ثقافة وفن

مكتبات حوت ملايين الكتاب.. المكتبات في التاريخ الإسلامي

أورد ابن كثير (ت 774هـ) -في ‘البداية والنهاية‘- أن سكرتير السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) الفاضل البيساني (ت 596هـ) “اقتنى… من الكتب نحواً من مئة ألف كتاب، وهذا شيء لم يفرح به أحدٌ من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك ولا الكتّاب” في عهده. مئة ألف كتاب في بيت كاتب السلطان!! ذاك ما يعطيك -أيها القارئ- انطباعا عن سمات الرجال المتنفذين في العصور الزاهرة للحضارة العربية الاسلامية.

عرف المسلمون مبكرا المكتبات وصناعة الكتاب، وزينت المكتبات بيوتهم، وكان أهم ما يميز تلك المكتبات هو تنوع محتوياتها وغناها بمختلف مصادر المعرفة، فقامت نهضتهم منذ الصدر الأول على العلوم والمعارف والفلسفات، ولم ينحصروا في علوم الشريعة فحسب، بدليل ما احتوته خزائن كتبهم الخاصة والعامة من مؤلفات متنوعة، وترجمات دقيقة ومتنوعة لفلسفات ومعارف الحضارات القديمة؛ وهو ما يسعى هذا المقال لكشف جوانب منه والبرهنة عليه.

اهتمام مبكر
كان الأمراء والملوك في الصدر الأوّل يتنافسون في اقتناء الكتب وتأسيس خزائنها، وتقريب العلماء بمختلف فنونهم وتوجهاتهم وتشجيعهم على الكتابة والتأليف ونشر العلم، باعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من تعزيز شرعية الدولة القائمة؛ علاوة على أنّ الحكام -بدءا من الملوك والأمراء الأمويين- أبدوْا رغبة مبكرة في نقل علوم الآخرين بالترجمة، لرفد خزائن كتبهم بتصانيف الثقافات الأخرى.

وثمة نصوص متناثرة -في كتب التراجم والطبقات- تلمّح كثيراً إلى وجود مبكر لـ”خزائن الكتب”؛ ومن تلك النصوص ما ذكره جمال الدين القفطي (ت 646هـ) -في ‘إخبار العلماء بأخبار الحكماء‘- من أن الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) لما ذُكر له “كتاب أهرن القس” في علم الطب أراد الاطلاع عليه فـ”وجده.. في خزائن الكتب، وأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه، واستخار الله في إخراجه للمسلمين ليُنتفع به، فلما تم له في ذلك أربعون يوما أخرجه إلى الناس وبثّه في أيديهم”.

ويذكر ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ) -في ‘جامع بيان العلم وفضله‘- عن الزهري (ت 124هـ) قوله: “أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً”. ونلحظُ هنا أن الخليفة كان مهتما بكتب الطب التي كانت حينها لصيقة بالفلسفة، وفي نفس الوقت كان معتنيا بجمع السنن المرتبطة بالتفقه في الدين، فلم ير تعارضاً بينهما كما تضخم فيما بعدُ.

إلا أنه في عهد الأمويين عموماً ظلت أغلبية الكتب في العلوم النقلية/ الدينية؛ رغم أنه شهد نماذج ريادية لافتة في تأسيس المكتبات الشخصية والعامة بجانب “خزائن الكتب” المملوكة لحكام الدولة. فياقوت الحمويّ (ت 626هـ) يفيدنا -في ‘معجم الأدباء‘- بأن الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (ت 90هـ) كان “علّامة خبيراً بالطبّ والكيمياء، شاعراً…، قيل عنه: قد علِمَ عِلْم العرب والعجم”، ويضيف ابن خلّكان (ت 681هـ) أنه “كان بصيرا بهذين العلمين (الطبّ والكيمياء) متقنا لهما، وله رسائل دالة على معرفته وبراعته…، وله فيها ثلاث رسائل” من تأليفه.

ومع انتقال الدولة إلى العباسيين سنة 132هـ، وتحديدا منذ عهد المنصور (ت 158هـ)؛ كانت البداية الرسمية والمنتظمة لدخول العلوم العقلية والحكمة والفلسفة. يقول حاجي خليفة في ‘كشف الظنون‘: “واعلم أنّ علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأمويين. ولما ظهر آل عباس كان أول من عُني منهم بالعلوم الخليفة الثاني.. المنصور، وكان مع براعته في الفقه مقدما في علم الفلسفة.. محبا لأهلها”.

