بريطانيا برهم صالح.. وحسام الحفيد
فـــؤاد مطـــر
فاجأنا الرئيس العراقي برهم صالح ونحن نتأمل يوم الأحد 16 ديسمبر (كانون الأول) 2018 في جديد أزمة تأليف حكومة الرئيس المكلَّف عادل عبد المهدي، توأم أزمة تأليف حكومة الرئيس المكلَّف سعد الدين الحريري، وكيف أن المؤزّم واحد من حيث الأسلوب والنيات – لا سامحه الله على فِعْله المبغوض هذا – بأنه (أي برهم صالح) وعلى نحو البيان الذي عمّمه المتحدث باسم الرئاسة «تخلَّى بصورة قانونية» عن الجنسية البريطانية التزاماً منه بالمادة الثامنة عشرة من قانون الجنسية في الدستور العراقي التي تنص على عدم تمتُّع الأشخاص بجنسية أُخرى مكتسَبة في حال تم انتخابهم أو تكليفهم بمهام دستورية في جمهورية العراق.
واستناداً إلى مادة أهم في الدستور (المادة التاسعة) فإن برهم صالح كان عليه قبْل اختياره من دون شخصيات كردية أُخرى رئيساً للعراق أن يتخلى عن الجنسية المكتسَبة. وحيث إننا في غالبية الأنظمة العربية نطوِّع النصوص الدستورية بما يناسب الظروف والأشخاص، فإن أمر التخلي المسبق الذي لم يتم لأن البرلمان لم يعدِّل ما من شأنه عدم تجاوز النص، اعتُبر من تحصيل الحاصل.
الرئيس برهم ليس الوحيد الذي يحمل الجنسية البريطانية، ذلك أن سلَفه الدكتور فؤاد معصوم اكتسب هذه الجنسية، وبات كل منهما والمئات من العراقيين الذين يمارسون مناصب في الدولة يحملون الجواز البريطاني الأكثر احتراماً بين العشرات من جوازات السفر العالمية. وأفترض أن هؤلاء جميعاً يتمنون لو أن الدستور لا يتضمن تلك المادة وتبقى الجنسية البريطانية المكتسَبة ومنها جواز السفر في الجيب لا يضطر إلى تسليمها إلى المرجع الرسمي البريطاني مرفقة بالشكر على ما حققتْه هذه الجنسية وجوازها التاجي من طمأنينة وحرية حركة وعوائد ينالها البريطاني ما دام أدى اليمين ونال حق المواطَنة بصرف النظر عما إذا كان كردياً أو عربياً أو آشورياً أو مسلماً أو إيزيدياً أو هندوسياً أو مسيحياً أو أفريقياً أو آسيوياً أو بوذياً. ففي بريطانيا تسقط هذه الحواجز ويتساوى الجميع في مسألة المواطَنة ما دام مَن يكتسب الجنسية يلتزم قوانين الأمن والضريبة. بل إن أمامه فرصة أن يصبح رئيس بلدية أو نائباً في مجلس العموم أو حتى عضواً في الحكومة.
المهم أنه من أجل عيون الرئاسة تخلى الرئيس برهم عن الجنسية التي سبق أن نالها كمواطن وجد في الوطن الثاني ما يعوِّضه قساوة العيش والعمل السياسي في الوطن الأم.
