ثقافة وفن

التصوّف خيال أدبي أم أيدولوجيا مقاومة للغزاة.. كيف نظر المستشرقون الروس إلى متصوفة القوقاز؟

على كثرة الدراسات الحديثة التي تدرس حركات التصوف الإسلامي وأفكاره الروحية، لا تحظى الخلفيات الفكرية للدارسين باهتمام كافٍ. وتتأثر بعض هذه الدراسات بمشكلات صعوبة النص الصوفي، والتأثر بمناهج تاريخية معينة، والانحيازات المسبقة التي تشكل جانبا مهمًّا من وجهة دراسات التصوف الحديث.

ومن بين المحاولات الحديثة لدراسة الصوفية، يحاول الأكاديمي الأميركي من أصل روسي ألكسندر كنيش دراسة التصوف في سياقاته المحلية، خاصة في القوقاز واليمن وشمال أفريقيا.

ويلقي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ميشيغان الضوء على العلاقة بين الإسلام والإمبراطورية الروسية في شمال القوقاز الذي يضم تنوعا عرقيا إسلاميا فريدا، ويعتبر أن التصوف كان مرتبطا في هذه المنطقة بأيدولوجية مقاومة للغزو والهيمنة الروسية على المنطقة من عشرينيات القرن 19 حتى اليوم.

التاريخ كتابة أدبية

يعتمد كنيش على الفكرة التي طرحها المؤرخ الأميركي هايدن وايت (توفي 2018) ومفادها أن التاريخ ليس نظامًا يستند إلى الحقائق والتواريخ بقدر ما هو شكل من أشكال السرد الأدبي، إذ يجمع المؤرخون المواد والأحداث والتواريخ المتناثرة بشكل عشوائي عبر السجلات والمصادر التاريخية، ويحاولون صياغة سرد موحد عبر التقنيات البلاغية والاستعارات والرموز. ويعتبر وايت أن التاريخ سرد مجازي أدبي له صور بلاغية أربع هي: الاستعارة والكناية والمجاز والسخرية، يتم حبكها في الحكاية المروية.

ويستخدم كنيش هذا المنظور الذي يركز على الطبيعة الأدبية لكتابة التاريخ، ليخلص إلى أن “كل رواية عن الصوفية هي -إلى حد كبير أو محدود- عمل خيالي، ودليل على عملية أدبية إبداعية”. ولهذا لا ينبغي استبعاد أي منظور لدراسة الصوفية سواء من طرف الأكاديميين أو غيرهم، ومن المستشرقين وعلماء الأنثروبولوجيا، أو من علماء المسلمين بشتى أطيافهم، وهو ما يراكم المعرفة ويضيء ويكمل الخطابات المختلفة للظاهرة الصوفية المحيرة.

وفي عرضه لكتاب كنيش “التصوف الإسلامي.. تاريخ جديد”، دافع الباحث الأذري في مجال الدراسات الإسلامية كمال قاسيموف عن استخدام المؤلف لتعدد الأصوات في تفسير ظاهرة معقدة مثل الصوفية، معتبراً أن الصورة الحديثة السائدة عن التصوف هي “بناء مشوه” جرى اختراعه في دراسات الاستشراق الأوروبي إبان القرن الثامن عشر.

ويعتبر كنيش أن التصوف كان ولا يزال حقيقة تامة لأتباعه ومعارضيه وطلابه على حد سواء، داخل التقليد الصوفي وخارجه. كما جرت كتابة تقاليده باللغات العربية والفارسية والتركية ولغات إسلامية أخرى، وترجمها مستشرقون غربيون وروس.

ألكسندر كنيش عمل محررا تنفيذيا لموسوعة التصوف الإسلامي ومحررا لقسم “الصوفية” في “موسوعة الإسلام”

الاستشراق والتصوف

يعتبر كنيش أن تقديم الصوفية بالطريقة التي يفسرها الصوفيون أنفسهم لم يكن خيارًا لعلماء الإسلام الأوروبيين والروس، فهناك حاجز اللغة، وتعدد الطرق والفلسفات والأشكال الصوفية التي لا يمكن اعتبار أن واحداً بعينه منها هو السائد أو العالمي. وأيضاً، لا تقدم سجلات العصور الوسطى والسير الذاتية للمتصوفة رواية شاملة وكاملة ومنظمة حول كيفية ظهور التصوف، ومتى ظهر وتطور وتحول في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي.

ويضيف أن هذه العوامل استلزمت “اختراع” مفهوم عام أو فهم للصوفية، يتخيله أو يرسمه المستشرقون ليتسنى للقارئ والجمهور الأوروبي إدراكه بلغة يفهمها وتناسب خلفية المتلقي الثقافية الخاصة.

ويوضح كنيش أن التحيزات والمفاهيم المسبقة للمستشرقين واضحة لا يمكن إنكارها، معتبراً أن تحيزات المستشرقين حتمية لأنهم درسوا جميع الأديان من خلال المنظور التحليلي الثقافي المتأثر بالبيئة الأوروبية والمسيحية واليهودية. ويتجلى ذلك في التصنيفات التي أدخلوها على الثقافات الأخرى بوصفها عقلانية أو غير عقلانية، علمانية أو دينية، مقدسة أو مدنسة، وهكذا.

