ما بعد يوم النصر
يحتفل العراقيون في العاشر من شهر كانون الاول بوصفه يوماً للنصر على رأس رمح الارهاب والهمجية والاجرام (داعش). يوما لتحرير الاراضي العراقية من براثن تلك العصابات التي مثلت ابشع القيم الظلامية ومارست افظع الانتهاكات بحق كرامة البشر وحقوقهم. ذلك الانتصار الذي تحقق عبر تضحيات مريرة وهائلة قدمها العراقيون، وفي المقدمة منهم المنتسبين للقوات المسلحة والامنية، والمتطوعين من فصائل الحشد الشعبي وقوات البيشمركة والفصائل الشعبية والوطنية الاخرى، وبدعم من قوات التحالف الدولي وباقي الدول القريبة منها والبعيدة.
هذه المأثرة العراقية (يوم النصر) كانت تستحق تجليات وسياسات اخرى، غير التي نشاهدها اليوم على شتى الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فما يجري حالياً من عبث ومواقف بعيدة عن روح المسؤولية والشجاعة والايثار، في مجال السياسة والانتخابات وتشكيل الحكومة وغير ذلك الكثير؛ يتنافر وروح النصر ومستلزماته، والتي تتعرض الى خطر تحولها الى حانوت للاستثمار من قبل طيف واسع من المتطفلين على العمل السياسي في المشهد الراهن.
ان معارك الانتصار على داعش تختلف تماما عن باقي المعارك والحروب التي جر اليها العراقيين بفعل السياسات المغامرة والهوجاء للانظمة السابقة. وهي لا تحتاج الى ما يذكرنا باحتفالات النظام المباد بقادسياته وخزعبلاته وكوارثه، والى العودة الى اناشيد “فوت بيه وعل الزلم خليها” وغير ذلك من سكراب التراتيل مدفوعة الثمن.
نحن بحاجة الى انعطافة شجاعة ومسؤولة تنسجم وما اجترحته قوافل كبيرة من العراقيين في تلك المأثرة الوطنية. نحتاج الى تحولات جذرية، تجفف كل ما له علاقة بالمناهج والعقائد الداعشية من شتى الرطانات والالوان، والى صولات شجاعة في الميادين الاقتصادية والادارية والتربوية، لا أن نختزل يوم النصر هذا بمجموعة من الاحتفالات الرسمية، والتي تطمئن قوى الجريمة والفساد على ديمومة بقاءها وتمددها على تضاريس اقطاعاتها السياسية والمالية.
من دون ادنى شك ستتعرض هذه الصفحات المشرقة من تضحيات العراقيين في سبيل حريتهم وكرامتهم ومستقبل اجيالهم لا الى الخطر وحسب، بل الى التشويه والمسخ؛ ان استمر التعاطي معها بوصفها ملكية خاصة لفئة ما واشخاص محددين، لا جزء وامتداد لتاريخ طويل من البطولات والمآثر يجترحه سكان هذا الوطن القديم عند مفترق الطرق ووفي مواجهة تحديات الوجود والمصير. ان صيانة ومواصلة ذلك الانتصار، ينتقل اليوم الى الجبهات الاخرى البعيدة عن العسكرة والحروب، الى حيث اعادة اعمار وبناء ما خربه القتلة والارهابيين والمجرمين. مثل هذه الانعطافات والانتقالات خاضتها وعرفتها دول ومجتمعات عديدة، تجرعت مثلنا مرارة ووجع الحروب والنزاعات، عندما قررت وضع التشريعات والسياسات الكابحة لكل نزعات الكراهة والعدوان، لتغذ السير صوب الحقول التي أكرمت سلالات بني آدم، اي انتاج الخيرات المادية والقيمية، والتي لن تتيح لطفيلات وعصابات من نسيج داعش والمتاجرون بالدين ودكاكين الوصاية على عيال الله، بالعودة وسلب قدرتها في الالتحاق بركب الامم التي اكرمتها الأقدار بالامن والاستقرار والازدهار.
بعد مرور عام على (يوم النصر) تشير المعطيات جميعها على ان آخر ما تفكر فيه هذه الطبقة السياسية (من الفاو لزاخو) هو التواصل مع قيم ومآثر تلك الملحمة الوطنية، وما يجري في المناطق التي حررتها تلك التضحيات من داعش، وعلى رأسها الموصل وضواحيها؛ لهو أكبر مثال على نوع اولويات ومعايير هذه الطبقة السياسية المتنافر ومغزى هذه المناسبة الوطنية.
جمال جصاني
“الصباح الجديد”