وعندما يستوقفني ما ارتأى الرئيس برهم الإقدام عليه، فلأنني من بين مئات الألوف من البشر الذين حققت لهم الجنسية المكتسَبة من حكومة صاحبة الجلالة إليزابيث الثانية الأمان والطمأنينة، وجواز السفر البريطاني الذي لمجرد تقديمه لمسؤول الجوازات في هذا المطار أو ذاك فإنه يلقى تحية احترام. وعلى مدى ثلاثة عقود من العيش في لندن كمواطن بوثيقة من وزارة الداخلية تحمل عبارة ترجمتها بالعربية «إن الشخص الحامل الاسم أدناه بات مواطناً بريطانياً بدءاً من تاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 1985»، لم نشعر أننا غرباء، وتصبح مقولة الوطن الثاني حقيقة ثابتة. وحتى عندما أوجبت ظروف العمل ناشراً وصحافياً وكاتباً أن نخاطب برسالة رئيسة الحكومة مارغريت ثاتشر فإن مكتبها يرد على الرسالة بكل لباقة. وفي كل موسم انتخابي أو بلدي كانت تصل إلينا رسالة تطلب الرأي والاقتراح، وكثيراً ما كان موضع الأخذ به. كما أننا عندما كنا نناقش مسؤولين أو زملاء بريطانيين في الذي تسبَّب به وعد بلفور في أحوالنا فإننا كنا نرى من يشاركنا الرأي بأنه قد آن الأوان لكي يعالج جيل الأحفاد بالرويّة والحكمة ما فعله جيل الأجداد خارج إطار الحق والعدل. ولَكَم سجَّلْنا أمام كثيرين أفكاراً تتلخص في أنه لو كان بلفور بنوعية كارادون مبتكر صيغة القرار الأممي 242 عام 1967 لكانت ربما الحال على نحو أفضل بالنسبة إلى الصراع العربي – الإسرائيلي. وقوبلت الأفكار بالإصغاء.
تلك حكاية الرئيس الذي في تقديرنا كان يتمنى لو لم يخطف مجد الرئاسة منه جنسيته المكتسَبة، وكيف أنها كانت في بعض سنواتها من عناصر صموده كصاحب مشروع سياسي انتهى به رئيساً للعراق.
وأما حكاية حسام سعد الدين الحريري فإن فرادتها في أن نكهة عسكرية أخذت طريقها إلى الحريرية السياسية الإصلاحية، وتتمثل في أن حفيد الرئيس الشهيد رفيق الحريري انضم إلى كوكبة من الشبان العرب.
يمكن اعتبار حسام في نظر بني قوم جده الرئيس الراحل ووالده الرئيس سعد، شيخاً هو الآخر. فاللبنانيون من محازبين وسياسيين ومستقبليين يقرنون صفة الشيخ التبجيلية عندما يلفظون اسم الجد الراحل الرئيس رفيق واسم الابن الوارث الزعامة الحريرية سعد الدين وشقيقه بهاء رجل الأعمال.
المهم أن حسام الحريري الذي يمكن أن ينتهي بعد سنوات «جنرال الحريرية»، هو أول لبناني تتسنى له فرصة الانتساب المبكر إلى كلية «ساند هيرست» أعرق الكليات العسكرية في بريطانيا وعلى مستوى دول العالم والتي هي عسكرياً بأهمية جامعتي «كمبريدج» و«أكسفورد» علومياً وفكرياً وقانونياً، مع فارق أن خشونة دورة الدراسة ذات الأربعة والأربعين أسبوعاً ومقابل رسم يصل إلى ربع مليون دولار، تجعل من طلاب نعيم العيش رجالاً يعرفون أهمية شظف العيش، ذلك أنْ لا خدم في «ساندهيرست» ولا معاملة خاصة، كلٌّ يغسل ثيابه ويكويها، وكلٌّ يلمِّع جزمته، وكلٌّ يقول «yes sir» للمدرب المدرِّس، وكلٌّ يجازى على تصرُّف غير مستحَب أو مخالفة لطقوس الكلية. و«ساندهيرست» في أجوائها تختلف عن «كلية فيكتوريا» التي أنشأها الحاكم البريطاني لمصر عام 1902 في الإسكندرية، أي بعد مائة عام من تحويل الثكنة العسكرية البريطانية (عام 1802) إلى كلية «ساند هيرست» التي تصقل الذين يحتاجون إلى صقل المتنعمين من أبناء وأحفاد بعض أهل الحكم في بريطانيا (ولي العهد تشارلز وابناه ويليام وهاري على سبيل المثال) وفي دول عربية وآسيوية ترتبط بعلاقات تاريخية مع بريطانيا. كما أن كلية «ساندهيرست» تختلف عن مدرسة أُخرى أنشأتها بريطانيا في بلدة «شملان» المصيف المطل على العاصمة بيروت وكانت من أجل تدريس الدبلوماسيين والأمنيين البريطانيين اللغة العربية وهذا ييسِّر لهم أمر التعاطي مع حكومات المنطقة (بسبب الحرب اللبنانية انتقلت المدرسة إلى الأردن). وإذا كانت «ساند هيرست» هي الطبعة العسكرية للنظرة البعيدة المدى لبريطانيا، فإن «كلية فيكتوريا» كانت الطبعة المدنية التي تنافس الجامعة الأميركية في بيروت. ولقد استقطبت «كلية فيكتوريا» كثيرين من أبناء الطبقة البرجوازية العربية، وبات بعض طلابها من رموز العمل السياسي والفكري والفني السينمائي. وهي في ذلك باتت برسم المقتدرين مالياً والمرحَّب بهم سياسياً. واللافت أن معظم أبناء وبنات الأسرة الأردنية الهاشمية وبعض العائلات ذات الشأن السياسي كانوا من طلاب «كلية فيكتوريا». كما كان منها الفنان عمر الشريف والمفكر إدوارد سعيد. أما الأبرز بين طلابها قبل الانتقال إلى جامعة أوكسفورد فكان الزعيم السياسي والديني السوداني الصادق المهدي العائد حديثاً من اغتراب سياسي اضطراري جديد نأمل له أن يكون منقذاً مع «الإنقاذيين».
في حال راق للحفيد حسام الحريري أمر التخرج في «ساند هيرست»، وأتبعه بدراسات أكاديمية عسكرية فسيكون قولنا بأنه «جنرال الحريرية» ذات سنةٍ في محله. وإذا كان لن يَنْحَى هذا الخيار فإنه سيكون إذا هو بات أول سلالة الأحفاد الحريريين في العمل السياسي، أكثر خبرة في التعامل مع جنرالات الزمن اللبناني الآتي، وذلك على أساس أن نسبة الجنرالات الرؤساء في لبنان تقترب من الرؤساء المدنيين. هنا تستوقفنا انحناءة حسام الحريري وإلى جانبه والده يوم الأحد 11 ديسمبر 2018، أمام ضريح الرئيس الشهيد يكتب في سجل الزوار عبارة «الله يرحمك يا حبيب قلبي»، ثم يقول لمَن حوله: «للمرة الأولى منذ 14 عاماً لا يمكنني حقيقةً أن أتذكر الكثير منه ولكنها كانت بالفعل تجربة عاطفية جداً. لقد تسنت لي الفرصة أن أزور جدي للمرة الأُولى منذ رحيله. إن الكلمات لا يمكنها أن تصف ما شعرتُ أو ما رأيتُ، ولكن ما أعرفه تماماً أنني أحبه وأفتقده وأتمنى دوماً أن أجعله فخوراً…».
عندما عزَّينا الرئيس رفيق الحريري في دارته في بيروت بوفاة ابنه حسام الذي كان يتابع دراسته في الولايات المتحدة في حادث سير، قال لنا: «ليس هنالك حزن بمثل حزن فقدان الولد». بعدما بات في الأسرة حسام الحفيد رحل الجد المحزون الذي كان يتمنى أن يكون حاضراً حفل تخرُّج رمز النكهة العسكرية في الأسرة الحريرية وحامل اسم الابن الفقيد. الرحمة للجد والتمنيات الطيبة للحفيد الذي كان تخرُّجه مرتدياً بدلة «ضابط ساند هيرست» بمثابة تحية وجدانية لجده وملامح فأل طيِّب للوالد الرئيس الذي تزامن انتقاله من التكليف إلى التأليف بعد فرحة التخرج في لندن وسعي دؤوب من أجْل الاستثمار والتنمية في لبنان. أعانه الله على مواجهة ما بعد التأليف.
“الشرق الاوسط”