ثقافة وفن

لا لكاتم الصوت .. صحفيون خلف أسماء مستعارة يروون محنتهم الأبدية مع الضغوط والرقابة

قديما لجأ الأديب عبد الله بن المقفع مترجم “كليلة ودمنة” إلى استنطاق الحيوانات ليتكلم عن فساد الحكام واستعباد الرعية، وكانت هذه التورية وسيلته ليفلت من المقصلة.

ربما ألهمت هذه الحيلة “المناضلين الصحفيين” زمن احتدام الصراع بين قوى المجتمع والأنظمة السياسية، حيث اختفى كثير منهم خلف أسماء مستعارة لمراوغة بطش الأجهزة الأمنية، وكان أن التصقت هذه الأسماء بهم مدى الحياة.

وقد صدر حديثا عن معهد الجزيرة للإعلام -بالتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يوافق 3 مايو/أيار- كتاب جديد بعنوان “صحفيون خلف أسماء مستعارة”، من تأليف 15 صحفيا وصحفية يتوارون للكشف عن جزء من معاناتهم مع المعلنين والسلطات ومسؤولي التحرير، ورقابة القوانين والسياسيين، وأشكال التضييق والرقابة الذاتية بكل ألوانها.

وتنكر الكتّاب لهوياتهم وتواروا خلف أسماء مستعارة “لأن الخوف جاثم في مكان ما، والحرية مطاردة، الملاحقة مستمرة من الأمن أو المجتمع أو حتى من الصحافة نفسها”، وهكذا آثر المشاركون الاحتفاء بيوم حرية الصحافة العالمي والإفلات من العقاب وتفويت الفرصة على من يحصون أنفاسهم، وتكلموا عن هموم المهنة اليومية بمنأى عن مقص الرقيب.

الإعلام وحيدا
بدأ الكتاب بمقال أحمد موسى “في قبضة الجيش.. الإعلام وحيدا في متاهته” متناولا تمدد الجيش في التجارة والسياسة، وممارسة القمع والتجارة والحصول على الامتيازات وإجهاض آمال الشعوب في التغيير، ولم يجد في المقابل إلا الثناء في وسائل الإعلام بعد أن سيطر على الإعلام بمنطق “العصا الغليظة”، ومن يتعرض له بالنقد يحال للقضاء والتهمة جاهزة بالطبع.

وفي مقاله “القبيلة والدين.. الصوت الأعلى” يتناول السعيد الرندي حرية الصحافة في ظل رقابة القبيلة والأعراف الدينية، وفي هذا البلد يمكن أن يتم انتقاد الرئيس أو التهجم على المؤسسات السياسية، لكن حذار أن تهاجم الشيخ “الفاسد” أو تثير سيرة “المحاصصة القبلية” في هرم الدولة، لأنك ستجد نفسك على حبل مشنقة المجتمع بكل تأكيد.

وفي مقالها “الإعلانات.. الرقابة والحب”، تروي ماريانو خامي تأثير المعلنين الذين يراقبون كل شيء من أعلى، ومن لا يطيع الأوامر فسيؤول إلى النهاية المعروفة.. الإفلاس.

ويناقش المقال تغير وسائل الرقابة على الصحف في البلد الأوروبي الذي تعيش فيه الكاتبة، إذ لم تعد تأتي تلك المكالمة الهاتفية من وزير أو مدير مكتبه مهددة بسجن صحفي أو إغلاق صحيفة، لكن ما لم يتغير بعد هو تلك الرقابة التي تمارسها المؤسسات ذاتها عبر التحكم بالإعلانات التجارية التي تقوم بها “الشركات ذات الحصانة” أو التي لا يمكن انتقادها بأي حال.

وفي مقاله “جريمة عاطفية.. أو قيد ضد مجهول” يحكي خوان كاراسكيادو قصة صحافيين اختفوا عن الأنظار، وبعضهم اغتيل أو اختطف لأنهم اقتربوا من المنطقة المحظورة لعصابات تجارة المخدرات، أما في سجلات الشرطة، فهي لا تعدو أن تكون “جريمة عاطفية”.

الطباعة والبارود
وفي مقالها “زوجة الزميل العزيز التي كان عليها أن تمضغ القات”، تناقش وفاء سالم تحديات العمل للصحافيات النساء، وقد سردت قصصا واقعية لسطوة العادات القبلية والاجتماعية في بلد يؤمن الصحافي فيه بأن عملية الإبداع لا بد أن تقترن بتعاطي “القات” الذي تتحول جلسته المسائية لغرفة صناعة القرار بدلا من اجتماع تحريري صباحي لهيئة التحرير.
وفي مقاله “إعلام يرزح تحت نير الطائفية”، يقول رشيد الصديق إن الطائفية لا تدمر الاقتصاد والسياسة فحسب، بل إنها تحول الصحافة إلى حقل ألغام شاسع، ينفجر كلما تجرأ الصحافيون على إثارة قضايا مثل ثروات زعماء الطوائف والمحاصصة في نيل المناصب، ويستشهد بمقولة الفيلسوف الألماني شبينغلر “إن الطباعة والبارود شقيقان توأمان”.