قفزة تاريخية
ويقدم لنا ابن العبري (ت 685هـ) -في ‘تاريخ مختصر الدول‘ نقلا عن القاضي صاعد الأندلسي (ت 462هـ)- تلخيصا جيدا لتطور اهتمام العباسيين بحيازة الكتب وتحصيل العلوم؛ فيقول إنه “كان أول من عُني منهم بالعلوم الخليفة الثاني.. المنصور، وكان مع براعته في الفقه كلفا في علم الفلسفة.. ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى.. المأمون (ت 218هـ).. تمّم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه منها ما حضرهم، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها، فتُرجمت له على غاية ما أمكن؛ ثم حرّض الناس على قراءتها ورغّبهم في تعليمها”.

أما أن ابن خلدون (ت 808هـ) فيؤكد أن المنصور -وقد كان عالما فقيها- سبق المأمون إلى ذلك “فبعث.. إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطبيعيات، فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها”. وهذا يدل على أنّ حركة الترجمة وتعزيز حضور الفلسفة في الحياة العلمية -بجانب علوم الشرع- كان بعناية الدولة وملوكها العلماء، فلم تُحارَب تلك العلوم على غرار ما حدث في أوروبا في العصر الوسيط.

وقد شجّع المنصور -حسبما يرويه الخطيب البغدادي (ت 463هـ) في ‘تاريخ بغداد‘- العلماءَ على تأليف الكتب الشرعية، كما حصل مع مالك بن أنس (ت 179هـ) حين أشار عليه بجمع ‘الموطأ‘، وكذلك أمر محمد بن إسحق (ت 213هـ وهو صاحب السيرة النبوية) بأن يصنّف له كتاباً يؤرخ للبشرية منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام؛ فذهب فصنّفه ثم “ألقي الكتاب في خزانة أمير المؤمنين”.

وفي هذا العصر تعززت صناعة الكتاب وحركة تكوين المكتبات بظهور ورق “الكاغد” في بغداد وبدأ صناعته بعد نقل تقنيته من سمرقند بآسيا الوسطى، فأمر هارون الرشيد (ت 193هـ) ألا يكتب الناس إلا في الكاغد، لأنّ “الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة فتقبل التزوير، بخلاف الكاغد فإنه متى مُحي منه فسد، وإن كُشط ظهره كشطه”؛ كما يقول القلقشندي (ت 821هـ) في ‘صبح الأعشى‘.
اعلان

واستمرت حركة التأليف والترجمة أيضا في عهد الرشيد الذي نجد اسمه يقترن بأول ذكر صريح لـ”خزانة كتب” مضافة ملكيتها إلى خليفة؛ فالمؤرخ النديم (ت 384هـ) عندما تحدث -في ‘الفهرست‘- عن المترجم الكبير أبي سهل بن نوبخت (ت بعد 170هـ)، قال إنه “كان [يعمل] في خزانة الحكمة لهارون الرشيد”، وبذلك يكون أبو سهل هذا هو أول مدير مكتبة معروف لنا اسمه في التاريخ الإسلامي.

و”خزانة الحكمة” هذه هي أهمّ خزانة للكتب في العصر الأول للإسلام، ولعلها أول “دار كتب” حكومية في الحضارة الإسلامية؛ يقول القلقشندي محددا أهم هذه المكتبات الحكومية: “أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن: إحداها، خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد، فكان فيها من الكتب ما لا يُحصى كثرة ولا يقوم عليه نفاسة…؛ الثانية، خزانة الخلفاء الفاطميين بمصر وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعا للكتب النفيسة من جميع العلوم…؛ الثالثة، خزانة خلفاء بني أمية بالأندلس وكانت من أجلّ خزائن الكتب أيضا”.

تحريق وتغريق
وقام رشيد الدين الوطواط (ت 573هـ) بوقف ألف مجلد على خزائن الكتب، وقال في رسالة له حسبما نقله الحموي في ‘معجم الأدباء‘: “وها أنذا قد أتاني الله من الوجه الحلال قريبا من ألف مجلد من الكتب النفيسة، والدفاتر الفائقة، والنسخ الشريفة، ووقفت كلها على خزائن الكتب المبنية في بلاد الإسلام -عمرها الله- لينتفع المسلمون بها”. وفي ترجمة الخليفة العباسي المستنصر لدى ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- قال إنه “وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة…، ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير”.

