ثقافة وفن

جدل الحرية والصحة.. مثقفو فرنسا منقسمون حول عالم ما بعد الكورونا

لم يقتصر تأثير جائحة كورونا على أجهزة تنفس المصابين بالفيروس المستجد، وإنما تجاوزت الآثار الصحية لتسبب موجة من التحولات الاجتماعية والثقافية الهائلة، وتفتح الباب واسعا أمام مراجعات فكرية ونقد ذاتي غربي غير مسبوق.

وكما كانت فرنسا في قلب الأزمة الصحية العالمية، ساهم مفكروها ومثقفوها المعاصرون في المراجعات التي شملت فلاسفة وعلماء اجتماع ومثقفين وكتاب اختلفوا فيما بينهم.

فبينما استحضر الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور “المبدأ الوقائي”، حذر عالم الاجتماعي التسعيني إدغار موران مما سماه “الهوس بالربح”، كما حذر مؤرخ الفلسفة الفرنسي أندريه كومت-سبونفيل من أن “يحل النظام الصحي محل النظام الأخلاقي”.

أولوية البيئة
في تقريره بصحيفة لاستامبا الإيطالية اعتبر الكاتب باولو مودونيو أن السؤال الإيكولوجي (البيئي) وبشكل خاص “مبدأ الحيطة” -أي النهج الذي يدافع عن حماية البيئة والصحة حتى في غياب اليقين العلمي المطلق- هو في قلب المناقشات الفكرية الفرنسية في مرحلة ما بعد كورونا.

هناك من يذهبون مذهب الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور ويشددون على أهمية المسألة البيئية، وهناك من جهة أخرى أصوات أكثر “واقعية” و”ليبرالية”، مثل الفيلسوف الفرنسي أندريه كومبت-سبونفيل، تعارض “الرؤية الطبية الشاملة” وتحذر من مخاطر تفويض إدارة حياتنا ومجتمعاتنا للأطباء والخبراء.

وقد أطلق الفيلسوف وعالم الاجتماع لاتور في مقال بعنوان “تخيل حواجز لمكافحة العودة إلى نمط إنتاج قبل الأزمة” نداء لتعبئة ما أسماه “كوابح العولمة” بهدف “التخلي عن الإنتاج باعتباره المبدأ الوحيد للعلاقة (بين البشر والدول) في العالم”.

اعلان

تكرار ما حدث
وردا على السؤال الذي يفرضه المنطق السليم: هل يجب أن تعود دوامة الإنتاج إلى سابق عهدها؟ قال المثقف الباريسي صارخا “لا على الإطلاق.. آخر شيء نقوم به هو أن نفعل بالضبط ما فعلناه من قبل”.

وعلى المنوال نفسه، يهاجم الفيلسوف إدغار موران في مقابلة مع صحيفة لوموند العقيدة الليبرالية و”الهوس بالربح”، ويقول إنه المسؤول في المقام الأول عن “خضوع النظام الصحي لمنطق الأعمال وعن إفقار ذلك النظام”.

ويأمل موران -الذي ولد في عام 1921- أن يتبلور “مسار سياسي إيكولوجي اقتصادي اجتماعي جديد تحكمه نزعة إنسانية متجددة”، بمجرد انتهاء الوباء.

المصير المشترك
يرى موران أنه من شأن هذه “الطريقة الجديدة” التي أفرزتها الأزمة الكونية أن “تسلط الضوء على وحدة المصير لجميع البشر في ارتباط لا ينفصم عن المصير البيولوجي البيئي لكوكب الأرض”، وهذا من شأنه أن يضاعف “الإصلاحات الحقيقية التي تمس الحضارة والمجتمع ونمط الحياة”.

وفي حواره السابق مع صحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية، يأمل موران أنه من رحم هذه الأزمة سوف تولد الروح الجماعية التي ستمكن الأوروبيين من تجاوز أخطاء الماضي، التي من أهمها سوء إدارة أزمة تدفق المهاجرين، وإعطاء الأولوية للحسابات المالية قبل القيم الإنسانية، وغياب سياسة أوروبية دولية.

