ثقافة وفن

أخطاء تاريخية بمسلسل “الفتوة”.. هل تنسينا الصورة المبهرة ضعف أداء الأبطال؟

في كتابها “الفتوة في السينما المصرية”، صاغت الكاتبة ناهد صلاح تعريفا للفتوة بناء على ظهوره في الأعمال السينمائية والأدبيات المكتوبة حول “الفتوات”، إذ اعتبرته حاكما شعبيا، “سواء جاء باختيار الناس أو فرض نفسه عليهم بالقوة، لا يكتفي بالقوة لفرض سطوته وإنما يضيف إلى سلوكه وأعماله ما يدفع الناس لتحبه، كأن ينصر الفقراء ويقيم العدل، ويلعب دور الحاكم الحكيم، ويدير شؤون الحياة في الحارة التي يحكمها، ليظل الجميع قانعين به مدينين لحمايته”.

بناء على هذا المفهوم للفتوة بأنه الحاكم داخل حارته؛ يمكن تأسيس عالم كامل حافل بصراعاته؛ حارة كبيرة تمثل مملكة صغيرة، وتدور حول عرش حكمها صراعات ومكائد وأطماع. خاصة إذا كان الفتوة حاكما شيخا يترك المسؤولية لابنه الذي يتعامل مع الناس بقسوة غير محسوبة. هكذا تظهر الصورة الكبرى لعالم مسلسل “الفتوة” في الموسم الرمضاني الحالي.

يعد “الفتوة” أحد المسلسلات البارزة في السباق الرمضاني الجاري، وهو من بطولة ياسر جلال ومي عمر وأحمد خليل ورياض الخولي وأحمد صلاح حسني. ومن تأليف هاني سرحان وإخراج حسين المنباوي.

مدخل سلس لسيناريو متعثر
منذ الحلقة الأولى للمسلسل يبدأ رسم ملامح الشخصيات الرئيسية للقصة؛ حسن الجبالي (ياسر جلال) وعزمي (أحمد صلاح حسني) تمثيل لثنائية الخير والشر، وما بينهما من فروق جوهرية؛ عزمي الفتوة القاسي الذي يفرض الإتاوات على الفقراء، في مقابل حسن الذي يرفض ذلك كما يرفض أن يصبح فتوة.

بالسلاسة نفسها تم تعريف الشخصيات الثانوية التي تظهر لكل منها تفاصيل درامية مؤثرة وخطوط فرعية تتلاقى جميعا داخل مملكة الفتوة المتمثلة في الحارة، فهناك ليل (مي عمر) التي تبحث عن أمها الغائبة، وصراعها مع طليقها فتوة المدبح (رياض الخولي) الذي يحاول الرجوع إليها. وجميلة (نجلاء بدر) التي نعرف أنها مطرودة من حي “الجمالية”، وتسعى كذلك للرجوع إليها، مما يتركنا مع العديد من التساؤلات حول أسباب هذه الوقائع ومدى ارتباطها معا.

وبمرور الحلقات نتعرف إلى مجموعتين تمثلان أطراف صراع قديم داخل القصة، هما: “العربجية” و”كسر الفتوات” المطرودون من مملكة الجمالية، ويكنون العداء لأهلها ويتوعدون بالرجوع للحارة. تظل ظروفهم مجهولة لكنها خلفيات لأحداث المسلسل وشخصياته تكفي لإثارة تساؤلات المشاهد وفضوله حول تاريخ الشخصيات والأحداث التي ينجح الكاتب هاني سرحان في طرحها ببطء يجذب انتباه المشاهد للتعرف عليها.

وعلى مهل، يفصح المسلسل عن إجابة تساؤلات يثيرها في الحلقات الأولى، حول أسباب اختفاء أم ليل، وأسباب طرد جميلة وكيفية عودتها، لكن تظل هناك أسئلة لم تتم الإجابة عنها حتى الحلقة 18؛ مثل أسباب طرد مجموعات كسر الفتوات و”العربجية” خارج الحارة. التي شهدت الحدث الفاصل داخل المسلسل أو ما يمكن اعتباره إعادة التجميع بعد الشتات.

بطل شفاف
تواجه شخصية البطل غالبا أزمة في الدراما العربية؛ إذ يعمد كتاب الدراما إلى تحويلها لشخصية لا لون لها غير النزوع إلى المثالية والخير، والبعد عن الصراعات. وهو الفخ الذي وقع فيه بطل المسلسل “الفتوة” حسن الجبالي، الذي لا يسعى إلى أي شيء داخل أحداث المسلسل، وظل حتى الحلقة 17 بطلا بلا رحلة؛ يتفادى الصراعات، ويتخلى عن حقوقه، ولا يسعى حتى إلى الفوز بالفتاة التي يحبها.

في البدء، كان يمثل شخصية البطل المتخفي الذي يحقق حقوق المظلومين، لكنه تخلى عن هذا الدور حتى يتعرض محل رزقه إلى التخريب، فلا يسعى للانتقام أو حتى معرفة المتسبب في ذلك، يسترجع مشاهد قتل والده، ويحاول معرفة الجاني، لكنه يتخلى عن انتقامه في منتصف الطريق.

