزيرة العربية، وجدوا ترحابا من العرب الذين ظلوا محافظين على تراث بلاد ما بين النهرين الإبراهيمي، وساهموا معا في تقوية تراث جزيرة العرب الديني الذي صار يدعى “الحنيفية”. ويعتبر الفاروقي أنه بينما كانت المؤسسة الدينية اليهودية أو المسيحية تخرج عن ديانة إبراهيم المتسامية، فتضطهد الخارجين عليها، لم يكن أمام المضطهدين سوى الهروب إلى الصحراء حيث يجدون المأوى عن العشائر والقبائل.

ويتابع الفاروقي -الذي انتخب كأول رئيس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي- أن اضطهاد اليهود للمسيحيين عام 523 للميلاد في عهد ملك حمير اليهودي ذي نواس، خلف ذكرى سيئة في أرجاء شبه الجزيرة العربية، وهي الحادثة التي يقول الفاروقي إن القرآن الكريم خلّدها في سورة البروج.

وعندما سمع الإمبراطور البيزنطي (الروماني الشرقي) جستينيان الأول (482-565 للميلاد) بما جرى من اضطهاد للمسيحيين، أمر الأحباش بإرسال حملة إلى اليمن لينتقم لهم ويضمن طريق التجارة لبيزنطة. وأحرز الأحباش نصرا سريعا في اليمن وبنوا كاتدرائية في صنعاء العاصمة؛ وإذ أدركوا أن تأمين طريق التجارة بين القسطنطينية واليمن لا يكون إلا عبر إخضاع مكة فقد توجها لقهرها، بحسب رواية الفاروقي، لكنهم أصيبوا بكارثة وكان ذلك عام 570 للميلاد، في نفس عام الفيل الذي شهد ولادة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

في مؤلفه الضخم “أطلس الحضارة الإسلامية”، أرخ المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل لتاريخ شبه الجزيرة العربية القديم

ويقول الفاروقي إن المسيحيين في غرب الهلال الخصيب وفي شبه الجزيرة العربية حافظوا على تراثهم الخاص الذي يناهض المذهب الرومي، واستمرت المسيحية في المنطقة تطرح التساؤلات عن طبيعة المسيح عليه السلام ومسائل طبيعة الإنسان والخطيئة والخلاص وسلطة الكنيسة و”كرسي روما المقدس” وشرعيته والتماثيل والصور والأيقونات، حتى دخلوا الإسلام بعد أن طرق أبوابهم هربا من استغلال بيزنطة التي أرادوا التخلص من نيرها واستعمارها الديني وفرض مذهب روما بالإكراه.

الصراع اليهودي المسيحي قبل الإسلام

وفي دراسته عن تاريخ الشرق الأوسط القديم، يروي بوويرسوك الذي عمل أستاذا للتاريخ القديم في جامعات هارفارد وأكسفورد قصة مذبحة ملك حمير اليهودي يوسف بن شراحبيل (ذو نواس) للمسيحيين في نجران الذين رفضوا التحول إلى اليهودية، وهي الحادثة التي دفعت مملكة أكسوم الحبشية والبيزنطيين لغزو جنوب غرب شبه الجزيرة العربية في حرب دينية مريرة اختلطت فيها الدوافع الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، والتنافس بين إمبراطوريات الفرس والروم.

ويقول بوويرسوك إن الدين قدم القاسم المشترك لما يمكن اعتباره “تدخلا دوليا واسع النطاق في الشؤون العربية” قديما، واستدعى الإثيوبيون إيمانهم المسيحي للحشد للغزو التوسعي، وفي نفس الوقت عزز الإمبراطور البيزنطي -في سياق تنافسه مع الإمبراطورية الفارسية- حماسه المسيحي لمهاجمة المملكة اليهودية التي دعمها الفرس.

كتاب “بوتقة الإسلام” يستعرض الوسط الثقافي والسياسي للجزيرة العربية في القرن السابع

وانتهت المملكة الحميرية عام 525 للميلاد، عندما استبدلها الإثيوبيون بمملكة مسيحية خاصة بهم، لكن إرث اضطهاد ملكها ذو نواس ظل حاضرا بقوة في الروايات العربية والسريانية واليونانية القديمة، ويوفر هذا التأريخ للجزيرة العربية ومنطقة البحر الأحمر في القرن السادس الميلادي خلفية لا غنى عنها لفهم انهيار الإمبراطورية الفارسية قبل نظيرتها البيزنطية، وكذلك مسار صعود الحضارة الإسلامية.

وفي كتابه “بوتقة الإسلام” الصادر عام 2017 عن مطبعة جامعة هارفارد، يقول بوويرسوك إن تاريخ شبه الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي لا يزال مجهولا لكثيرين، لكن من هذا الزمان والمكان البعيد برز إيمان وإمبراطورية امتدت من شبه الجزيرة الأيبيرية إلى الهند.

وإذ يشكل المسلمون اليوم ما يقرب من ربع سكان العالم. سعى المؤلف والأكاديمي الأميركي لإلقاء الضوء على هذه الفترة الأكثر غموضا وحيوية في تاريخ الإسلام، من منتصف القرن السادس إلى منتصف القرن السابع الميلادي، لاستكشاف لماذا أثبتت شبه الجزيرة العربية القاحلة أنها أرض خصبة لرسالة محمد عليه الصلاة السلام النبوية، ولماذا انتشرت هذه الرسالة بسرعة كبيرة في العالم الأوسع.

مقالات ذات صلة