ويعتقد موران أن تطورات الاقتصاد الرأسمالي هي التي خلقت المشاكل الكبرى التي يواجهها الكوكب الآن، مثل تدمير البيئة والأزمة العامة في الأنظمة الديمقراطية، وتزايد التفاوت الطبقي وغياب العدالة بين الناس، والتسابق نحو التسلح وصعود الأحزاب والشخصيات الاستبدادية والديماغوجية، مثلما يحدث في الولايات المتحدة والبرازيل.

اعلان

الصحة أم الحرية؟
كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري قد أثار موجة من التعليقات والجدل، عندما اعتبر أن جائحة فيروس كورونا المستجد ستشكل مرحلة جديدة في “انهيار الحضارة اليهودية المسيحية” بحسب التحليل الذي قدمه في كتابه “الانحطاط”، وأفاد أونفري بأن هذا الفيروس يندرج ضمن حركة الانهيار.

وتظهر الجائحة بحسب حوار الفيلسوف الفرنسي مع مجلة لوبوان عدم كفاءة رئيس الدولة والحكومة، واعتبر أونفري أن “الاقتصاد الليبرالي جعل من الربح غاية جميع السياسات ومنتهاها، وتساءل لماذا ننتج أقنعة ونخزنها؟، معتبرا أن ذلك جعل الخدمات الصحية حكرا على الأثرياء الذي يستطيعون توفير الأموال للتمتع بها”.

وتابع أونفري “لا يمكن إنكار حقيقة أن الفيروس عرّى الخيارات الاقتصادية، وبالتالي السياسة المتبعة في فرنسا انطلاقا من فاليري جيسكار ديستان رئيس الجمهورية الفرنسية من 1974 حتى 1981، إلى فرانسوا ميتران، وصولا إلى إيمانويل ماكرون”.

في مقابل تلك المقاربات ينتقد أندريه كومبت-سبونفيل الرؤية السائدة في فرنسا التي تعلي من شأن الصحة على حساب الحرية، ويعبر عن خشيته أن “يحل النظام الصحي محل النظام الأخلاقي”، وأن يغرق الجميع في منطق “الصحيح صحيا” كما غرقنا سابقا في منطق “الصحيح سياسيا”.

وينقل أندريه كومبت-سبونفيل عن الفيلسوف ميشيل دو مونتين قوله إن “الصحة تمثل ميزة، وربما حتى ميزة عليا، ولكنها ليست قيمة يجب أن تنظم مجتمعاتنا وقراراتنا السياسية”.

دعونا نموت كما نشاء
في مقابلة مع صحيفة لوتان البلجيكية بعنوان “دعونا نموت كما نريد”، يناقش كومبت-سبونفيل علاقتنا بالموت، ويدعونا إلى قبول الموت ووضعه في الاعتبار من أجل “العيش بشكل أكثر كثافة” واتباع تعاليم الكاتب الفرنسي المشهور من عصر النهضة ميشيل دو مونتين (توفي 1592) مرة أخرى، قائلا إن “الغرض من الوجود ليس تجنب الألم بل الاستفادة من الحياة والابتهاج بها”.

ويشعر كومت-سبونفيل وهو في العام الـ68 من عمره بأنه خائف على حريته أكثر من خوفه من الموت، وأن أكثر ما يقلقه في هذه الأزمة هو أن الشباب هم “الذين يدفعون أثقل الضرائب على شكل البطالة أو الديون”، معتبرا أن “التضحية بالشباب باسم صحة المسنين انحراف”.

وكان أكبر عالم اجتماع فرنسي ألان تورين قد تحدث لصحيفة إلباييس الإسبانية عن ذكرياته حول الحرب العالمية الثانية، حين كان عمره 14 عاما عام 1940.

وقال تورين إنه بالنسبة لفتى فرنسي في عمره ذلك الوقت، لم يكن هناك ما هو أكثر ابتذالا من الحرب الفرنسية الألمانية، لقد تواجه البلدان مرات عدة. وفي الواقع، أثرت الإدارة العسكرية في فرنسا على فترة شبابه، أما اليوم فيحدث أمر مخالف، إذ يعيش العالم حالة فراغ دون نقاش أو تحرك أو فهم.

ويخلص كاتب المقال إلى أن حالة الانقسام في صفوف المثقفين بشأن مرحلة ما بعد كورونا تعكس إلى حد كبير التباين الحاد في الساحة السياسية والفكرية الفرنسية بين دعاة السيادة الوطنية والمدافعين عن العولمة.

مقالات ذات صلة