يتعرض للظلم من عمه دون محاولة لرد الظلم، يتحول مع الوقت لما يشبه الماء؛ شفاف بلا لون أو طعم، ليكون مثاليا لا يخطئ ولا ينتقم، ويخبئ جناحين تحت جلبابه؛ مما أهدر فرصا كثيرة لياسر جلال لإبراز قدراته التمثيلية.

مساحة فضفاضة لم تمتلئ
على النقيض جاء دور “عزمي” (نقيض البطل) حافلا بالعقد والتراكيب، فتوة شاب يملك من القوة والعافية ما يدفعه للتطلع نحو عرش الفتوة إلى جوار هاجس قلق بعدم التحقق، مع علاقة مرتبكة بالفتوة الأب.

يملك وجهين من الجبروت مع أهل الحارة، والرقة مع أخته غير الشقيقة، لكن هذا الدور كان عباءة فضفاضة لم يتمكن أحمد صلاح حسني من ملئها؛ فقد حاول استعارة أداء من تراث دراما الفتوات، بين محمود عبد العزيز في فيلم “الجوع”، مع انطباع وحيد حاول فيه تصنع الشراسة والقوة بقلب فتوة في تكشيرة طفولية.

نقاط تمثيل مضيئة
هذه الشراسة والقوة التي استطاع رياض الخولي أداءها بنظرات لامعة وابتسامة كريهة يبرزها وهو يبدل بين طبقات صوته. الأدوات نفسها التي استخدمها ضياء عبد الخالق لإثارة الكراهية لشخصية “فرج” مساعد عزمي؛ إذ يمثل رياض الخولي وضياء عبد الخالق وإنعام سالوسة وأحمد خليل نقاطا مضيئة في الأداء التمثيلي داخل دراما “الفتوة”.

ضرورة الزمن المحدد
منذ الحلقة الأولى أيضا، يحدد صناع “الفتوة” عام 1850 زمنا لوقوع أحداثه، على عكس ملحمة الحرافيش باعتبارها المرجعية الفنية لعالم الفتوات، التي حررها نجيب محفوظ من تحديد الزمان والمكان، وتسبب هذا التاريخ المحدد الذي كتب بخط أبيض ضخم قبل بدء سرد المسلسل في الوقوع في مغالطات تاريخية بالنسبة للأماكن والأزياء.

فقد ظهر في الحلقة الثالثة مشهد للأسدين الشهيرين على مدخلي كوبري قصر النيل، الواصل بين القاهرة الخديوية ومنطقة الزمالك، إلا أن القاهرة الخديوية والكوبري الشهير لم يكونا موجودين في زمن أحداث المسلسل عام 1850، إذ اكتمل بناء الكوبري عام 1871، أي بعد 21 عاما من زمن المسلسل.

كما تم ذكر شارع عماد الدين في الحلقة الأولى بوصفه شارع أنشطة الخمارات والمراقص، لكن هذا الشارع لم يكتسب سمعته كشارع للملاهي قبل تسعينيات القرن 19، أي بعد نحو أربعين عاما من زمن القصة.

فضلا عن أزياء السيدات في المسلسل التي جاءت حسب الموضة الرائجة في النصف الأول من القرن العشرين، إذ لم تكن بهذا القدر من الضيق في الحارات المصرية في منتصف القرن 19.

الصورة أبرز نقاط القوة
أسهم الطابع التاريخي للمسلسل بما فيه من بقايا عمارة مملوكية وعثمانية في إنتاج لوحات فنية متقنة، كما راعى فريق التصوير أن يصنع تكوينات جمالية مريحة للعين، على مستوى أبعاد عناصرها من الديكور والطراز المعماري، وكذلك نسبة الأشخاص داخل الصورة.

كما جاءت الإضاءة وتصحيح الألوان لتكمل جماليات الإطارات المشبعة بالألوان ودرجات الإضاءة الصفراء، إما بوهج النار في الليل أو بالإضاءة الطبيعية في النهار، حتى أنك إن أوقفت أحد مشاهد المسلسل التي تدور داخل غرفة منزل أو ساحة حرملك أو حتى داخل حارة ستجد صورة بذل مجهود واضح لتخرج بأحسن ما يكون كما لو كانت لوحة تشكيلية.

قطعات مونتاج ضعيفة
مثلما يلجأ الحكاؤون إلى أدوات الربط اللغوية للانتقال بسلاسة بين فصول حكاياتهم، يلجأ صناع السينما والدراما البصرية إلى المونتاج للانتقال السلس بين مشاهد الحكاية. وبينما يمثل الديكور والصورة أقوى عناصر المسلسل يمثل المونتاج أبرز نقاط ضعف “الفتوة”، إذ يغيب التسلسل الزمني لأحداثه بين مشاهد ليلية تتحول لنهار وأخرى نهارية تكتمل في الليل، وأحداث يطول زمنها أكثر مما ينبغي والعكس كذلك، مما تسبب في بعض الارتباك والتشتيت أثناء المشاهدة.

مقالات ذات صلة