ويعتبر المقال أن الخطاب الطائفي المعتمد اليوم في الإعلام يعزز من السلطة الحاكمة برموزها الطائفية، ووحدهم رجال السلطة هم المستفيدون من تأجيج اللغة الطائفية، وهكذا يحيد إعلام هذا البلد عن دوره المفترض كناشر للوعي ومعزز لشعور المواطنة العابر للطوائف والمذاهب.

وفي مقالها “داخل كل مسؤول تحرير دكتاتور كبير”، تتناول رانيا الروادي استبدال الدكتاتور بالمستبد، فبعد الثورة على النظام السابق الذي أشاع الرعب والترهيب، اعتقد الصحافيون أن الجو الجديد سيحرر مساحة شاسعة من حرية التعبير أمام ارتفاع عدد القنوات التلفزيونية والصحف المطبوعة، لكن واقع الحال يشهد أن الملاك استعانوا بمسؤولي تحرير لهم مهمة واضحة: الضغط على الصحافيين وممارسة التمييز والحجر على مقالاتهم.

وفي مقاله “النيابة العامة التي لا تحب قانون الصحافة”، يتناول نائل الصاغي دور قوانين الصحافة التي تحولت إلى مجرد تراث، بينما النائب العام ينتظر الصحافيين المزعجين عند أول منعطف مشهرا فصول القانون الجنائي.

الإخوة الأعداء
وفي مقاله “الإخوة الأعداء.. الذين يريدون إسكات الرواية الأخرى”، يتناول أنس السباعي التضييق على الصحافيين الذين ينبشون في سير وثروات السياسيين المتناحرين، إذ تقوم لجان التحقيق بقطع الأرزاق ومصادرة جوازات السفر، وتنتعش الرقابة الذاتية لدى الصحفي الذي يكون أمام خيار الانتماء لطائفة والدفاع عنها بعمى، أو أن يلقى به في السجن أو في أتون صراع لا ينتهي مع السلطة.

ويناقش المقال كيف مُنع صحفيون من السفر وتبين لاحقا أن الأجهزة الأمنية في الدولة المجاورة تتابع أعمالهم الصحافية وتضع المنتقدين على قوائم سوداء.

وفي مقاله “يحيا سعادة الرئيس”، يناقش عبد الله العبد لله تجربة بلد يتدخل فيه الرئيس بشكل شخصي ليحدد لائحة الخطوط الحمراء بتوظيف مسؤولين عن الإعلام للحجر على الصحافيين المستقلين، ويقول الكاتب إن الصحافة في بلده مرتبطة في الذهنية العامة بممارسة التسول.

وفي مقاله “حينما تصبح المخابرات رئيس تحرير”، يتناول رؤوف السعيد مشهدا يبدو في الظاهر كأنه تعددية إعلامية وحرية تعبير، لكن في الجوهر تقبع الحقائق المرة: أجهزة المخابرات والعسكر التي تتخفى في زي مدني، وتتولى مهمة رئاسة تحرير الصحف والقنوات، ولم ينج من هذه الآلة التي يقودها عقيد في المخابرات سوى استثناءات قليلة ما زالت تشتغل في حقل من الخطوط الحمراء التي تزيد يوما بعد يوم.

السير على الأشواك
وفي مقاله “رهائن المال والمجتمع”، يناقش هاني الشاوي الرقابة على المؤسسات الإعلامية العربية في أوروبا التي تكتسي لبوسا ناعما تارة وشرسا تارة أخرى، إذ يحدد المال خط التحرير، والأنظمة السياسية المنخرطة في كسر العظام هي التي ترسم الخطوط الحمراء الكبرى.

وفي مقالها “رجال المال والأعمال والسيطرة على الإعلام”، تناقش ليلى أبو لي دور رجال الأعمال الذين حولوا الصحافة إلى مسخ يقتات على الفضائح والإجهاز على حق الآخرين في الاختلاف، وترى أن الربيع العربي بقدر ما حرر مساحة من الحرية فقد أفسح مجالا لإنشاء قنوات وظفت بشكل غير أخلاقي في تهديد الديمقراطية الناشئة في هذا البلد العربي.

وفي مقالها “التحرش في غرف التحرير.. الجريمة التي لا تتقادم”، تناقش منى السعيد مآسي بعض الصحفيات النفسية تحت رحمة نزوات جنسية اضطرت الكثير منهن إلى ترك العمل، لكن بعضهن لم يستسلمن لسلطة المجتمع والأعراف والحاجة للحفاظ على الوظيفة، وقررن مواجهة مسؤولين شعارهم الجنس مقابل العمل.

وفي مقالها “لا تقربوا ثروة السيدة الأولى”، تناقش رولى لوباب دور السيدة الأولى التي تدير ثروة ضخمة من الأموال الخاصة بتدبير صندوق محاربة عمالة الأطفال الصغار، لكنها لا تريد أن تخضع للمحاسبة، وحينما قرر صحافي أوروبي في لحظة جرأة نادرة أن يقترب من الخط الأحمر زار المقبرة، هكذا دفعة واحدة وبدم بارد.

مقالات ذات صلة