لكنه يستدرك بالقول إن تحيزات المستشرقين التي تأثرت بتفضيلاتهم الفكرية الخاصة وقناعاتهم، ليست أكثر ولا أقل حدة من تحيزات المتصوفة الذين يكتبون حول مذاهبهم وممارساتهم بأنفسهم، فلا يمكن لأي مؤلف -سواء من داخل الصوفية أو خارجهم- أن يفلت من علاقات القوة والافتراضات الثقافية والممارسات المعرفية الظالمة للسياق الاجتماعي، فالصوفية بطرقهم المختلفة -مثلهم مثل أصحاب التيارات الفكرية في الإسلام- يعتبرون أنفسهم الأصح.

ويشير كنيش إلى شيوع الافتراضات الاستعمارية والإمبريالية والصور النمطية عن المجتمعات الإسلامية، ورواج أفكار من قبيل عداء الإسلام الأصلي للتقدم والعقلانية، والتعصب الأعمى لأتباعه، وتفوق الحضارة الأوروبية على الشرق الأوسط الفاسد، وهذه الافتراضات المسبقة انتشرت في حقبة الاستعمار بشكل خاص.

وينتقد مؤلف كتاب “التصوف الإسلامي.. تاريخ جديد” الاستشراق الذي يرسخ تخلف الشرق وينزع إنسانيته، متفقاً مع المفكر الأميركي الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد في أن بعض المستشرقين “سعوا بالفعل إلى أجندات سياسية وأيدولوجية واضحة تهدف إلى تسهيل وتبرير الاستعمار الأوروبي للأراضي المسلمة”.

القراءة الروسية للتصوف

يلاحظ كنيش في بحثه السابق المنشور في المجلة الأكاديمية الألمانية المتخصصة في الدراسات الإسلامية (Die Welt des Islams)، أن الاستشراق الروسي الذي يدرس التصوف تأثر بانخراط الطرق الصوفية المحلية وخاصة النقشبندية في مقاومة السلطات، إذ كان الأئمة الداغستانيون الصوفيون في طليعة المقاومة الإسلامية للتوسع الروسي في القوقاز.

كما يلاحظ أن الدراسات الروسية عن التصوف الإسلامي في حقبة الحرب الباردة قامت على إعادة تلخيص الأعمال الأكاديمية الغربية، التي اشتملت على افتراض أن جذور التصوف الإسلامي “أجنبية” وترجع إلى أصول بوذية أو هندوسية أو مسيحية أو حتى الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. وهناك اعتقاد آخر شائع بين المستشرقين الروس وهو ارتباط التصوف بردود فعل الأعراق المسلمة غير العربية مثل الفرس والهنود والأتراك على “العبقرية السامية” (العربية).

وبالنسبة للروس -يقول كنيش- كانت دراسة “الدراويش” مرغوبة بسبب التأثير الكبير الذي يتمتعون به على الرعايا الجدد للإمبراطورية الروسية (المسلمين). بالإضافة إلى ذلك، فإن الدراويش -كما يظهر التاريخ- قادرون على أن يصبحوا الأكثر خطورة، فهم “محرضون ومراوغون ضد القانون المعمول به”، بحسب مستشرقين روس.

التصوف والاستعمار

ولاحظ المستشرقون الروس ارتباط الطرق الصوفية بالمواجهة مع القوى الاستعمارية الفرنسية في الجزائر منذ القرن 19، وينقل كينش عن المستشرق الروسي بيوتر بوزدنيف قوله إن الدراويش الصوفية يستخدمون تأثيرهم على الجماهير “الجاهلة والمؤمنة بالخرافات، من أجل التخريب وتشويه سمعة الدولة والتحريض على العداء والكراهية ضد الروس” وعصيان السلطات.

ونتيجة لشراسة حرب القوقاز من العام 1817 إلى العام 1864 بين الإمبراطورية الروسية وبين الإمامة القوقازية بقيادة الإمام شامل (1797-1871) وقبائل الشيشان وداغستان والقراشاي والشركس، جرى تصوير المريدين الصوفيين في الأدبيات الاستشراقية الروسية باعتبارهم متعصبين قبليين ولا حول ولا قوة لهم في أيدي قادتهم من المرشدين الروحيين الذين يعيشون في الجبال القوقازية.

ومنذ أول صدام بين حركة المريدين الصوفية التي انتظمت عبرها مجالس صوفية نقشبندية قاومت الغزو الروسي منذ حملة القيصر بطرس الأكبر عام 1722، كانت حركة المريدين الصوفية تقود المقاومة ضد الغزوات الروسية المتتالية، وكان المريدون يختارون إمامهم.

ووصفت العديد من الكتابات الروسية الاستشراقية في تلك المرحلة نظام المريدين والتصوف المتأثر بالطرق النقشبندية، بأنه تعاليم دموية مارقة وسياسة شريرة تحت ستار الدين.

ويرى كنيش أن القراءة الروسية للتصوف لا تنفصل عن النظرة الاستعمارية الغربية -والفرنسية بشكل خاص- للحركات الصوفية التي واجهت الاستعمار في المغرب العربي وشمال أفريقيا، إذ ركز الاستشراق المعاصر للحملات الاستعمارية الأوروبية على دور الصوفية في رفد المقاومة في كل من ليبيا والجزائر والسودان والصومال وحتى في إندونيسيا.

مقالات ذات صلة