وبعضهم بيعت كتبه بعد موته؛ فقد ترجم ابن حجر (ت 852هـ) -في ‘الدرر الكامنة‘- لابن القيم (ت 751هـ) وقال إنه “كان مُغْرًى بجمع الكتب فحصّل منها ما لا يُحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم”. وبعضهم باع كتبه بسبب فقره، وكان هذا أشدّ على نفسه من فقده أحبابه وخِلّانه.

وبعضهم أحرق كتبه بنفسه نزوعا إلى الزهد والعزلة للتعبد أو احتجاجا على إهمال المجتمع إياه وخذلانه له. ولعل من أقدم نماذج الفريق الأول الإمام اللغوي أبو عمرو بن العلاء البصري (ت 158هـ) الذي يقول الجاحظ عنه (ت 255هـ) -في ‘البيان والتبيين‘- إنه “كانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتاً له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرّأ (= تزهّد) فأحرقها كلها؛ فلمّا رجع بعدُ إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه”.

ومن الفريق الثاني الفقيه الشافعي والأديب الكبير أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ) الذي يقول عارضا أسباب حرقه للكتب بعبارة حزينة مؤلمة: “ثمّ اعلم أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته..، على أني جمعت أكثرها للناس…، فما صحّ لي من أحدهم ودٌّ…؛ فها قد أصبحتُ في عشر التسعين وهل لي بعد الكبر والعجز أملٌ في حياة لذيذة؟”. ثم يخبرنا بأن حرق الكتب ظاهرة معروفة بين العلماء، فيقول: “ولي في إحراق الكتب أسوة بأئمة يُقتدى بهم ويؤخذ بهديهم”!!
اعلان

وبعضهم احترقت كتبه كُرهاً؛ فقد قال الذهبيّ (ت 748هـ) -في ‘تذكرة الحفّاظ‘- إنّ قاضي مصر ومُحدّثها عبد الله بن لَهِيعة (ت 174هـ) احترقت كتبه سنة 169 فكثُر الوهم في حديثه. وفي ترجمة الإمام الخِرَقي الحنبلي (ت 334هـ) من ‘البداية والنهاية‘ لابن كثير: “وكان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعبّاد..، خرج من بغداد مهاجرًا لما كثر بها الشر والسبُّ للصحابة، وأودع كتبه في بغداد فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب، وعُدمت مصنفاته”.

وجاء في ‘معجم الأدباء‘ للحموي ضمن ترجمة أبي عليّ الفارسيّ (ت 377هـ): “قال عثمان بن جِنّي (ت 392هـ): حدثني شيخنا أبو عليّ أنه وقع حريق بمدينة السلام (= بغداد) فذهب به جميع علم البصريين…، وسألته عن سلوته وعزائه، فنظر إليّ عاجباً ثم قال: بقيت شهرين لا أكلّم أحداً حُزناً وهمّا”!!

وذكر المقريزي (ت 845هـ) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنه في سنة 691هـ وقع حريق في خزانة الكتب بقلعة الجبل في القاهرة “فأتلف بها من الكتب -في الفقه والحديث والتاريخ وعامة العلوم- شيء كثير جدًّا كان من ذخائر الملوك، فانتهبها الغلمان وبيعت أوراقًا محرقة، ظفر الناس منها بنفائسَ غريبةٍ ما بين ملاحمَ وغيرها، وأخذوها بأبخس الأثمان”.

وبعضهم غرقت كتبه؛ قال ابن الجوزي (ت 597هـ) في ‘المنتظم‘: “لما وقع الغرق سنة أربع وخمسين وخمسمئة غرقتْ كتُبي، وسَلِم لي مجلَّد فيه ورقتان بخط الإمام أحمد” بن حنبل (ت 241هـ). ومن طرائف إتلاف الكتب بالغرق ما أورده ابن أبي أصيبعة من أن الأمير أبا الوفاء المُبشِّر بن فاتك (ت 500هـ) كان “محبا لتحصيل العلوم وكانت له خزائن كتب، فكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها وليس له دأب إلا المطالعة والكتابة، ويرى أن ذلك أهم ما عنده. وكانت له زوجة كبيرة القدر أيضا من أرباب الدولة، فلما توفي رحمه الله نهضت هي وجوارٍ معها إلى خزائن كتبه -وفي قلبها [غِيرة] من الكتب وأنه كان يشتغل بها عنها- فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها، ثم شيلت الكتب بعد ذلك من الماء وقد غرق أكثرها”.

مقالات ذات صلة